بمناسبة اشتراك الرئيس الروسى فى افتتاح دورة الألعاب الأوليمبية الشتوية فى بيجين ولقائه بالرئيس الصينى، صدر عن الصين وروسيا بيان مشترك عظيم الأهمية لا يعبر عن نشأة تحالف رسمى بينهما ولكنه يكشف عن مواقف الدولتين اللتين تناصبهما الولايات المتحدة الخصومة من العلاقات الدولية والعالمية الحالية. ويزيد من أهمية البيان تزامنه مع أزمة أوكرانيا. استعرض عدد من الزملاء الأجلاء مضمون البيان فى مقالاتهم، ونضيف هنا إلى جهدهم المشكور.
أول ما يلفت النظر وصف الصين وروسيا لنفسيهما بالقوتين العالميتين. ليس هذا غريبا على روسيا ولكنه كذلك على الصين التى كانت إلى وقت قريب مضى تصف نفسها بالدولة النامية التى ما زال أمامها شوط لتصبح من الدول المصنعة المتقدمة. أدركت الصين، على ما يبدو، أنه لم يعد ممكنا التظاهر بأنها ما زالت فى طور النمو. بل وسمحت الصين لنفسها بأن تتداخل فى شئون القارة الأوروبية بتأييدها للاقتراح الروسى بإنشاء ضمانات أمنية طويلة الأجل وملزمة قانونا فى أوروبا. البيان يتناول مسائل تتعلق بالعلاقات بين الدولتين، وبالعلاقات مع الولايات المتحدة وحلفائها فى أوروبا وفى آسيا والمحيط الهادى، وبمبادرات كل منهما فى النظام الدولى على شاكلة مبادرة الحزام والطريق الصينية. غير أن ما يهمنا فى هذا المقال هو ما جاء فى البيان عن المفاهيم الضابطة للنظام الدولى والمسائل المرتبطة بالعولمة التى تعترض كل أطرافه بلا تمييز بين المتقدم والنامى، الواقع فى الشمال أو الجنوب، لأن المواقف من هذه المفاهيم والمسائل ستشترك فى تشكيل النظام الدولى الجديد المشار إليه فى هذه المساحة من «الشروق» منذ أسبوعين مضيا. هذه المواقف ينبغى مناقشتها ولكن الكثير منها لا يعدم من يتفهمها سواء فى الولايات المتحدة وبين حلفائها أو فى دول الجنوب.
• • •
أولا، من بين المفاهيم نختار أربعة هى الأمن، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، والتعاون الدولى. بشأن الأمن، الطرفان الصينى والروسى متفقان على أنه لا ينبغى لأية دولة أن تؤكد أمنها على حساب أمن الدول الأخرى. هذا الاتفاق ينسحب على موقف روسيا من أزمة أوكرانيا التى يريد فريق فيها تأكيد أمنها بالانضمام إلى الحلف الأطلسى وهو ما تعتبره روسيا تهديدا لأمنها. الموقف المشترك للصين وروسيا الرافض لتوسع الحلف الأطلسى له أصداء فى أوروبا مشفوعة بآراء لأساتذة منظرين أمريكيين، وهو ينعكس فى الموقف المعتدل للدولتين الكبيرتين فى أوروبا الغربية، ألمانيا وفرنسا، من الأزمة الأوكرانية قياسا بالولايات المتحدة وبعض حليفاتها فى شرق أوروبا وبحر البلطيق. فى حالة ألمانيا بالذات يثور التساؤل عن المدى الذى يمكن أن تذهب إليه فى اختلاف المواقف عن الولايات المتحدة. ولكن هذا الاختلاف موجود وهو يمكن أن يؤثر على موقف الولايات المتحدة نفسها خاصة وأنه لا أحد فى أوروبا يرغب فى الدخول فى حرب بسبب أوكرانيا أو غيرها. الولايات المتحدة نفسها، وعلى الرغم من صفارات الإنذار التى تطلقها وتهديداتها، أعلنت أنها ستقابل العمل العسكرى الروسى، الذى تنبأ به صباحا ومساءً، بفرض العقوبات، الصارمة لا جدال فى ذلك، ولكنها عقوبات فقط على روسيا. بعبارة أخرى، استبعدت الولايات المتحدة الرد العسكرى على أى عمل عسكرى تقوم به روسيا. معلقون غربيون اعتبروا أن «تهديد» روسيا لأوكرانيا قد أعاد الحيوية إلى الحلف الأطلسى، ولكنه يمكن الرد بأن الأزمة كشفت أيضا عن تباين فى المواقف بين الحلفاء الأطلسيين يمكن أن يؤدى إلى مآل للأزمة الأوكرانية يعدِّل قانونيا أو فعليا قواعد الأمن فى أوروبا، وبالتالى فى النظام الدولى.
• • •
نتناول فى تحليلنا مفهومى الديمقراطية وحقوق الإنسان معا، وقد خصصت لهما الدولتان حوالى الصفحتين من صفحات البيان الست عشرة. مجمل قول الدولتين فى هذا الصدد أن الديمقراطية مفهوم إنسانى ليس لأى طرف فى المجتمع الدولى أن يفرض فهمه له على الأطراف الأخرى أو أن يحكم فيما إذا كانت هذه الأطراف تعتمد الديمقراطية نظاما لها أو لا. بالنسبة للدولتين لا يوجد نموذج واحد للديمقراطية يناسب كل البلدان. نستعير القول الشائع بالإنجليزية وهو أن هذا الموقف بمثابة الموسيقى التى تشنِّف الآذان فى كثير من الدول فى جنوب العالم وشماله، بما فى ذلك فى دول أعضاء فى الحلف الأطلسى كالمجر. نكرر ما ورد هنا منذ أسبوعين عن زيارة رئيس وزراء المجر روسيا فى أول شهر فبراير الجارى وعقده صفقات غاز وتعاون نووى مع روسيا فى عز المواجهة بينه وبين الولايات المتحدة بشأن أوكرانيا. نفس رئيس الوزراء المجرى تغيب منذ يومين عن اجتماع لقادة الاتحاد الأوروبى لمناقشة الأزمة الأوكرانية وفضّل عليه استقبال رئيس البرازيل المشترك معه فى معاداة الليبرالية والتعددية وإن كان لا فكاك له منهما. وليس رئيس وزراء المجر وحده فى فهم خصوصية الديمقراطية فى كل دولة وشرعية ابتعادها عن النموذج الأمريكى أو الغرب الأوروبى. من قبل الأزمة الأوكرانية وبعد أن تهدأ، النظام الحاكم فى بولندا، العضو فى الحلف الأطلسى وفى الاتحاد الأوروبى، يشاطر المجر، والصين وروسيا، فهمها للديمقراطية. المواقف من الديمقراطية ستشكل النظام الدولى. غير أن الصين وروسيا لم تخدما قضيتهما عندما أوردتا فى البيان أن لكليهما تقاليد ديمقراطية عريقة تستند إلى آلاف السنين من التأييد الشعبى الواسع واحترام احتياجات المواطنين ومصالحهم. لقد قامت الثورتان الشيوعيتان فى روسيا والصين لأنه لم يكن فيهما لا ديمقراطية سياسية ولا اقتصادية ولا اجتماعية. لم تلغ العبودية فى روسيا إلا فى الستينيات من القرن التاسع عشر. كان الأحرى بالدولتين ألا يقوضا من مصداقية البيان وألا يكشفا عن الضعف فى موقفهما من الديمقراطية.
موقف الدولتين من حقوق الإنسان شبيه بموقفهما من الديمقراطية. بالنسبة إليهما لا ينبغى استخدام الدعوة لحقوق الإنسان لممارسة الضغوط على الدول الأخرى كما أنهما تعارضان التدخل فى الشئون الداخلية للدول ذات السيادة بحجة حماية حقوق الإنسان. وإن كانت الدولتان تشيدان بالمبادئ النبيلة الواردة فى ميثاق الأمم المتحدة وفى الإعلان العالمى لحقوق الإنسان، فهما تعتبران أن الطبيعة العالمية لحقوق الإنسان ينبغى أن ينظر إليها من خلال «الوضع الحقيقى لكل بلد على حدة، كما ينبغى حماية حقوق الإنسان بما يتفق والوضع المحدد لكل بلد واحتياجات سكانها». مرة أخرى فى هذا التصريح ما يشنف آذان دول كثيرة منها، مرةً أخرى، أعضاء فى التحالف الأطلسى والاتحاد الأوروبى. نسارع بالقول بأن مواقف من يرفعون الشعار التعددى والليبرالى لحقوق الإنسان ليسوا صادقين فى أحيان عديدة، داخليا وخارجيا، فيما يزعمون. عدم الصدق هذا، فى حد ذاته، من شأنه أن يبرر إعادة النظر فى فهم حقوق الإنسان فى النظام الدولى.
• • •
بشأن التعاون الدولى متعدد الأطراف، يلفت النظر تكرر الإشارة إلى الأمم المتحدة والدفاع عن سلطتها فى العلاقات الدولية، وعن دورها فى هيكل النظام الدولى. تدعو الدولتان إلى تعدد الأقطاب، وإلى أن تلعب الأمم المتحدة ومجلس الأمن دورا مركزيا وتنسيقيا، وإلى مزيد من الديمقراطية فى العلاقات الدولية، وإن امتنعتا عن ذكر إصلاح مجلس الأمن وجعله أكثر تمثيلا للمجتمع الدولى. ويسترعى الانتباه بشكل خاص إشارة الدولتين فى البيان إلى تمسكهما بنتائج الحرب العالمية الثانية وبالنظام الدولى لما بعد هذه الحرب. إذا ما وضعنا هذه الإشارة الأخيرة وما يرد عن مجرد الدور التنسيقى للأمم المتحدة، مع ما سبقت الإشارة إليه عن السيادة وعن عدم التدخل فى الشئون الداخلية للدول بحجة حماية حقوق الإنسان، نخلص إلى أن الدولتين تعترضان على عولمة مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان واختصاص الأمم المتحدة بها، ولكنهما تتفقان مع خصومهما الأطلسيين، ومع الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا تحديدا، بشأن المزايا التى اختصهم بها نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية. هذه مقاومة لتعديل بعض خصائص النظام الدولى.
• • •
ثانيا، عددت الصين وروسيا المسائل التى تعترض النظام الدولى كله ننتقى منها التغير المناخى، والتنوع البيولوجى، والذكاء الاصطناعى، وأمن تكنولوجيات الاتصال والمعلومات، وحوكمة الإنترنت. هذه مسائل مرتبطة بالعولمة لا يمكن التصدى لها بكفاءة وفاعلية إلا بشكل عالمى يستدعى تكاملا فى السياسات وليس مجرد التنسيق بينها. قبول عالمية التعامل مع هذه المسائل من عدمه سيسهم فى تشكيل هياكل النظام الدولى المتجدد ليرتفع به إلى مرتبة النظام العالمى إن أمكن. بشأن التغير المناخى بشكل خاص، وكذلك فيما يتعلق بتمويل التنمية، نجد أن الصين وروسيا تناديان الدول المصنعة المتقدمة بالوفاء بالتزاماتها فى تمويل التنمية فى البلدان النامية وكذلك بالتزاماتها بمساعدة الدول النامية بمائة مليار دولار سنويا لمواجهة التغيرات المناخية. هذه المواقف إلى جانب الدول النامية تضاف إلى تدخلات ملموسة من جانب الصين تتمثل فى مبادرة الحزام والطريق واقتراحها بمبادرة عالمية من أجل التنمية. صحيح أن الاتحاد السوفيتى والصين كانا يناصران الدول النامية فى الستينيات والسبعينيات من القرن الماضى، ولكن ثمة فوارق بين تلك الحقبة والفترة الحالية. كانت إمكانيات الصين محدودة منذ خمسين سنة ولكنها تستطيع الآن أن تردف إلى مساندتها المعنوية مساعداتها المادية المعتبرة للدول النامية، فضلا عن أن نجاحها الاقتصادى والتكنولوجى مغرٍ لهذه الأخيرة. الأمر يختلف بالنسبة لروسيا. كان لدى الاتحاد السوفيتى نموذج، اتفقت معه أم لم تتفق، أما الآن فنقطة الضعف لدى روسيا هى أنها تفتقد النموذج، سواء السياسى أو الاقتصادى.
يبقى أن نرى كيف ستروج الصين وروسيا لمواقفهما وكيف ستستقبلها الأطراف الأخرى فى النظام الدولى، الأوروأطلسية منها وتلك الواقعة فى جنوب العالم.
أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة
الاقتباس:
ما يهمنا فى هذا المقال هو ما جاء فى البيان عن المفاهيم الضابطة للنظام الدولى والمسائل المرتبطة بالعولمة التى تعترض كل أطرافه بلا تمييز بين المتقدم والنامى، الواقع فى الشمال أو الجنوب، لأن المواقف من هذه المفاهيم والمسائل ستشترك فى تشكيل النظام الدولى.