فى الأسبوع الأول من هذا الشهر، أثارت وفاة هوجو تشافيز، رئيس جمهورية فنزويلا، من ردود الأفعال ومن اهتمام وسائط الاتصال المرئى والمسموع والمكتوب فى العالم ما يفوق كثيرا وزن بلاده فى النظام الدولى، حتى وإن كانت بلادا واسعة الثراء بالنفط، إنتاجا واحتياطا. أما سبب ردود الأفعال والاهتمام فهو أن تشافيز سلك طريق مواجهة مع الولايات المتحدة، القوة المهيمنة فى النظام الدولى وفى أمريكا اللاتينية خصوصا، ومع القوى المهيمنة فى النظام الاقتصادى والاجتماعى الداخلى، وهو اعتبر أن الهيمنة الخارجية والداخلية مرتبطتان وأن مواجهتهما معا واجبة. ولقد أثبتت الولايات المتحدة صحة ظنه عندما أيدت انقلابا ضده فى سنة 2002 نجح فى إبعاده عن الحكم لفترة 48 ساعة فقط عاد بعدها للحكم، وسط فرحة عارمة من جماهير الشعب البسيطة. هذه الجماهير هى نفسها التى عبَرت عن حزن عميق على وفاته وعن حبها له، فما هى أسباب هذه المشاعر الدفاقة؟
•••
لم يصل تشافيز إلى السلطة بانقلاب، رغم أنه حاول فى بداية التسعينات وفشل فيه، أو بثورة شعبية، ومع ذلك فقد قام بثورة حقيقية، البينة عليها التحول الجذرى فى دور الدولة نحو خدمة الجماهير البسيطة والنتائج التى حققها. لقد كرَس تشافيز عمله السياسى لإقامة عالم أكثر عدالة، ولمساندة البسطاء ولمكافحة الفقر والعوز الذى عانته الجماهير بالرغم من ثراء بلدها. أعلن تشافيز أنه يحمل لواء «اشتراكية القرن الحادى والعشرين»، وعلى عكس سابقيه، خصص الموارد الهائلة لفنزويلا لتحقيق العدالة بين الناس حتى إن زهاء 45 فى المائة من الإنفاق العام ذهب لتمويل السياسات الاجتماعية. زاد عدد المعلمين إلى خمسة أمثال ما كانوا عليه فى ظل رئاسته، وعالج الآلاف من الأطباء الكوبيين سكان الأحياء والقرى الفقيرة مجانا، وخضعت أسعار المواد الاستهلاكية الأساسية للتسعير الإجبارى، ووفر القطاع العام أعدادا هائلة من فرص العمل. لذلك، أحرزت المؤشرات الاجتماعية تقدما هائلا، وأصبحت فنزويلا أقل بلدان أمريكا اللاتينية تفاوتا فى الدخول. انخفض معدل الفقر من 49 فى المائة من السكان فى سنة 1998، سنة وصول تشافيز إلى الحكم، إلى 27 فى المائة عند وفاته، وانخفض معدل وفيات الأطفال إلى ما يقرب من النصف، من 20.3 فى الألف سنة 1998 إلى 12.9 فى الألف فى الوقت الحالى. شعر الفقراء أنهم مواطنون كاملو المواطنة، وكانت النتيجة أن الثقة فى الديمقراطية فى فنزويلا فاقت الثقة فيها فى غيرها من بلدان القارة. فى علاقاته الخارجية، كان تشافيز عدوا مطلقا للإمبريالية الأمريكية، وإن استمر فى بيع النفط لها، وألزم الشركات الأجنبية على إعادة التفاوض بشأن عقود النفط مع حكومته، ووطد علاقاته بكوبا، ودعا إلى تجمع لدول أمريكا اللاتينية بمنأى عن الولايات المتحدة وكندا، وأسس مع كوبا وبوليفيا وإكوادور وأربع جزر كاريبية صغيرة تحالفا ثوريا هو التحالف البوليفارى من أجل الأمريكتين، نسبة إلى سيمون بوليفار، أهم أبطال تحرير أمريكا اللاتينية، ذلك نفسه الذى اشتهر فى القاهرة فى العام الماضى والحالى، من جراء المعارك التى وقعت فى الميدان المسمى باسمه والذى ينتصب فيه تمثاله النصفى. انتخب أوجو تشافيز لرئاسة فنزويلا فى 1998، و2000، و2006، و2012 بأغلبيات تتراوح بين 55 فى المائة و63 فى المائة. وعندما حاول خصومه إزاحته عن رئاسة الجمهورية، وهو ما يسمح به الدستور الذى رعى تشافيز نفسه صياغته واعتماده فى 1999، تغلب عليهم، وصوَت 58 فى المائة من الفنزويليين لصالح بقائه فى السلطة. لاحظ انخفاض نسب الأصوات التى كان تشافيز يحصل عليه عن الأغلبيات الكاسحة التى عرفها عالمنا العربى لعقود طويلة. خسر تشافيز فى عملية تصويت واحدة عندما رفض المواطنون فى سنة 2007 تعديلا دستوريا ينص، ضمن ما ينص عليه، على رفع كل قيد على فترات شغل منصب رئيس الجمهورية. قبل تشافيز نتيجة الاستفتاء، لكنه عاد فاستفتى الشعب على مجرد رفع هذا القيد بعد ثلاثة أشهر فنال ما أراده.
•••
استغل تشافيز جاذبيته السياسية وطلاقته ليشغل المسرح السياسى بشكل مستمر، فهو تارة مقدم برنامج تليفزيونى أسبوعى وتارة يلقى خطبا بالساعات يتحدث فيها، فى السياسة وفى غيرها. يأخذ خصوم تشافيز عليه أنه قسم الشعب الفنزويلى وغذَى الصراع الطبقى، ويدللون على ذلك بالرشاشات التى اشتراها وسلَح الشعب بها. وثمة أشياء أخرى يمكن أن تحسب على تشافيز. استمر الاعتماد المطلق لفنزويلا على إيرادات النفط التى تشكل 96 فى المائة من حصيلة النقد الأجنبى، ولأن إيرادات النفط لم تستثمر فى القطاع النفطى، فلقد انخفض الإنتاج منه من 3.1 مليون برميل يوميا ينتجهم 23.000 عامل فى الشركة الوطنية إلى 2.4 برميل يوميا ينتجهم 120.000 عامل. هل تؤثر إعادة توزيع الدخل على الإنتاجية، وهل هذا التأثير السلبى حتمى، على الأقل فى فترة أولى؟ سؤال يحتاج إلى إجابة وإلى حلول من جانب أنصار العدالة بين البشر. أما الدين العام فلقد وصل إلى أربعة أمثال ما كان عليه فى الأعوام الخمسة عشر التى حكم خلالها تشافيز، وهو لم يفعل شيئا لمواجهة الأثر المدمر على النشاطات الإنتاجية لارتفاع إيرادات النفط، حتى صارت فنزويلا تستورد 80 فى المائة مما تستهلكه وأصبحت تعرف نقصا مزمنا، بالرغم من ثرائها، فى المواد التموينية. الوضع الاقتصادى المأزوم اضطر فنزويلا إلى تخفيض عملتها مقابل الدولار بما يفوق الثلاثين فى المائة قبل نهاية العام الماضى، وهو ما يعجب صندوق النقد الدولى، «أداة الإمبريالية»، لكنه يطلق العنان للتضخم، أكثر ما يضر مصالح الفقراء. أخفق تشافيز فى الملف الاقتصادى فلم يتنوع الاقتصاد الفنزويلى، بل بقى معتمدا بشكل شبه كلى على عائدات النفط، وهو لم يجار سياسته التوزيعية الطموحة والجديرة بالإشادة بإعادة هيكلة الاقتصاد وبنمو اقتصادى يتعدى مجرد النمو فى إيرادات النفط. أما فيما يخص حقوق الإنسان، فهو وإن كان لم يقيد حرية التعبير، فقد هاجم خصومه هجوما مستمرا عنيفا، وعند وفاته تعالى صوت ينعى عليه تقويضه لضمانات حقوق الإنسان وتركيز السلطة فى يديه تركيزا شديدا. تشافيز الساهر على مصالح الشعب وحقوقه لم يحترم كل هذه الحقوق.
•••
تزامن حكم تشافيز فى فنزويلا مع حكم الرئيس البرازيلى السابق لويس إيجناسيو دا سيلفا «لولا». على الرغم من اتباع «لولا» لسياسات توزيعية هو الآخر، فإنه لم يحقق نفس درجة نجاح تشافيز فى الحد من الفقر وتخفيض التفاوت فى الدخول. هل يرجع ذلك إلى ان «لولا» اتبع طريقا إصلاحيا تدريجيا بينما سلك تشافيز نهجا ثوريا؟ على أن «لولا» احترم حقوق الإنسان احتراما مطلقا، والبرازيل ماضية من بعده فى تنمية كل قطاعات اقتصادها، وهى أولى الدول البازغة، ثم إن الديمقراطية قد ترسخت فيها، ولا خوف من الرجوع فى السياسات التوزيعية من بعد رحيل «لولا» عن الرئاسة. هذه انجازات لا ريب فيها. ولكن تشافيز أيضا لم ينقلب على الديمقراطية، وإن كان ناوشها، فهل تكون الديمقراطية ضمانة الفنزويليين فى استمرار السياسة التوزيعية من بعده؟ وهل يبقى عليهم فقط أن يجدوا سبيلا للتوفيق بين التوزيع، من جانب، والنمو والتنوع الاقتصاديين، من جانب آخر؟ وهل يكون هذان درسين لكل ثورة، ومنها ثورتنا المصرية: الديمقرطية هى التى تكفل صياغة وديمومة السياسات التوزيعية، والسياسات التوزيعية بحاجة إلى النمو والتنوع الاقتصاديين.
أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة