ترددت فى الأسابيع الأخيرة الأحاديث عن ترتيبات جديدة فى الشرق الأوسط، تتضمن إقامة علاقات رسمية بين مصر وحلف الأطلنطى، واهتمام الإدارة الأمريكية بمقترحات سعودية لتشكيل حلف سنى فى مواجهة إيران وتسانده إسرائيل، وباستثناء دفاع سامح شكرى وزير الخارجية المصرى عن قرار رئيس الجمهورية بإنشاء بعثة تمثل مصر فى مقر حلف الأطلنطى، لم تكن هناك كما هى العادة فى الخطوات الكبرى التى تعتزم القيادة المصرية القيام بها أى توضيح لأبعاد هذه الخطوات والمتوقع منها، وقبل ذلك موقف الحكومة المصرية من قضية الأحلاف العسكرية بصفة عامة.
من المعروف أن الموقف الشعبى والرسمى فى مصر منذ العهد الملكى ومرورا بعهود عبدالناصر والسادات وحسنى مبارك هو رفض انضمام مصر إلى أحلاف عسكرية مع الدول الكبرى. فشلت مفاوضات صدقى بيفن فى 1946 لأنها تضمنت فكرة انضمام مصر إلى تحالف عسكرى مع بريطانيا ثمنا لجلائها عن مصر، ورفضت مصر فكرة الانضمام إلى منظمة الدفاع عن الشرق الأوسط فى سنة 1950 والتى كانت تدعو لها الولايات المتحدة وتشترك فى عضويتها كل من بريطانيا وفرنسا لنفس السبب. ومع أن التوقيع على اتفاقية الجلاء فى سنة 1954 بما تضمنته فى مادتها السادسة من بقاء قاعدة قناة السويس العسكرية صالحة للاستخدام، تعود لها القوات البريطانية فى حالة حدوث عدوان على مصر، أو إحدى الدول الأعضاء فى الجامعة العربية أو تركيا، كان يشى بحلف عسكرى ضمنى بين بريطانيا ومصر، وكان ذلك واحدا من الانتقادات التى وجهت لهذه الاتفاقية، إلا أن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر انتهز فرصة العدوان الثلاثى على مصر والذى شاركت فيه بريطانيا وفرنسا متآمرتين مع إسرائيل لإلغاء هذه المعاهدة فى أعقاب انسحاب القوات البريطانية والفرنسية من بورسعيد فى 23 ديسمير سنة 1956، ولم يكن قد مضى أكثر قليلا من عامين على هذه الاتفاقية. وربما يذكر القراء كذلك الحملة القوية التى شنتها مصر على انضمام الدول العربية لحلف بغداد فى سنة 1955، وإدانتها الشديدة لمذهب إيزنهاور الذى كان يصف الشرق الأوسط بأنه منطقة فراغ بعد انسحاب القوى الاستعمارية التقليدية منه، وأن الوجود العسكرى للولايات المتحدة هو السبيل لملء هذا الفراغ. وتلك كانت دعوة مبطنة لانضواء الدول العربية فى حلف ضمنى مع الولايات المتحدة الأمريكية.
لذلك فمما يثير الدهشة أن تجرى تطورات الأسابيع الماضية دون توضيح مفصل من جانب الحكومة المصرية حول مرامى كل هذه التطورات. فما هى أبعاد وجود بعثة دبلوماسية مصرية فى مقر حلف الأطلنطى فى بروكسل يرأسها سفير مصر فى العاصمة البلجيكية؟، وما هى نتائج ذلك على علاقات مصر بدول أخرى قد يتخذ الحلف مواقف مضادة لها، وهل تقبل مصر بالفعل فكرة هذا التحالف العسكرى السنى الذى تحدث عنه ولى العهد السعودى مع الرئيس الأمريكى، وهل ستشارك فيه، وهل سيكون لها وزن كبير بين جنوده الذين يبلغون أربعين ألفا؟ وقبل ذلك كله ما هى جدواه؟ بل وما هى أخطاره؟
***
لم يكن حديث وزير الخارجية المصرى عن علاقات لبلاده مع حلف الأطلنطى يكشف جديدا لمن تابعوا هذه العلاقة منذ زمن. فقد شارك باحثون مصريون فى دورات «دراسية» فى حلف الأطلنطى منذ سنوات شملت حوارا بين المسئولين فى الحلف والمشاركين المصريين فى هذه الدورات، ويذكر كاتب هذه السطور أنه تلقى دعوة من وزارة الخارجية منذ سنوات للمشاركة فى واحدة من هذه الدورات، واعتذر لموقف صريح من رفض الأحلاف العسكرية مع الدول الكبرى بصفة عامة، ونظم حلف الأطلنطى منذ أسابيع دورة مماثلة احتفى فيها بالمشاركين المصريين. ومن ثم فوجود مثل هذه الاتصالات بين الحكومة المصرية وحلف الأطلنطى هو سابق على تصريح وزير الخارجية عن إقامة بعثة لمصر لدى الحلف. ولذلك يثور التساؤل حول دواعى نقل هذه الاتصالات لمرحلة العلاقات الرسمية. طبعا من المفهوم أن هذه الخطوة لا تعنى انضمام مصر إلى الحلف، أو أن الحلف سيصبح مسئولا عن الدفاع عن مصر، ولكن من حق الرأى العام أن يعرف ما الذى يتوقعه الحلف من الحكومة المصرية، وقد أصبحت لها هذه البعثة؟ ألا ينتظر الحلف من مصر أن تبدى تجاوبا مع أى أعمال قد يقوم بها جنوب البحر الأبيض أو فى شرقه.؟ من المعروف مثلا أن تدخل بريطانيا وفرنسا وإيطاليا فى العمليات العسكرية فى ليبيا والتى انتهت بالإطاحة بالقذافى فى أكتوبر سنة 2011 جرى باسم الحلف، وذلك دون أن يفكر القائمون بهذا التدخل فى النتائج التى يمكن أن تترتب عليه بالنسبة لاستقرار ليبيا ووحدة أراضيها بعد سقوط القذافى وانسحابهم. مسألة أخرى تتعلق بموقف الحلف من روسيا الاتحادية والتى نشر على حدودها صواريخه وأرسل دباباته وجنوده، وهى التى تربطها بمصر فى الوقت الحاضر علاقات قوية. ألا يمكن أن يلقى وجود بعثة لمصر لدى حلف الأطلنطى بظلاله على هذه العلاقات؟. والمعروف أن التعاون فى المجال العسكرى بين دولتين أو دولة ومنظمة متعددة الأطراف مثل حلف الأطلنطى يقوم بالضرورة على تفاهمات سياسية؟ فما هى حدود هذه التفاهمات بين الحكومة المصرية وحلف الأطلنطى؟
***
إذا كان القلق الناجم عن الإعلان بإقامة بعثة دبلوماسية لمصر لدى حلف الأطلنطى يتعلق بتكهنات وافتراضات عما يمكن أن يحدث فى المستقبل، إلا أن الأمر مختلف بالنسبة لتصريحات الأمير محمد بن سلمان عن الحلف الإسلامى الذى تقوده السعودية. فقد تكررت الإشارة إلى مثل هذا المشروع فى صحف إسرائيلية من قبل. وجرت لقاءات سرية وعلنية بين مسئولين سعوديين ومسئولين إسرائيليين حول التعاون فى مواجهة عدو مشترك هو إيران، وكان هذا الأمر موضوع بحث بين الأمير السعودى والرئيس الأمريكى فى زيارة لواشنطن الأسبوع الماضى. فما هى الدول المرشحة لتكون أطرافا رئيسية فى هذا الحلف؟ وما هى العداوات التى تدعوه للعمل، وما الذى يمكنه أن يفعل فى مواجهة هذه العداوات؟ وما هو موقف القيادة المصرية منه؟ وخصوصا أن الحديث عن هذا الحلف جرى فى أجواء تشير إلى تحركات مهمة لرأب الصدع فى العلاقات المصرية السعودية، ومنها بطبيعة الحال قضية السيادة على جزيرتى تيران وصنافير.
لا يعود القلق بشأن هذا الحلف فقط إلى ترحيب كل من إسرائيل والولايات المتحدة بحماس السعودية له، وهو ما يجب أن يبعث الخوف فى نفس كل عربى، فلا توجد حكومتان فى العالم أكثر تجاهلا بل وعداوة للمصالح العربية من كل من حكومتى إسرائيل والولايات المتحدة فى ظل رئاسة دونالد ترامب، ولكن قيام مثل هذا الحلف الذى يراد له أن يكون سنيا وفى مواجهة إيران الشيعية هو بمثابة صب النار على زيت مشاعر طائفية لا يريد العقلاء والغيورون على مصالح العرب والمسلمين لها أن تشتعل فى إقليم الشرق الأوسط الذى هو بالفعل أخطر مناطق التوتر فى العالم، وكما هو الحال فى صراعات أخرى فى هذا الإقليم، فإن العرب والمسلمين بخلافاتهم يقدمون أفضل الهدايا لخصومهم فيتوسعون فى أراضيهم على حسابهم ويستخدمون هذه الصراعات ليحاربوا بعضهم ببعضهم الآخر. ألن يكون قيام هذا الحلف ذريعة أخرى لإيران لكى تستغل أوضاع الشيعة فى دول الخليج تحديدا وخصوصا فى السعودية والبحرين لكى تغذى نيران حروب أهلية محتملة؟ ثم ما الذى يستطيع مثل هذا الحلف عمله فى مواجهة إيران أو حتى فى مواجهة الإرهاب؟ هل يتخيل أحد أن تجنيد أربعين ألف عسكرى من جانب أعضاء هذا الحلف سيوقف امتداد النفوذ الأيرانى فى سوريا ولبنان واليمن؟ وهل سيهاجم هؤلاء المنشآت النووية الإيرانية، والتى تخضع بالفعل لرقابة الوكالة الدولية للطاقة النووية؟ وهل سيشجع وجود مثل هذا الحلف إسرائيل أو الولايات المتحدة على شن هجوم عسكرى على إيران، وهو أمر استبعده من قبل المخططون العسكريون الأمريكيون لعدم جدواه فى شل قدراتها النووية فى الأجل المتوسط؟
هذا الحلف الذى لم يرَ النور بعد هو مشروع سياسى يخدم مطامح المتطلعين إلى عرش السعودية ولا يخدم مصلحة مصر فى أن تكون جسر وفاق وقوة اعتدال فى الشرق الأوسط، وهو يلغى قدرتها على صنع قرارها المستقل فى سياستها الخارجية.
الأفضل لمصر فى هذه الظروف أن تسترشد بالموقف الثابت لحركتها الوطنية ولما استقرت عليه كل حكوماتها من قبل، وهو رفض الأحلاف العسكرية مع القوى الكبرى، وأن تكون أبوابها مفتوحة لكل دول الشرق الأوسط، وأن تمد أيديها مصافحة كل الشعوب والدول أيا كانت مذاهبها الدينية أو عقائدها.