بقطع النظر عن قرار لجنة الانتخابات باستبعاد بعض المرشحين الرئاسين، وقرار بعضهم الانسحاب لغيرهم قبل إعلان القائمة النهائية، فإن ترشح هذا العدد من المحسوبين على التيار الإسلامى له دلالات تستحق التأمل.
فقد ترشح للرئاسة ستة من المحسوبين على التيار الإسلامى، بعضهم مستقلا والبعض مدعوما من أحزاب، وبعضهم بتأييد الأعضاء المنتخبين فى البرلمان والبعض بتأييد عموم المواطنين، وكل منهم دعمته هيئات سياسية ودينية مختلفة، وتوزع بينهم تأييد الإسلاميين وقطاعات أخرى واسعة من المجتمع، الأمر الذى يدل على وجود اختلاف بينهم يسترعى النظر.
وأول أوجه الاختلاف التوسط، فبعض المرشحين يبدو فى خطابه ومواقفه أقل توسطا من غيرهم من حيث الاختيار الفقهى، وثانيها الانتماء الفكرى، فهم متفاوتون فى اقترابهم من المدرسة الأزهرية التراثية، وبعضهم ينتمى لمدرسة محمد عبده الحداثية، وبعضهم للمدرسة التى تسمى نفسها السلفية، وبعضهم لخليط من هذه المدارس، وهذه الاختلافات هى ما يلفت الانتباه عادة، إذ يصير معيار (الموقف الدينى) إجمالا هو المعول عليه.
على أن ثمة معيارا آخر لم يكن يلتفت إليه وصار بعد الدخول فى حيز (التدبير) و(إقامة الأمر) مهما وهو التوجه السياسى، إذ اختلف هؤلاء المرشحون حول القضايا الحالة من حيث الرأى السياسى، كرؤيتهم لأولويات إصلاح الأمن والاقتصاد، والتعامل مع المشكلات المتعلقة بالمرحلة الانتقالية من إشكاليات التحول الديمقراطى وتفكيك الدولة العميقة وضبط العلاقات المدنية العسكرية وإعادة هيكلة المنظومة الاقتصادية وغير ذلك.
وهذا التباين فى المواقف ظهر بشكل أكبر فى البرامج التى تبناها هؤلاء، إذ أظهرت الاختلاف حول رؤيتهم للأولويات، وكذا تناولهم للقضايا المختلفة، كالموقف من طبيعة الدولة ومدى هيمنتها على المجال العام وتحديد الخطوط الفاصلة بين السياسى والمدنى والشخصى ومن ثم كيفية تنظيم العلاقة بين مسئوليات الدولة والمجتمع والفرد، والموقف من دور الدولة فى الاقتصاد وحدود مسئوليتها فى تقليل فجوات الدخل وضمان العدالة الاجتماعية، وطبيعة البناء الاقتصادى للدولة، وبنية النظام السياسى وكيفية صناعة القرار فيه والعلاقة بين مؤسسات الدولة أفقيا (السلطات التشريعية والرقابة والتنفيذية) ورأسيا (العلاقة بين المركزى والمحلى بمستوياته)، وفى السياسة الخارجية الموقف من إسرائيل وكيفية تأطير الصراع معها، وحدود دعم المقاومة الفلسطينية، والموقف من الولايات المتحدة وشروط التعاون معها، وغير ذلك من قضايا سياسية.
وثمة اختلافات أخرى أقل أهمية فى الطبائع الشخصية للمرشحين، بعضها سببه الاختلافات الإنسانية والآخر سببه اختلاف الخلفيات الاجتماعية، فبعض المرشحين دبلوماسيون وبعضهم أكاديميون فى مجالات متفاوتة الصلة بالسياسة وبعضهم رجال أعمال، وهى كلها أمور مؤثرة على التصورات السياسية.
ومجمل هذه الاختلافات يؤكد أن الشريعة لا تحدد وحدها المشروع السياسى للإسلاميين، فهى شرط ضرورى غير كاف، لا بد من الالتزام بها للبقاء فى دائرة المباح، بيد أن هذا الالتزام لا يقدم تلقائيا إجابات تفصيلية تنفيذية للأسئلة السياسية، بل يترك الباب مفتوحا أمام الاجتهاد القائم على تصورات معينة سياسية واقتصادية واجتماعية يقوم بها أهل الاختصاص فى هذه العلوم، وبحث فى كيفية تحقيق المقاصد العامة من خلالها.
وحاصل هذا الكلام أن الإسلام ليس أيديولوجية سياسية، فلا ينحصر فى رؤية معينة، وإنما يتقبل الرؤى المختلفة لكيفية تحقيق المصلحة والمبنية على استقراء الواقع، وبهذا صار تعريف السياسة القيام على الأمر بما يصلحه، واختلاف أهل السياسة فى كيفية تحقيق هذه المصلحة ينتج اتجاهات سياسية مختلفة، تتخير من بين الآراء الفقهية المختلفة ما تراه محققا للمصلحة، فيكون معيارها فى الاختيار لا نفس صحة الأحكام الجزئية (فهى ليست جهة ترجيح شرعى، والآراء المعتبرة فى نظرها مستوية من حيث الصحة) وإنما صلاحيتها، وتحقيقها للمقاصد المبتغاة وفق رؤية هذه التيارات المختلفة، وهذه التيارات بالتالى تتساوى من حيث التزامها بالشرع طالما لم تخالف محال الإجماع.
والوضع التشريعى فى مصر لا يختلف عن ذلك كثيرا، فتفسير المحكمة الدستورية العليا للمادة الثانية من الدستور يمنع سن قوانين تخالف محال الإجماع فى الشريعة، واتفاق المجتمع على بقاء هذا الوضع فى الدستور الجديد ينبغى أن يصرف الجدل ــ سياسيا ودستوريا ــ إلى القضايا الأخرى.
فأما على المستوى الدستورى فإن المطلوب النظر فيه هو محل الحكم، ومنه بنية الدولة الحديثة، التى قبلها محمد عبده والإسلاميون من بعده بغير تأملات نقدية فى بنيتها الفلسفية المغايرة لبينة الدولة القديمة التى عرفتها المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة تأريخيا، ومن ذلك مثلا أن الدولة الحديثة هى دولة مطلقة، وهى دولة تحل فى مؤسساتها السيادة، فيما السيادة فى الدولة قبل الحديثة متجاوزة للدولة والمجتمع، ومن ذلك أيضا طبيعة القاعدة القانونية فى الدولة الحديثة، وهى قاعدة ذات نسق مغلق، بخلاف القاعدة الفقهية ذات النسق المفتوح، والمتنوعة بالتعريف بتنوع المدارس الفقهية، والدولة الحديثة أطول ذراعا من الدولة قبل الحديثة، من حيث تدخلها بشكل مباشر فى مساحات كالتعليم، ومأسستها بشكل غير قابل للقياس مع ما كان موجودا لمهام كالدفاع والأمن والاقتصاد، وإنشائها مفاهيم جديدة كالمجال العام وتأثيرها فيها ــ بالمشاركة والامتناع عنها جميعا - من خلال السياسيات الإعلامية المتبعة.
وهذه الأمور مجتمعة لا بد أن تسترعى نظر المهتمين بالشأن الإسلامى، إذ هى تعنى ــ فى التحليل الأخير ــ أن محل الحكم صار مختلفا تماما عن ذى قبل، وهو ما تترتب عليه واجبات، أولها إدراك أن قيام الدولة منفردة بواجب تطبيق الشرع الشريف لم يعد يؤدى لذات النتائج التى كان قيامها بذلك يؤدى إليها فى السابق، وثانيها دراسة مسئوليات الفرد والمجتمع والدولة جميعا عن تطبيق الشريعة، مع ضبط مساحات عمل كل فريق من هؤلاء، وثالثها إدراك أن هذه التغييرات البنيوية فى الدولة لا تهدف للوصول لصورة مثالية محددة سلفا، وإنما يجب فيها الالتزام بالضوابط الشرعية القليلة فى هذا الأمر مع بذل الجهد لإيجاد الآليات والوسائل الصالحة لهذا العصر، ورابعها إدراك أن هذه التغييرات لا تتم عبر يوم وليلة، وإنما تستغرق آجالا غير قصيرة.
وأما على المستوى السياسى، وهو الحال العاجل لما سبق من أن الآخر يستغرق آجالا، فإن إدراك شرطية الشريعة مع عدم كفايتها، واتفاق الجميع على مرجعية الشريعة، واحترام المرجعية الذى يوجب إسناد تعريف الحكم الشرعى لأهله، يوجب على أهل السياسة من الممتثلين للحكم الشرعى صرف الجهد إلى تحديد البرامج السياسية التفصيلية التى يرون فيها مصلحة الوطن، وليس ثمة شك أن اجتهاداتهم فى هذا المجال ستتباين، وهذا التباين سببه الرئيس اختلاف الكفاءة وعمق الرؤية واختلاف مكوناتها وتنوع مصادرها، فينبغى أن يكون محل اعتبار فى المفاضلة بينهم فى العمل السياسى.