تعديل مقررات الثانوية العامة.. وبناء الشخصية المصرية - مصطفى كامل السيد - بوابة الشروق
الأربعاء 18 سبتمبر 2024 5:54 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تعديل مقررات الثانوية العامة.. وبناء الشخصية المصرية

نشر فى : الإثنين 19 أغسطس 2024 - 6:20 م | آخر تحديث : الإثنين 19 أغسطس 2024 - 6:20 م

 نظام التعليم العام فى أى دولة هو مرآة للنظام السياسى فيها، فنظرًا لأن التعليم هو من أهم قنوات التنشئة الاجتماعية إن لم يكن أهمها، يحرص كل نظام سياسى على أن تكون مخرجاته التى تتمثل فى شخصية خريجى وخريجات مدارسه وجامعاته هى الشخصية التى يتطلع النظام السياسى أن تكون هى السائدة فى المجتمع حرصًا على استمراره. فهناك نظم تريد أن يكون مواطنوها ومواطناته طيعين مستجيبين للسلطة متلقين معلوماتهم منها، وهناك نظم أخرى تريدهم معتمدين على أنفسهم، متابعين لما يجرى فى العالم من تطورات، معتزين بالوطن وقادرين على التعامل مع من يشتركون فى ثقافتهم ومن ينتمون إلى ثقافات أخرى.

 تعالوا نتعرف على الفلسفة الكامنة وراء تعديلات مقررات الثانوية العامة من هذه الزاوية، ونقارنها بما يجرى عليه الحال فى دول أخرى.

 ما مضمون التعديلات؟

وفقًا لما نشرته صحيفة الأهرام، تختصر مقررات السنة الثانوية الأولى من عشر مقررات إلى سبع مقررات وذلك بتحويل اللغة الأجنبية الثانية إلى مقرر لا يدخل فى حساب المجموع الكلى وإنما تصبح مادة سقوط أو نجاح، ويلغى تدريس الجغرافيا، ويتم دمج العلوم الطبيعية الثلاث فى مقرر واحد، ويضاف مقرر الفلسفة والمنطق لكل الطلاب. وفى الصفين الثانى والثالث تختصر المقررات لكل الشعب من سبع إلى خمس، وذلك فى الصف الثانى بجعل اللغة الأجنبية الثانية مادة نجاح وسقوط، وعدم تدريس التاريخ لشعبة العلوم، ويتحقق ذلك فى الصف الثالث ليس فقط بتطبيق نفس المبدأ على تدريس اللغة الأجنبية الثانية ولكن أيضا في تدريس الجيولوجيا فى شعبة العلوم، والرياضيات التطبيقية فى شعبة الرياضيات، وبذلك تسقط تماما دراسة الفلسفة فى القسم الأدبى اكتفاء بتدريسها فى السنة الأولى لكل الطلاب.

يثور هنا التساؤل حول حكمة الاكتفاء بلغة أجنبية واحدة، وإسقاط الجغرافيا فى السنة الأولى الثانوية، وتحويل مقررات الجيولوجيا والرياضيات التطبيقية إلى مقررات خارج المجموع فى كل من شعبتى العلوم والرياضيات. عدم إعطاء الطلاب الفرصة فى اختيار ما يدرسون يضعف استقلالهم فى اتخاذ القرار المستقل فى أمور تخصهم، واختصار المقررات يجعل خريج أو خريجة المدرسة الثانوية فى مصر أقل إلمامًا بالتطورات العلمية والتكنولوجية المتسارعة فى العالم، وتحويل اللغة الأجنبية الثانية إلى مقرر سقوط ونجاح وتهميش تدريسها لا يشجع على بناء القدرة على التواصل مع الشعوب والثقافات الأخرى التى تتحدث بهذه اللغة.

 ما الوضع فى بعض الدول الأجنبية؟

هل تتلافى ذلك المخرج نظم التعليم الثانوى فى الدول الأخرى، وتضع مقررات تسهم فى تشكيل صورة مغايرة للمواطن والمواطنة تختلف عما ينتجه نظام التعليم المصري؟ لا يمكن فى هذا المقال أن نشرح ممارسات كل الدول فى هذا السياق لكن دعونا نختار دولتين؛ إحداهما كانت ظروفها مماثلة لظروف مصر فى الستينيات، وربما كانت أصعب، ولكنها عرفت طريقها للتنمية الصحيحة المتوازنة، وأصبحت من أولى ما سمى بالنمور الآسيوية، وقد بلغ تقدمها العلمى والصناعى الحد الذى يجعل شركاتها تقوم بإنشاد فروع لمصانعها فى الدول المتقدمة، بل وتشارك إحدى شركاتها فى التنافس على سوق التليفونات الذكية مع شركة آبل، وتسهم فى صنع المعدات الدقيقة لسفن الفضاء الأمريكية، بل وانتقلت أيضا من الحكم العسكرى إلى حكم مدنى منتخب تتداول فيه الأحزاب السلطة، هذه الدولة هى كوريا الجنوبية التى كان متوسط دخل الفرد فيها فى سنة ١٩٦١ يقل عن متوسط دخل الفرد فى مصر بعشرين دولارا فى السنة، وأصبح متوسط الدخل الفردى فيها فى الوقت الحاضر يتجاوز متوسط الدخل الفردى فى مصر بمقدار 13.5 مرة تقريبًا، من 2000 إلى 27000 دولار فى السنة، والدولة الثانية هى دولة متقدمة، وهى فرنسا التى نقلنا عنها قانوننا المدنى، وبعض النصوص الدستورية وتنظيم القضاء والجامعات الحكومية. فلننظر الآن ما يدرسه طلاب المدارس الثانوية فى البلدين.

الذى يثير الإعجاب فى حالة مقررات المدرسة الثانوية فى كوريا الجنوبية، واعتمادًا على وثيقة برنامج الدراسة الذى أصدرته حكومتها، هو تنوع المقررات وتوجهها نحو التربية المتكاملة لشخصية الطلاب، فهناك مقررات عامة ومقررات تخصصية، وتشمل المقررات العامة أربعة مجالات هي؛ الدراسات التأسيسية، وما يسمى البحث، والتربية البدنية والفنون، وعلوم الحياة والآداب.

الدراسات التأسيسية تضم اللغة الكورية والرياضيات واللغة الإنجليزية وتاريخ كوريا. والبحث يشمل الدراسات الاجتماعية والأخلاقيات، وكذلك العلوم الطبيعية والمعامل، والمجال الثالث هو التربية البدنية والفنون، فيمارس الطلاب التدريبات الرياضية ويتعرفون على فنون الموسيقى والمسرح، والمجال الرابع هو شئون الحياة والآداب، بما فى ذلك التكنولوجيا والاقتصاد المنزلى واللغات الأجنبية والتراث الأدبى الصينى واللغات الأجنبية والفلسفة والمنطق وعلم النفس.

هناك مقررات اختيارية تخصصية فضلًا عن المقررات العامة فى كل من هذه المجالات، فعلى سبيل المثال تضم المقررات الاختيارية جغرافية كوريا وجغرافية العالم وعلوم الاقتصاد والسياسة. ثم يتاح للطلاب التخصص فى واحد من خمسة مجالات، وهى: العلوم الطبيعية، والتربية البدنية، والفنون والتى تشمل الموسيقى والمسرح والآدب، واللغات الأجنبية، والعلاقات الدولية، وباستثناء هذين التخصصين لا يوجد تخصص عام للدراسات الاجتماعية مثل الاجتماع والاقتصاد والعلوم السياسية ربما اكتفاءً بما درس الطالب والطالبة فى المرحلة التأسيسية.

وهناك حد أدنى من الوحدات الدراسية تتوزع على ثلاث سنوات على الطلاب استكمالها، ويجب ألا يتجاوز عدد المقررات التى يدرسها الطالب والطالبة فى أى فصل دراسى على ثمانية مقررات. وقد حدث منذ سنة ٢٠١٨ توسع فى مجالات المقررات التى يمكن للطلاب دراستها وأغلبها يتوجه نحو الإعداد المهنى للطلاب.

يمكن القول إنه بالمقارنة بالتعديل الأخير فى مقررات الدراسة فى مصر، تهتم المدرسة الثانوية العامة فى كوريا الجنوبية بالتكوين الشامل لشخصية الطلاب ولذلك تدخل التربية البدنية والفنون والأخلاق فى صلب المقررات العامة، كما تشدد على تعلم اللغات الأجنبية، والتراث الثقافى لكوريا المتأثر بالثقافة الصينية، وعدم الاقتصار على التلقين، فهناك مناهج البحث والتدريب فى المعامل ومزاولة الرياضة والتدريب على الفنون.

أما فى فرنسا فتنقسم الدراسة الثانوية العامة إلى مرحلتين؛ سنة أولى لكل الطلاب تليها سنتان من التخصص مع مقررات يدرسها كل الطلاب، ففى السنة الأولى يدرس الطلاب بمعدل 26.5 أسبوعًا عشرة مقررات على امتداد السنة الدراسية، ومع الاهتمام بالتربية البدنية والفنون إلا أنهما يشغلان وقتا أقل. وتتسم مقررات المدرسة الثانوية فى فرنسا بالشمول لكل العلوم ومواكبة التطورات العلمية والتكنولوجية فضلا عن التربية البدنية والتربية الأخلاقية والمدنية، وتتيح مجالا واسعا للاختيار للطلاب مع وجود مقررات مشتركة بين جميع التخصصات.

يمكن للطالبة أو الطالب بعد السنة الأولى أن يختار اثنين على الأكثر من ثلاثة تخصصات، وهى: تخصص علوم وتكنولوجيا، تخصص أدبى، تخصص فنون، وفى كل الحالات عليه أن يدرس فى العامين التاليين ستة مقررات عامة تشمل اللغة الفرنسية ولغات أخرى والعلوم الاجتماعية والطبيعية والتربية البدنية والأخلاقية والمدنية.

وتبلغ ساعات الدراسة لهذه المقررات ١٦ ساعة فى السنة الثانية، لكن يضاف لها ثلاثة مقررات اختيارية فى السنة الثانية ومقرران اختياريان فى السنة الثالثة، ولمدة ساعتين ونصف لكل مقرر، ويكون الاختيار من بين مجموعة من المقررات تشمل طائفة واسعة من العلوم الاجتماعية والطبيعية والرياضيات واللغات والعلوم الرقمية والتكنولوجية.

وهكذا يتراوح عدد المقررات التى يدرسها الطلاب ما بين تسعة مقررات فى السنة الثانية وثمانى مقررات فى السنة الثالثة، بل يمكن أن يختار الطلاب مقررًا لمدة ثلاث ساعات إضافية تشمل فى السنة الثانية اللغات والتربية البدنية والرياضية والفنون وأنشطة رياضية، مثل الفروسية والسياحة، وتضم فى السنة الثالثة الرياضيات والقانون والمشاكل الدولية المعاصرة.

الذى يميز مقررات التعليم الثانوى فى فرنسا هو أيضًا الحرص على تكوين الشخصية المتكاملة فكريًا وبدنيًا وأخلاقيًا ومعنويًا، والتى تملك حسًا نقديًا من خلال الاهتمام بتدريس الفلسفة، والقادرة على الاختيار ومواكبة ما يجرى فى العالم من تطورات علمية وتكنولوجية، حتى رياضية وفنية.

 كيف يُتخذ القرار بالنسبة لهذه المقررات؟

ليس من السهل اتخاذ قرار بتغيير المقررات، فهذه مسألة كما ذكرنا تتعلق بتكوين شخصية مواطن المستقبل وهو أمر يهم المجتمع ككل، ولذلك نلاحظ فى حالة فرنسا مثلا المشاركة الواسعة فى اختيار المقررات واقتراح مقررات بديلة، فلا ينفرد وزير التعليم بتحديد المقررات التى تدرس فى أى مرحلة من التعليم، وإنما يمر إقرار هذه المقررات بعملية تشترك فيها مؤسسات متعددة، وتخضع للتشاور فيما بينها قبل أن تنتقل لوزير التعليم حتى يقرها ويتخذ الإجراءات لتطبيقها. هذه المسئولية يتولاها المجلس الأعلى للبرامج الذى يضم فى عضويته أعضاء من البرلمان، وممثلين للمجلس الاقتصادى والاجتماعى والبيئى الذى يشير على الحكومة فى هذه المجالات، فضلًا عن عشر شخصيات يختارها وزير التعليم من بين أصحاب الخبرة فى المجال التربوى. مهمة هذا المجلس وضع مقترحات بالنسبة للتصور العام للتعليم وإدخال الأساليب الرقمية فى التعليم وبناء المعرفة. هذه المقترحات تتولى أقسام الوزارة المختصة صياغتها فنيا وطرحها للتشاور مع المعلمين والمفتشين، وأخيرًا على المجلس الأعلى للتعليم لأخذ رأيه. وبعد هذه العملية الطويلة تنتقل للوزير الذى يَشرع فى تنفيذها.

لا نعرف كيف وصل السيد وزير التعليم لقراراته الأخيرة ولم يمضِ أكثر من شهر على اختياره وزيرا للتعليم، وليس من المعروف عنه أنه خبير له آراؤه التى يعتد بها فى المجال التربوى. كل ما نعرف فى هذا الخصوص أنه حضر اجتماعا لتطوير التعليم مع السيد رئيس الجمهورية وبمشاركة مدير الأكاديمية العسكرية المصرية، ثم عقد بعدها المؤتمر الصحفى الذى أعلن فيه قرارات التعديل، والتى جاءت مفاجئة لخبراء التعليم وللرأى العام فى مصر. لكن ليس فى كل ذلك ما يدهش، فكما ذكرنا من قبل إن نظم التعليم، بما يطرأ عليها من تعديلات هى مرآة للنظام السياسى الذى يتخذها أداة لتشكيل شخصية المواطن والمواطنة التى يفضلها هذا النظام.

مصطفى كامل السيد أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة
التعليقات