أثارت زيارة جمال مبارك للولايات المتحدة الكثير من الأسئلة فى الولايات المتحدة، كما كان الحال فى مصر، ووجدت نفسى فى دائرة الرد على العديد تساؤلات حائرة من باحثين ومثقفيين أمريكيين عن الرجل وأجندته ومستقبل العلاقات المصرية الأمريكية إذا حكم مصر. وقدمت رؤيتى من خلال الإجابة عن ثلاثة أسئلة أساسية:
هل يريد جمال مبارك أن يحكم مصر؟.. نحن عمليا أمام منطقين متعارضين فى الإجابة عن هذا السؤال. فبحكم الاستنتاج المعلوماتى، هو نفى تماما سعيه لهذا المنصب فى أكثر من مناسبة، كما فعل الرئيس مبارك شخصيا حين أشار إلى أن توريث السلطة حدث فى دول شقيقة لأسباب معينة غير موجودة فى مصر. لكن بحكم الاستنتاج التحليلى، جمال مبارك فى حكم نائب رئيس الجمهورية غير المعلن. فهو شخص يقوم بمهام تجعله تحت رئيس الجمهورية وظيفيا وفوق رئيس الوزراء عمليا، لهذا الشخص فى النظام السياسى المصرى مسمى واحد: نائب رئيس الجمهورية حتى وإن لم يصدر بذلك قرار جمهورى. ثانيا: ما الذى يدفع مسئولا حزبيا ليزور قرى الصعيد فى صيفها الحار إلا طموح شخصى طاغٍ بأن يكون له حضور فى الضمير العام.
باعتباره صاحب مشروع وطنى لمحاربة الفقر وتحقيق التنمية، يتبناه الحزب ويلقى على نفسه مسئولية تنفيذه على غرار ما دخل به بشار الأسد إلى ساحة السياسة من باب مكافحة الفساد واسترداد الأرض. يبقى ثالثا: أن مدخل القرار الرشيد يقول: إنك لا تنفق من مالك ووقتك وجهدك إلا إذا كنت تتوقع عائدا أكبر فى المستقبل، وما عائد جهود أمين السياسات ومساعد رئيس الحزب إلا أن يكون رئيسه.. وما يكون نفى التطلع للمنصب إلا من مقتضيات الوصول إليه. هل يستطيع جمال مبارك أن يحكم مصر؟.. بعبارة أخرى هل الطريق ممهد له كى يصل إلى حكم مصر؟
المسألة تتوقف على تفاعلات جمال مبارك وفريقه مع مؤسسات ثلاث، معنية بتحديد من يحكم مصر وفى أى اتجاه.
فهناك أولا: المؤسسة العسكرية والتى سيكون رئيس الدولة الجديد هو قائدها، ويعرف قادتها أنها هى الكيان الحاضن لشرعية رؤساء مصر منذ الثورة؛ وعليه، فإن الجدل سيثور إن كان سيقتصر دور القوات المسلحة على القبول بما ستفرزه المؤسسات المدنية من مجلس الشعب والحزب الوطنى (بحكم كونه حزب الأغلبية الرسمية) أم أنها سيكون لها تفضيلاتها بشأن من يتولى حكم مصر. والأغلب أن بنية القيادات العليا للقوات المسلحة، لاسيما مع عدم بقاء قيادات كثيرة فى موقعها لفترة طويلة من الزمن، سيقتصر على ممارسة حق الرفض أو الفيتو على بعض الأسماء المطروحة من الحزب الوطنى والقبول ببعضها الآخر. وأظن أن المعيار الأساسى فى القبول أو الرفض سيكون الحفاظ على المكانة المتميزة للقوات المسلحة من حيث التدريب والتسليح والامتيازات حتى لو كان رئيس الدولة مدنيا، شرط أن يكون ذا حس عسكرى عالٍ.
وهناك ثانيا: الحزب الوطنى والذى سيسعى لأن يطرح بديلا لمن يشغل المنصب الخالى من بين أعضاء الهيئة العليا للحزب، وبحكم تطورات ما بعد عام 2002 سيكون الاسم الأكثر ترددا هو اسم جمال مبارك، والذى سيجد نفسه «مضطرا» لقبول المنصب بحكم «المسئولية التاريخية» و«مقتضيات المرحلة» و«نداء الشعب» ومقولات «التكليف لا التشريف»، التى عادة ما يروج لها فى مثل هذه الظروف. وفى هذا المقام، سيكون على الحزب أن يحصل على موافقة المؤسسة العسكرية والتى غالبا ما ستقبل بهذا البديل الذى يستوفى الشكل الدستورى بحكم عدم وجود اسم عسكرى بديل يحظى بالقبول المدنى والعسكرى ويستوفى اشتراطات المادة 76 المعدلة مرتين. وحتى وإن ظهر هذا الاسم فإنه من الممكن أن يدفع به فى منصب نائب لرئيس الجمهورية دون أن يكون الرئيس مباشرة بحكم الحاجة لوجود رئيس مدنى «منتخب» يعطى إشارات خارجية واضحة بأن الإصلاح السياسى قد أفضى إلى تغير فى نوعية القيادة السياسية.
وهناك ثالثا: السفارة الأمريكية بالقاهرة. وهى تمثل دور المتغير الخارجى فى التفاعلات الداخلية. فما من شك أن الولايات المتحدة ستكون طرفا متابعا عن كثب لمن يحتل موقع الرئاسة بحكم مصالحها المباشرة، وكذلك بحكم مخاوف إسرائيل على أمن حدودها الجنوبية. وأغلب الظن أن الولايات المتحدة ستقبل بالاسم الذى سيطرحه الحزب الوطنى مادام أنه يسير على خط الحزب فى العمل على أن يظل أعداء الولايات المتحدة «down» أى تحت قمة الهرم السياسى (حتى فى السجون لو دعت الحاجة)، وأن تظل الولايات المتحدة «in» أى لها سيطرة على المنطقة سواء بالمعنى العسكرى أو بالنفوذ السياسى وأن تظل إسرائيل «up» أى قوية ومتفوقة وأن تضمن لها وجودها حتى وإن اعترضت على توسعها وأن تظل إيران «out» أى ألا تنازع الولايات المتحدة سطوتها وهيمنتها على المنطقة مع التزام الرئيس الجديد اللفظى بالديمقراطية ومقولات اقتصاد السوق، وأخيرا أن يستوفى الحزب إجراءاته الدستورية فى انتخابات «نزيهة» بالمعايير المصرية. وأغلب الظن أن يكون الاسم الأكثر قبولا هو: جمال مبارك أيضا.
وأخيرا، هل يصلح جمال مبارك لحكم مصر؟ وهذا هو السؤال المعضل. وله شقان: على المستوى الشخصى، أعتقد أنه متعلم بشكل جيد ولا شك أنه طرف مباشر فى عملية صنع القرار السياسى فى مصر فى معظم القضايا الداخلية والخارجية بحكم منصبيه الرسمى وغير الرسمى. إذن، هو ليس مبتدئا فى شئون الحكم. أما على المستوى السياسى فإن تولى جمال مبارك لحكم مصر يعنى أن الغد لن يختلف كثيرا عن اليوم لأن أجندته لا تختلف عن أجندة الرئيس مبارك على الإطلاق؛ لكن هناك مكاسب محتملة لتطور الحياة السياسية المصرية؛ فهو أولا: «ليس صاحب أول ضربة جوية فتحت باب الحرية»، فلا شرعية عسكرية تقف وراءه.
وهذا مكسب كبير لأنصار التحول الديمقراطى لأن الانتقال إلى الحكم المدنى من أكبر المعضلات التى تواجه مجتمعات الجنوب. ثانيا: تاريخ جمال مبارك السياسى يجعله منافسا متقاربا فى المستوى والأداء مع قيادات المعارضة سواء الحزبية أو الشعبية، بحكم أن تقارب الرءوس وتناطحها سيوجد منافسة حقيقية لا ضمان فى أن يكون جمال مبارك الحصان الرابح فيها دائما، عكس الوضع لو حكم مصر شخصية عسكرية تقف وراءه المؤسسة الأهم والأقوى فى مصر بما يعنى أن فرصة التحول إلى الحكم المدنى ستكون مؤجلة فى المستقبل المنظور. يبقى أخيرا، على مستوى التنافس الانتخابى، فما هى الفرصة البديلة؟ بمعنى من مستعد لأن ينزل لساحة العراك السياسى على هذا المنصب الرفيع؟ مع الأسف، فإن الأحزاب هشة تنظيميا.
والإخوان مضطربون أيديولوجيا، وأيمن نور ممنوع قانونا، ومحمد البرادعى تعلل بالتأخر عمريا، واللواء عمر سليمان غير حاضر جماهيريا. أما بقية الشعب المصرى فقد أقاله الرئيس عبدالناصر من المشاركة السياسية فاستمرأ الإقالة فاستقال، ولم ينجح أحد بعد فى إقناعه بالعدول عن استقالته.