ماذا يجرى فى مصر.. من أين جاء كل هذا العنف.. من أين جاء كل هذا التشدد والغلو.. أين النكتة المصرية حتى على الذات.. أين الابتسامة عنوان المحبة ومفتاح الأزمات.. هل مصر هى مصر؟
لن أتوقف أمام الصراع السياسى بين الإخوان المسلمين وجبهة الإنقاذ. فالصراع على السلطة أمر طبيعى. ولكن ما ليس طبيعيا أن يسلك الصراع طرقا لم تسلكها السياسة المصرية من قبل. أسوأ هذه الطرق وأخطرها طريق الاحتكار. احتكار الحق، واحتكار السلطة باسم هذا الحق.
قامت ثورة 1952 التى أطاحت بالملكية من دون أن يلقى حجر واحد على القصر الملكى. فكيف تضرم النار اليوم فى القصر الرئاسى وفى المقارات الحكومية الأخرى؟ كيف يرجم مبنى القضاء العالى؟.. وكيف تحرق المكتبات العامة وتحاصَر المؤسسات الإعلامية؟ منذ جلاء القوات الإنجليزية، لم تعرف مصر مشكلة طائفية. فكيف تتواصل الاعتداءات على المسيحيين الأقباط قتلا، وعلى كنائسهم حرقا وتدميرا؟
●●●
إن ما يحدث فى مصر اليوم ليس شأنا مصريا داخليا فقط. إنه شأن كل دولة عربية. لقد تعرّض مسيحيو العراق أثناء وبعد الاجتياح الأمريكى إلى مأساة تجسدها هجرتهم الواسعة. فقد انخفض عددهم من حوالى المليونين إلى أقل من نصف مليون. لم يستدعِ مسيحيو العراق القوات الأمريكية إلى بلادهم. وعندما دخلت هذه القوات، لم يستسووا بها، بل كانوا ضحايا حملات التبشير التى قامت بها كنائس إنجيلية أمريكية رافقت الاجتياح.
وبعد الانسحاب الأمريكى لم يطرحوا أنفسهم طرفا فى الصراع على السلطة. ومع ذلك تعرضوا للاضطهاد والتهجير. وقد خسر العراق بذلك ثروة وطنية. ولوثت هذه الخسارة الكبيرة سمعة الاسلام وألصقت به تهمة رفض التعايش مع الآخر، خلافا لما تقول به العقيدة الإسلامية التى تصف المسيحيين بأنهم أقرب مودة للذين آمنوا.
كان ينتظر أن يأتى الرد الإسلامى على محنة مسيحيى العراق من مصر. لأن مصر الأزهر الشريف، مصر التسعين مليونا، كانت دائما القدوة الحسنة بحكم ما يتمتع به مجتمعها من سماحة وبحكم ما أنعم الله عليها من علماء ومفكرين. ولكن الذى حدث يشير إلى العكس. وهذا العكس لا يعبّر عن مصر التى حملت مشاعل الثقافة والتنوير إلى كل أصقاع العالم العربى. ولا يعبّر بالتأكيد عن مدرسة أزهرها الشريف ولا عن دوره الإسلامى الرائد. فالوثائق الثلاث التى أذاعها وخاصة الوثيقة حول الحريات العامة، بما فيها الحرية الدينية، تؤكد أنه فى وادٍ وأن ما يحدث فى وادٍ آخر. (بالمناسبة أين الوثيقة الرابعة حول المرأة؟) والوادى الآخر ليس وادى النطرون حيث الدير القبطى الذى اعتكف فيه البابا الجديد حزنا واحتجاجا على إحراق الكاتدرائية فى القاهرة وعلى قتل أربعة من أبنائها. إن ما يحدث يصلح أن ينسب إلى جماعة «بوكو حرام» فى نيجيريا، وليس إلى أى جماعة إسلامية فى مصر. مع ذلك لا بد من الإقرار وبكل ألم واستغراب، ان مسرح الجريمة الطائفية الدامية والمدمرة كان أحد أحياء القاهرة وليس أحد أحياء أبوجا أو كانو!
كان من المفترض ومن المؤمل أن تقدم مصر كدولة عربية أفريقية أزهرية المثل الذى تحتذى به دول مثل نيجيريا. ولكن الذى يحدث يقدم مثلا لا يحتذى. فالدولة النيجيرية تطارد جماعة بوكو حرام كجماعة إرهابية، وهى فعلا كذلك. أما فى مصر، فإن الكنيسة القبطية وهى الضحية، توجه الاتهام المباشر والعلنى إلى الدولة بالتقصير.. وربما بما هو أكثر من التقصير. وهنا مكمن الخطر. فإذا كان المسيحى المصرى لا يطمئن إلى حاضره وإلى مستقبله، فكيف يكون شعور المسيحى السورى أو المسيحى العراقى؟ بل كل مسيحى مشرقى؟
●●●
من هنا فإن ما يحدث فى مصر يعنينا جميعا، مسلمين ومسيحيين، وبصورة مباشرة. وبالتالى فإن صرختنا ضد ما يحدث لا تعبر فقط عن حبنا الكبير لمصر وعن حرصنا الشديد على وحدتها الوطنية، ولكنه يعبر أيضا عن حبنا لوطننا وعن حرصنا على الدفاع عن وحدتنا الوطنية.. وعلى صيانتها من تداعيات عدم احترام الحريات الدينية على النحو الذى حدث فى العراق، والذى بدأ يحدث اليوم فى مصر.
فليس من الوطنية فى شىء أن نرفع فى لبنان مثلا شعارات العيش المشترك ونسكت على انتهاك هذه الشعارات فى أى دولة عربية أخرى. فكيف إذا كانت هذه الدولة فى حجم مصر وما تمثله؟
وليس من الإسلام فى شىء أن نردد الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة التى تتحدث عن المسيحيين كمؤمنين وأهل كتاب وحملة رسالة من عند الله، ثم نتجاهل جرائم إحراق كنائسهم والاعتداء عليهم. لقد سبق للمرجعيات الإسلامية فى لبنان، ومن مختلف المذاهب، أن أصدرت موقفا مشتركا اعتبرت فيه العدوان على أى كنيسة بمثابة اعتداء على كل مسجد، وحرمت انتهاك حرمات بيوت الله جميعا. وهو موقف مبدأى نتمنى أن يصدر ــ ويجب أن يصدر ــ عن المرجعيات الإسلامية فى الدول العربية الأخرى، وخاصة فى مصر.
نعرف أن للأزهر الشريف مواقف سباقة فى التأكيد على مثل هذه الثوابت الإيمانية وعلى التمسك بها. إلا أننا نعرف أيضا وبكل ألم إن الأزهر يواجه الآن محنة تستهدف مرجعيته ودوره ورسالته، الأمر الذى يرسم علامات استفهام كبيرة حول «صدفة» تزامن محنة مسيحيى مصر مع محنة الأزهر!
●●●
صحيح أن مصر عرفت حركات تطرف دينى فى السابق كما تعرفها اليوم، ولكن مصر ليست التطرف. بل هى ضحية له. لا تعرف مصر الجبال الوعرة، ولا الوديان السحيقة؛ ولا تعرف البراكين المتفجرة أو أمواج التسونامى العاتية. تعرف مصر نهرا ينساب بوداعة عبر صحرائها وحقولها مثل دمعة فرح على خد عذراء جميلة.. إن مصر التى لجأت إليها عائلة المسيح.. وصاهرها النبى محمد عليه السلام.. مصر التى عرفت التوحيد قبل اليهودية والمسيحية والإسلام، تحتاج إلى أن تكتشف ذاتها وأن تعود إلى مصر من جديد.
كاتب وصحفى لبنانى