ليس من قبيل المبالغة القول إن إسرائيل هى الشرطى الأمريكى فى الملف النووى الإيرانى، حيث أدركت واشنطن أن إسرائيل تستطيع دائما أن تحد من القدرات النووية الإيرانية بما تقوم به من عمليات سواء عسكرية أو سيبرانية، كلما قاربت طهران من تجاوز الخط الأحمر المرسوم لها فى تخصيب اليورانيوم. واستطاعت أجهزة المعلومات والاستخبارات الإسرائيلية أن تجد مساحة حركة فى الملعب الإيرانى، ليس فقط فى الملف النووى، ولكن أيضا فى أنشطة أخرى.
فى غضون الأسابيع الماضية استهدفت إسرائيل سفينة تابعة للحرس الثورى الإيرانى فى البحر الأحمر، وإبان انعقاد قمة جنيف أطلقت هجوما «سيبرانيا» على المفاعل النووى «ناتانز»، الذى سبق أن تعرضت منشآته لعملية عسكرية فى يوليو الماضى. وتهدف إسرائيل إلى الحد من القدرات الإيرانية على تخصيب اليورانيوم، وإعادتها شهورا وربما سنين للخلف. سارعت الولايات المتحدة بنفى أى ضلوع لها فى عملية «ناتانز»، وألمحت الدوائر الإسرائيلية بصورة أكثر وضوحا إلى أن الموساد وراء هذه العملية، ودارت الانتقادات الإيرانية، التى غلب عليها ضبط النفس، إلى اتهام إسرائيل وحدها. ويبدو أن تل أبيب حريصة أكثر من أى وقت مضى أن تعلن عن العمليات التى تقوم بها، البعض يفسر ذلك بالصراع بين جنرالات جيش الدفاع والموساد، والبعض الآخر يفسره برغبة رئيس الوزراء بنيامين ناتنياهو الذى يواجه صعوبات فى تشكيل الحكومة، وتحيط به اتهامات الفساد، أن يجد قضية أمنية عليا تلتف حولها فصائل المجتمع، والجماعات المختلفة. قد يكون كل ذلك صحيحا، ولكن هذا لا ينفى أن إسرائيل لم يعد تقلقها «الردود الانتقامية» مثلما كان الحال سابقا، فقد تستهدف طهران حاوية أو سفينة إسرائيلية بشكل جزئى مثلما حدث أخيرا، لكنها تدرك أن يد إسرائيل تعبث داخل المجتمع الإيرانى. فقد استطاعت ان تغتال اثنين من قيادات تنظيم القاعدة، وأحد الخبراء المهمين فى المجال النووى، وقدمت مساعدات «مهمة» لواشنطن فى اغتيال قاسم سليمانى، وهى بذلك تبعث رسائل قوية بأن إيران ملعب مكشوف للاستخبارات الإسرائيلية. ويبدو أن هذه نظرية مدير الموساد «يوسى كوهين» الذى يستعد لترك موقعه بعد أسابيع قليلة، بأن يجعل دائما إيران تحت ضغط دون توقف. أما الولايات المتحدة، وشركائها الأوروبيون، فهى حريصة على إحياء الاتفاق النووى الذى وقع عام 2015، وأغلق الرئيس السابق دونالد ترامب صفحته، ولذلك زار وزير الدفاع الأمريكى، فى أول زيارة لمسئول رفيع المستوى فى إدارة جو بايدن، إسرائيل لطمأنتها أن الاتفاق النووى مع إيران لن يكون على حساب أمن إسرائيل من ناحية، والتأكيد على عدم التدخل الإسرائيلى لإفساده من ناحية أخرى. ورغم كل ذلك، يبدو أن واشنطن ترحب بما تقوم به إسرائيل من عمليات «محدودة» بهدف الحد من قدرات إيران النووية، وترى أنها وسيلة ضغط على ملالى طهران للجلوس على مائدة التفاوض، لأن إدارة بايدن لا تريد أن ترتكن على التدخلات الإسرائيلية وحدها، ولكنها تريد أن تنهى هذا الملف، حتى تستطيع التفرغ إلى الصعود الصينى، والخلافات المتصاعدة مع روسيا، ولا ترغب فى أن تكون هناك جبهات مفتوحة فى الشرق الأوسط، ولاسيما أن إيران تستطيع، وقد استطاعت مرات عديدة، أن تلهب الأوضاع الإقليمية خارج الملف النووى، وهو ما تخشاه واشنطن، وتتحسب له تل أبيب، وتخافه العواصم الخليجية، ولعل الأزمة اليمنية نموذج واضح على ذلك.