التقشف الاقتصادى يقتل ويصيب الناس بالمرض، يخبرنا ديفيد ستوكلر الباحث الرئيسى فى علم الاجتماع بجامعة أكسفورد وسانجاى باسو الأستاذ المساعد فى الطب فى مركز الوقاية بستانفورد. يقول ستوكلر فى مقال تحت عنوان «كيف يقتل التقشف؟» بجريدة نيويورك تايمز فى 12 مايو: «كدارسين للصحة العامة، راقبنا بذعر السياسيين يتناظرون بلا نهاية عن الديون والعجز دون أى اعتبار للتكلفة الإنسانية لقراراتهم. وعلى مدى العقد الماضى، نقبنا فى بيانات واسعة جدا من العالم كله لكى نفهم كيف تؤثر الصدمات الاقتصادية على الصحة، من الكساد العظيم إلى نهاية الإتحاد السوفييتى إلى الأزمة الآسيوية إلى كساد 2008 وما بعدها. ما وجدناه هو أن الناس لا تمرض وتموت بشكل حتمى لأن الإقتصاد يتداعى. لقد اكتشفنا أن السياسة المالية للحكومة يمكن أن تصبح مسألة حياة أو موت».
فى اليونان، وهى فى قلب الأزمة الاقتصادية العالمية، انخفضت ميزانية الصحة 40%على مدى 6 سنوات بغرض تخفيض العجز فى الانفاق الحكومى والاستجابة لشروط الترويكا: صندوق النقد الدولى والإتحاد الأوروبى والبنك المركزى الأوروبى. وفقد 35 ألف طبيب وممرضة وظائفهم. بينما ارتفع عدد نزلاء المستشفيات بجنون تراجع مخزون الدواء المتاح فيها. تضاعفت إصابات اليونانيين بالأيدز وارتفعت نسبة وفيات الأطفال 40%، وعادت الملاريا التى كان قد تم القضاء عليها ببرنامج حكومى لأول مرة منذ نهاية السبعينيات فى جنوب اليونان. فى المقابل يقول الباحثان فى دراستهما/كتابهما الصادر حديثا بعنوان «اقتصاديات الجسد..لماذا يقتل التقشف؟» إن آيسلندا، التى مرت بانهيار إقتصادى حاد فى 2008 تفادت هذه الكوارث بعد أن أخضعت سياسات التقشف لإستفتاء عام وتفادت تقليل الإنفاق على الصحة، فلم يفقد أحد حقه فى الصحة والدواء وتعافى الإقتصاد.
التقشف وصحة المصريين
يقول برنامج المرشح الرئاسى محمد مرسى إن «المواطن المصرى الذى يتحمل 75% من تكاليف العلاج فى مصر، وينفق 11% من دخله على العلاج، والذى يعانى من أعلى معدلات المرض والإصابات فى العالم، له الحق أن تتوافر له الخدمات الصحية الوقائية والعلاجية والإسعافية دون إحداث أعباء مالية مرهقة، ودون المساس بكرامته». ويقول مشروع خطة التنمية الاقتصادية 2013/2014 الذى تقدمت به حكومة قنديل بالنص عن الصحة: «ومن أهم التحديات التى تواجه القطاع تواضع الانفاق العام على الصحة ما بين 4 و5% من جملة الإنفاق العام، وهى اعتمادات غير كافية لتغطية الإحتياجات الصحية للفئات منخفضة الدخل ولمواجهة المشكلة السكانية والأمراض المزمنة عالية التكلفة». ويعد برنامج الرئيس المنتخب بزيادة ميزانية الصحة إلى 12% من الإنفاق العام بنهاية فترته الرئاسية بناء على ماسبق. فماذا حدث؟
على مدى العامين الأولين من فترة الرئيس مرسى تبقى نسبة الإنفاق على الصحة كما هي: 4.9%، وهى النسبة التى تصفها نفس الحكومة التى وضعت الموازنة بأنها متواضعة وغير كافية. ويضع ذلك شكوكا كبرى حول إمكان رفع النسبة إلى 12% فى السنتين المتبقيتين من حكم الرئيس مرسى (إذ تنتهى موازنة 2013/2014 التى تناقش حاليا آخر يونيو 2014).
ولكى نضع أوضاعنا فى السياق لابد من المقارنات. فى اليونان، وبعد الأزمة الاقتصادية وبعد التقشف المميت، تبلغ نسبة الإنفاق على الصحة من الناتج المحلى (وليس فقط من الإنفاق العام) 10.8% ونصيب الفرد منه 1160 دولار (أرقام منظمة الصحة العالمية 2011)، أما تونس فتبلغ 6.2% من الناتج المحلى ونصيب الفرد 584 دولارا. وأما فى الولايات المتحدة، التى يقول الباحثان إن الأزمة والتقشف فيها يقتلان الناس، فتبلغ نسبة الإنفاق على الصحة من الناتج المحلى 17.9% بمعدل 8608 دولارا للفرد فى السنة. أما فى مصر، بحسب المنظمة الدولية، فالنسبة هى نفسها من الإنفاق العام: 4.9% بمعدل 310 دولارا للمصرى سنويا. ويحتل الإنفاق على خدمات الرعاية الصحية المرتبة الثالثة فى إنفاق الأسرة المصرية يعد الطعام والشراب والمسكن بنسبة 12% من الإنفاق السنوى للأسرة (2012)، فضلا عن أن 45% من السكان ليس لديهم تغطية تأمينية صحية، هكذا تخبرنا خطة التنمية التى تقدمها وزارة التخطيط.
ينطلق برنامج الرئيس المنتخب من ضرورة التوسع فى إنشاء الوحدات الصحية فى المدن والقرى وتطوير المستشفيات الحكومية وتوفير رعاية صحية ذات جودة عالية لكل المواطنين دون تمييز وتتميز بالإستمرارية وبشكل مرضى وتهتم بالجوانب الوقائية إلى جانب توفير الدواء الذى يشمل جميع أصناف القائمة الأساسية بسعر مناسب وفعالية عالية. لكن ألا يحتاج هذا تمويلا؟ مع بقاء وضع موازنة 2013/2014 على نفس وضعية ماقبل مبارك يصبح كل هذا طى النسيان. بل إن الموازنة التى تعتمد التقشف منهجا وسبيلا لتخفيض عجز الموازنة تزيد الوضع سوءا بما تقتضيه وتنفذه من تخفيض لقيمة الجنيه وتقليص للدعم بحسب شروط حزمة التقشف مما يخفض من الدخل الحقيقى للمواطن الذى ينفق منه 11% على الصحة بالإرتفاع الهائل فى الأسعار، الذى يضرب بالأساس الفقراء، الذين لا يتحملون تكلفة العلاج أصلا، فيمرضون ويموتون. (الإطلاع هنا واجب على مقالى الطبيب الكاتب والزميل الصحفى الصديق محمد أبوالغيط الشديدى الإيلام والرقة فى المصرى اليوم: الأسباب الطبية لتكفير الدولة المصرية، ومن مذكرات قاتل غير محترف).
أوقفوا القتل
أول ما ينحو له البشر الذين يتمعون بالرشاد والحس السليم هو الحفاظ على الحياة. وعندما تتجاهل السياسة الاقتصادية هذه الفطرة البشرية فإنها تتحول إلى قاتل مع سبق الإصرار والترصد. يقول لنا من يصيغون السياسة الاقتصادية إنه لا توجد موارد لتمويل الموازنة وإن الهدف الآن هو تقليص عجز الموازنة.
عالميا، وبدون أى ثورات، فى عام 2000، بدأت الأمم المتحدة ومنظمة التعاون الإقتصادى والتنمية فى النظر فيما يسمى بالإبداع فى تمويل التنمية مدفوعين بالفشل المتوقع فى إنجاز أهداف الألفية التنموية فى الصحة والتعليم والفقر. من هنا بدأ النظر فى مبادرات لتمويل المساعدات الدولية للدول المحتاجة من ضرائب تفرض على التلوث (ضريبة الكربون)، وضرائب تفرض على البنوك وعلى تعاملات البورصة وتداول المشتقات والمتاجرة فى العملات وعلى وقود الطيران وتذاكر الطائرات، وإجراءات تتعلق بمبادلة الديون من أجل الصحة والتعليم. وتقوم هذه المبادرات، التى لا تتحدى على الإطلاق بنية السيطرة الإقتصادية ولا المصالح الكبرى المسيطرة على الاقتصاد العالمى، على مصدرين للتمويل: المستفيدون من العولمة كالقطاع المالى، مما قد يعمل أيضا على ترشيد فورته التى فجرت الأزمة العالمية، والمسئولين عن تلوث الكرة الأرضية كمنتجى الأسمنت وشركات الطيران.
هذا المنطق يصلح محليا فى مصر أيضا. وقد ينقذ حيوات وأجيال من المرض والموت إذا بدأ تطبيق مثل هذه الإجراءات الإصلاحية البسيطة. ولن نتكلم هنا عن إعادة هيكلة الموازنة لتحقيق الفلسفة التى تتبناها خطة وزارة التخطيط: النمو المنحاز للفقراء، والتى تقول بالنص: «إن استهداف العدالة الاجتماعية يمكن أن يحقق نموا أعلى من نظيره حال تبنى إستراتيجية تركز فقط على مفهوم تطور الناتج المحلى الإجمالى لتحقيق النمو». ولن نتكلم عن إعادة توزيع ثروة الشعب المنهوبة، ولن نتكلم عن إعادة دراسة أولويات الإنفاق العام نفسه وأبلغ مثال عليها ماقدمه الأطباء بالنسبة لميزانية الصحة الحالية بإصلاح إنحيازها الفاسد لموظفى ديوان الوزارة الكبار.
تحتل مصر المرتبة 145 عالميا من حيث معدلات دفع الشركات للضرائب بحسب تقرير «دفع الضرائب 2013 الصورة العالمية»، الذى تصدره برايس ووتر هاوس مع مؤسسة التمويل الدولية. ويقول التقرير إن معدل الضريبة المتوسط على الأرباح يبلغ 13.2% مقابل 25.8% على العمل.
ماذا أهم من صحة المصريين؟ كان هذا التساؤل عنوانا لحملة تحاول الضغط من أجل زيادة الإنفاق العام على الصحة فى مصر. فكانت إجابة حكام مصر: دعم الصادرات أهم (تم الإبقاء عليه دون تغيير أنظمته حتى عند 3.1 مليار جنيه)، وطمأنة مستثمرى البورصة حيتان مرحلة مبارك أهم (فتم إلغاء ضرائب مشروعة ومتعارف عليها عالميا على الدمج والاستحواذ وعلى التوزيعات النقدية وعلى الأرباح الرأسمالية والاحتفاظ بضريبة متهافتة على التداول تدر ملاليم لذر الرماد فى العيون)، وكانت إجابتهم أيضا رفع ميزانيتى ديوان عام وزارة الداخلية ومصلحة الأمن والشرطة بقيمة 710 مليون جنيه، و4.1 مليار جنيه إلى 4.9 مليار جنيه و18 مليار جنيه على التوالى.
كانت المصالح الأساسية التى تتحكم فى الإقتصاد تمنع نظام مبارك وحكومة نظيف من رصف طريق كالمحور بكفاءة. حاولت مرة تلو المرة رصف سكة رئيس الوزراء وحكومته اليومية وعبأت كل جهودها وراءه لكنها لم تنجح فى إنقاذه من المطبات والعيوب لأن حتى مثل هذا العمل البسيط أصبح غير ممكن بكفاءة فى اقتصاد محسوبية الشركات الكبرى والإحتكارات والفساد. نفس المصالح تمنع الآن حتى من إتخاذ إجراءات إصلاحية تستجيب لأبسط الغرائز البشرية: الحفاظ على الحياة. الشعب يريد تغيير النظام.