راحت السكرة وجاءت الفكرة. وهاهى الاراضى، والاستثمار فيها، تعود إلى مقدمة اهتمامات الرأى العام. لكن النقاش الجديد يختلف كثيرا عن وقت فورة النشاط العقارى فى سنوات ما قبل الازمة العالمية، والذى دفع أسعار الاراضى والمساكن إلى السماء. هذه المرة عادت الاراضى ولكن فى تحقيقات قضائية، ومناقشات برلمانية، ومناوشات داخل الوزارة، وبين اجهزة الدولة وبعضها.
كلها تدور عن الفساد وشبهات تعارض بين مصالح بعض الوزراء والنواب وقياديى الحزب الوطنى الحاكم بصفاتهم تلك، وبين مصالحهم كأصحاب شركات أو مساهمين فى شركات تشترى الاراضى من أجل «تطويرها».
واذا كان مكان اثبات الفساد من عدمه هو ساحات النيابة والقضاء والاجهزة الرقابية، برغم ان حضور السياسة فى هذه الساحات أساسى، فإن شبهات تعارض المصالح مؤكدة بما لا يدع مجالا للشك. لكن مالم يتعرض له الجدل الساخن فى مصر فى الايام الماضية حول أراضى مدينتى وآكور وآمون...وغيرها، لم يتجاوز هذين المسألتين لما هو اهم منهما: عمران مصر، كما اسماه رئيس مجلس ادارة الاهرام، د.عبدالمنعم سعيد فى مقالتين له فى الاهرام.
الخلاصة الخطيرة لما قاله خبير العلوم السياسية المحنك، هو انه بغض النظر عن حكم القضاء والجهات الرقابية فى مدى قانونية تقييم الاراضى واسعارها ومدى تعارض المصالح، فإن شركات المقاولات، التى تسمى نفسها شركات التطوير العقارى، قد قامت برسالتها فى عمران مصر بطولها وعرضها، وهو ما يؤكد أنه كان ليؤدى إلى كارثة لو لم يحدث، ولاختفت بذلك «مدن السادس من أكتوبر، والقاهرة الجديدة، وبدر والشروق والعبور والسادات، و15 مايو والعاشر من رمضان والفيوم الجديدة وبرج العرب الجديدة، وبنى سويف الجديدة والمنيا الجديدة»...الخ.
وبرغم ان هناك مغالطة كبيرة فى ان من قام بجهود العمران تلك هو فى الاغلب الدولة، ومن أموال دافعى الضرائب، فى مقابل عمران المجتمعات المسورة فى بالم هيلز واليجريا وقطامية هايتس، الذى قامت به الشركات لخدمة «مجتمعات الصفوة والنخبة» كما كانت تصر اعلاناتها ليل نهار. الا ان هذا النمط من التعمير، حتى الذى قامت به الدولة، يجافى الشروط الاساسية للتنمية.
وفى مقال على صفحات الشروق استعرض استاذى، د. مصطفى كامل السيد خبير التنمية السياسية البارز، الفشل التنموى البالغ واهدار الموارد التاريخى، الذى قامت به الدولة فى استثماراتها الهائلة فى ساحل مصر الشمالى.
وتنكشف أكثر حقيقة العمران، الذى يتحدث عنه الدكتور سعيد، باستكمال صورة ما حدث فى مصر خلال العقدين الماضيين.
فهذا العمران، مثله مثل أماكن كثيرة فى العالم، ولكن فى صورة اعنف واقسى، كان معناه انتصارا لمدينة من نوع جديد: هى مدينة الليبرالية الجديدة، مدينة حرية السوق غير المقيدة. ونستطيع ان ندرك حجم التشابه وسببه عندما نعرف انه فى دولة كالمكسيك، خرج إلى العالم فى السنوات الاخيرة ١٦ ملياردير، منهم كارلوس سليم، اغنى رجل فى العالم، بينما تجمدت دخول فقرائها او تراجعت.
وعكس عمرانها ذلك فيما يصفه الباحث مارسيلو بالبو عندما يتحدث عن عاصمتها فى دراسة له بمجلة «ثيرد وورلد بلانينج ريفيو، قائلا: «انقسمت إلى اجزاء منفصلة، تبدو وكأنها فى شكل دول صغرى. ضواح غنية بها كل الخدمات: مدارس على اعلى مستوى، ملاعب جولف وتنس، وقوات شرطة خاصة تجوب انحائها على مدار الساعة.
فى مقابل مستوطنات تقوم حيث يجد الناس الماء دون صرف صحى وحيث يحصل القلة على الكهرباء او يسرقونها، وحيث الطرق هى مدقات ترابية او طينية وحيث اقتسام المنازل بين اسر عديدة هو القاعدة. وكل وحدة مستقلة من تلك تعيش وتعمل بشكل ذاتى، ملتصقة بكل قدرتها بما امكنها انتزاعه فى معركتها اليومية من أجل البقاء”. ألا يصف الباحث المكسيكى الفارق بين بالم هيلز وبين المرج؟
فى دراسة عن العشوائيات فى مصر، فى مايو ٢٠٠٨، يرصد مركز معلومات مجلس الوزراء أن عدد سكان العشوائيات فى مصر قدر بنحو ٦.٢ مليون شخص، عمروا مصر لانفسهم وبانفسهم، قفز إلى ١٣ مليون نسمة فى عامين، ٤٧٪ منهم يعيشون حول القاهرة. لم ينل هؤلاء الملايين اى شيء لا من الاراضى مخفضة الاسعار ولا من الخدمات التى مدتها الدولة على نفقة دافعى الضرائب، بينما تقول الدراسة ان الاماكن التى يعيشون فيها برغم اختلافها فى المكان والمساحة وحجم السكان ومستوى الخدمات الا انها “تشترك فى معاناتها من مشاكل اساسية يمكن تلخيصها في: صعوبة توفير المرافق والخدمات الاساسية، وانتشار التلوث البيئى، وارتفاع الكثافة السكانية، وتدنى مستوى الخصائص السكانية، بالاضافة إلى افتقار تلك المناطق إلى وجود شبكة طرق متكاملة تربطها بالمحاور الخارجية”. لكن هل تتركهم رسالة العمران، التى يدافع عنها الدكتور سعيد، فى حالهم؟
بالطبع لا. فهذا النمط من العمران، الذى يقوم على مصالح الشركات وارباحها يقوم على موجات متتابعة من اعادة التخطيط العمرانى، لاعادة توزيع هذه الثروة الكامنة. فنمو المدن الكبرى يخلق من هذه الاراضى، التى لم تكن لها قيمة، ثروة كبيرة. لكن وجود العشوائيات، وسكان العشوائيات فوقها، يهدر هذه الثروة، من وجهة نظر الارباح، لانه يقلل قيمة الارض بوجود هؤلاء الفقراء فوقها.
وهنا تجيء اعادة تخطيط العشوائيات بطرد هؤلاء من الارض قسرا، احيانا مقابل تعويضات ضئيلة واحيانا لا، من اجل اقامة فنادق ومراكز حضارية مالية وغير مالية من قبل الشركات الكبرى. (اخر حلقات هذه السياسة هو ما يجرى حاليا فى عشوائيات ماسبيرو).
ان هذا النوع من العمران، الذى هناك تلميح بانه يمكن أن يبرر هذا القدر او ذاك من الفساد، او قد يعفى من المسئولية بقدر او بآخر، يحرمنا من أحد حقوق الانسان الاساسية فى عالمنا الجديد، الذى يحكمه السوق المتحرر من كل قيد: حقنا فى المدينة، كما يسميه الاقتصادى والجغرافى البريطانى ديفيد هارفى.
الحق فى المدينة، الذى يطالب كثيرون فى العالم بضمه إلى حقوق الانسان الاساسية، هو اكثر بكثير من حق المواطن الفرد فى ان يحصل على الخدمات الاساسية. انه الحق فى تغيير انفسنا والعلاقات الاجتماعية والسياسية التى تحكمنا لتغيير المدينة التى نعيش فيها بقيمها والعلاقات بين قاطنيها.
وهو حق لا يمكن فصله عن الديمقراطية، اذ انه لا يمكن صيانته الا عبر اعادة صياغة جماعية ديمقراطية للاجتماع والسياسة. الاغلبية لا يفضلونها بائرة بالتأكيد لكنهم يفضلون التنمية أكثر.