عاد الجدل بنفس حروفه وكلماته وسطوره وأسئلته وخلافاته، هل يقبل المعارضون دخول الانتخابات الرئاسية ٢٠١٨ أو أى انتخابات أخرى تقام تحت إدارة النظام السياسى الحالى؟ ألم يتعلم هؤلاء من خبرة السنوات القليلة الماضية أن قواعد اللعبة السياسية والانتخابية غير عادلة وتفتقر للنزاهة؟ ثم من قال إن هناك انتخابات رئاسية ستعقد فى ٢٠١٨ من الأصل؟ ألم يحدث مسبقا وتم تأجيل الانتخابات البرلمانية أكثر من مرة بالتحايل على النصوص الصريحة للدستور والذى بدوره تم فى بيئة شديدة الاستقطاب تم فيها تخوين العازمين على رفضه والتضييق على حملاتهم لينتهى بالحصول على موافقة ٩٨.١٪ من إجمالى المقترعين؟ ثم وهل نعرف أصلا متى تتم الانتخابات المحلية؟
الحقيقة أن الأسئلة السابقة تحمل وجهة نظر معتبرة وتعبر عن حقائق لا يمكن التشكيك فيها، لكن هذه الأسئلة تجرنا لمجموعة أسئلة أخرى فى غاية الأهمية: كيف سيتم التغيير إذن؟ هل نحن فى انتظار ثورة شعبية؟ أم أننا بصدد تغييرات من داخل الدولة مفاجئة وعنيفة؟ أو ربما يتحقق التغيير بمبادرة من داخل السلطة وبشكل سلمى ورشيد؟ أم هل ينتظر البعض تدخل بعض الأطراف الخارجية بالضغوط المباشرة أو غير المباشرة؟
علم السياسة لا يملك مختبرا لإجراء التجارب واستخلاص النتائج، ولكن عوضا عن ذلك يستخدم التاريخ والمقارنة باعتبارها أدوات منهاجية لتعلم الخبرات ومن ثم القدرة على تعميم النتائج وتحديد الخيارات!
***
فى تجارب التحول الديموقراطى، على اختلاف درجة نجاحها وسرعة تحقيق هذا النجاح، فإن كل الخيارات كانت متاحة واختلفت طريقة هذا التحول من دولة إلى أخرى! فى دول أوروبا الشرقية كانت الثورات ثم التراجعات ثم التفاوض والمساومات والتى تحددت نتائجها بقوة كل فاعل سياسى على الأرض فضلا عن الاعتبارات الدولية بالقطع! فى دول أمريكا اللاتينية تنوعت الإجابات، فى الأرجنتين تم التغيير من خلال انتخابات تعددية بعد هزيمة الجيش فى حرب فوكلاند وتخلى الولايات المتحدة عن الدعم، وأخذت التجربة سنوات طويلة حتى تمكنت من تحقيق نجاجات محسوسة! أما فى البرازيل، ففشل الحكم العسكرى فى تحقيق إصلاحات اقتصادية وأمنية حمل المؤسسة العسكرية هناك بفواتير باهظة تصاعدت مع انتهاء الحكم العسكرى فى الأرجنتين الجارة وانتهت بتخلٍّ شكلى للمؤسسة العسكرية عن السلطة ثم تخلٍّ تدريجى حقيقى باستخدام واجهات مدنية، ثم تراجع السيطرة بعد التفاوض على ضمانات مؤسسية واقتصادية مع المدنيين، حتى بدأت التجربة تنطلق فى التسعينيات وتحققت نتائج ملموسة فيما بعد مع حكم لولا دا سيلفا مع مطلع الألفية الثالثة!
أما فى تشيلى، فإن الضغوط الدولية والإقليمية فضلا عن المعارضة الداخلية وتدخل الكنيسة الكاثوليكية والبابا شخصيا بعد سنوات طويلة من حكم بينوشيه قد أجبر الأخير على إجراء استفتاء على بقائه فى الحكم من عدمه وانتهى الاستفتاء برفض استمراره فى السلطة فغادر بعد عام كامل تفاوض خلاله مع المعارضة على تسليم السلطة بضمانات عديدة وخروج آمن ليحصل بعد ذلك على مقعد برلمانى دائم مدى الحياة وتقام له جنازة عسكرية بعد وفاته!
***
قبل ذلك بعقود كانت التدخلات العسكرية الخارجية هى الأكثر حسما فى تجارب التحول الديموقراطى كما حدث فى اليابان وألمانيا وإن كان نفس النموذج فشل فى العراق لاحقا! لعب ارتفاع الوعى وظروف الإقليم دورا أيضا فى دفع تجارب إندونيسيا وماليزيا إلى النجاح دون الحاجة إلى تغييرات عنيفة مفاجئة، وهو الأمر نفسه الذى تكرر فى تجارب آسيوية أخرى ولكنه كان أقل نجاحا كما حدث فى الفلبين وتايلند!
فى تركيا تم التغيير عبر سلسلة طويلة من النجاحات والإخفاقات إلى أن حدث استقرار نسبى بتحول ديموقراطى عن طريق إجراء انتخابات عامة فاز بها حزب العدالة والتنمية الذى دفع بنموذج أردوغان الذى تمكن من تحقيق نجاحات سياسية واقتصادية معتبرة حتى بدأت التجربة فى الأفول من جديد منذ عام ٢٠١٤ وحتى الآن!
كما هو واضح من الأمثلة السابقة فلم يكن هناك خيار وحيد أو طريقة واحدة للتغيير، تنوعت طرق التغيير كما تنوعت مستويات النجاح وفى كل التجارب السابقة بلا استثناء ــ حتى تلك التى تمت بتحولات عنيفة أو تدخلات خارجية ــ كانت هناك لحظة زمنية اضطر فيها الأطراف إلى التفاوض، لكن مقدار ما تحقق من نجاحات خلال وبعد عملية التفاوض كان متوقف على مساحة الأرضية الصلبة التى ارتكز عليها كل الأطراف قبل الدخول فى عملية التفاوض (القدرة على الحشد، القدرة على التنظيم، القدرة على المأسسة، القدرة على تقديم بدائل للسياسات العامة، القدرة على التسويق، القدرة على التشبيك)!
***
لكن السؤال الأهم هل حدد الفاعلون السياسيون فى هذه الدول طريقة التغيير أو سيناريوهات التحول ومآلاته؟ الحقيقة أن الغالبية العظمى من التجارب السابقة لم يتفق فيها أو يجمع المعارضون على طريقة التغيير وأدواته وتوقيتاته، تفاعلت العوامل الداخلية والإقليمية والدولية لتطرح عددا لا محدود من الاحتمالات العشوائية اللانهائية كفرص محتملة للتغيير ولذلك اختلفت الوسائل والخيارات والمآلات من تجربة إلى أخرى مع بعض التشابهات هنا والاختلافات هناك حتى اتخذت كل محاولة نمطا محددا كُتب عنه لاحقا باعتباره «نموذجا» للتغيير. فى الواقع لم يكن هناك أى نماذج أو دروس، لكن كانت هناك خصوصيات لكل حالة، قارئ التاريخ يعرف أن عشوائية الاحتمالات هى جزء من قوانين الحاضر التى تؤدى إلى نتائج تبدو وكأنها حتميات تاريخية عند إعادة قراءتها فى المستقبل على الرغم من أنها ليست كذلك!
لكن هل يعنى هذا أن يقف الفاعلون متفرجين على المشهد فى انتظار عدالة السماء؟
الإجابة هى أيضا بالنفى! فعشوائية الاحتمالات وخصوصيات التجارب ــ والتى هى بالمناسبة أحد أهم عوامل ضعف قدرة العلوم السياسية على التوقعات الدقيقة ــ لا تعنى تثبيط همم الفاعلين السياسيين ولكنها تعنى أن يكونوا من الوعى بحيث يستفيدون من كل مساحة متاحة تمكنهم من تحقيق الشروط اللازمة للتفاوض اللاحق بقوة أكبر على الأرض ومع استعداد لدفع أثمان مختلفة طوال تلك الفترة!
ماذا يعنى كل هذا فى السياق المصرى؟
فى تقديرى يعنى هذا الانتباه وإعادة الاعتبار إلى ثلاث خبرات هامة فى التجربة التاريخية للتغيير، الخبرة الأولى أنه ليس هناك فى الواقع خيارات بين الثورة أو الإصلاح سواء كان الأخير من الداخل أو الخارج! هناك عوامل داخلية وخارجية تتفاعل عشوائيا من الصعب التوقع بها أو حصرها هى التى ستفرض فى لحظة معينة طريقة التغيير والتحول. ثانيا وبناء على الخبرة الأولى فالمطلوب من كل التيارات السياسية والاجتماعية والثقافية المؤمنة بالتغيير أن تتمأسس من خلال استغلال كل فرصة متاحة للتفاعل مع الشأن العام (قضايا حقوقية، سياسات عامة، انتخابات عامة أو محلية، إعلام ورأى عام، تشبيك بينى أفقى أو رأسى) حتى تكون مستعدة فى اللحظة الزمنية التى ستفتح الفرصة للتغيير وستفرض بنفسها وسيلة هذا التغيير على الجميع مع الاستعداد قطعا لدفع الأثمان خلال هذه الفترة. ثم تأتى الخبرة الثالثة والأخيرة والمتعلقة بتحديد مجموعة من الشروط التى تمثل الحد الأدنى الذى يمكن القيام به فى كل لحظة للتفاعل مع الشأن العام! هذا يعنى على سبيل المثال أن الاستعداد لانتخابات الرئاسة المزمع عقدها فى ٢٠١٨ يجب أن يجهز إجابات لأسئلة مهمة منها: متى نشارك / ننسحب من الانتخابات الرئاسية، ولماذا، وبأى تكلفة؟ ما هو الخطاب المطروح خلال تلك المرحلة وحتى لحظة المشاركة أو الانسحاب؟
الاستفادة من هذه الخبرات مع الاستعداد لدفع الأثمان وتجهيز إجابات مبكرة للأسئلة سالفة الذكر تشكل المهمة الأساسية للتيارات الراغبة فى التغيير بدلا من تضيع الوقت والمجهود فى جدليات الثورة مقابل الإصلاح، لأنه لا توجد أصلا خيارات أمام الراغبين فى التغيير سوى بالانخراط فى الشأن العام بكل تفاصيله ومشاكلة وقيوده ومساحاته، ووقتها ستتحدد الآلية والتى سينخرط فيها الجميع لكن ستكون الفروق هامة بين هؤلاء الذين استعدوا وجهزوا وبين هؤلاء الحالمين المنتظرين لهدايا السماء!
الجميع فى مصر سيتفاوض فى مرحلة مقبلة ولاشك عندى فى ذلك! لكن لحظة هذا التفاوض ستحددها مجموعة من الظروف التى لا يمكن التوقع بها الآن، وقوة كل طرف على مائدة التفاوض وقتها ستحددها مساحة الأرض والجمهور والاستعداد بالمحتوى من الآن فصاعدا وهذا ما يجب أن يشغل الجميع بعيدا عن الاستجابة للمظلوميات واللطميات التى أصبحت مجرد وسيلة للابتزاز لا للدفع والتغيير!