هذه السطور ليست تعبيرا فقط عن المأزق الذى تمر به العلوم السياسية فى مصر، ولكنها تعبير ــ أيضا ــ عن مجمل التحديات والتناقضات التى يمر بها المنشغلون بها والدارسون لها والقائمون على تدريسها فى مصر. ذلك أنه ومنذ أن تم إنشاء أول كلية فى مصر لمنح درجة البكالوريوس فى العلوم السياسية عام ١٩٦٠ فإنه وبعد مرور ما يقرب من ٥٥ عاما فإن عدد أقسام تدريس العلوم السياسية قد تزايد بشكل كبير؛ مؤديا إلى تزايد أعداد الخريجين الحاملين لبكالوريوس العلوم السياسية، فيما قلت نسبيا قيمة هؤلاء الخريجين فى سوق العمل مع الوقت سواء لمشكلات عامة متعلقة بسوق العمل وجودة الخريجين والتعليم بشكل عام، أو لأن الدرجة العلمية نفسها لم تعد تعنى الكثير فى دولة مجالها العام مغلق وسياساتها بالضرورة مؤممة.
كانت يناير بمثابة قبلة حياة للعلوم السياسية فى مصر، فمن ناحية قد أدت إلى زيادة الطلب عليها بعد أن بدا لوهلة أن عملية تأميم السياسة والمجال العام قد انتهت دون رجعة وأن البلاد فى حاجة إلى«متخصصين»، ومن ناحية أخرى فقد أدت الثورة إلى دفع مجالات جديدة للبحث والتحليل فى مصر لم تكن على أجندة باحثى ودارسى السياسة بقوة قبل الثورة مثل دراسة الحركات الاجتماعية وتأثير الأطراف على المركز، والشباب ومواقع التواصل الاجتماعى.. إلخ كانت الثورة محفزة لعلم السياسة فى مصر لأن ينتقل من مرحلة دراسة الدولة ومؤسساتها وترتيباتها القانونية والدستورية إلى مرحلة دراسة علاقات القوة خارج الأطر الرسمية، وهو ما بدا وكأنه دفعة حقيقة لدراسة علم السياسة فى مصر ودفعة إلى مرحلة الدراسات البينية حيث المزج بين المداخل السياسية وأخرى من علم الاجتماع وعلم النفس وهو التحول الذى حدث فى دراسة العلوم السياسية فى الدول الغربية منذ عقود وتأخر كثيرا فى مصر.
●●●
الآن وبعد يونيو ٢٠١٣ فقد عاد علم السياسة فى مصر إلى نقطة البداية مرة أخرى، حيث عاد التركيز على الأطر الرسمية فى ظل بيئة سياسية غير حرة ومجال عام مغلق واستقطاب سياسى واجتماعى حاد لم يعد يترك أى مساحة لتحليل علمى محايد دون غمز ولمز! فى تقديرى هناك خمسة مآزق رئيسية تواجه علم السياسة والمنشغلين به فى مصر:
أولا: بين الدولة والمجتمع.. ذلك أن هزيمة ثورة يناير عبرت بوضوح عن انتصار الدولة ومؤسساتها وأجهزتها وترتيباتها على الفاعلين من غير الدولة سواء عبر هؤلاء الفاعلين عن حركات اجتماعية أو أخرى سياسية حاولت تحدى النظام فى ٢٠١١. هذه الهزيمة تسببت فى اعتبار العديد من هذه الجماعات والحركات «إرهابية» وهو ما صاحبه ضغط إعلامى وسلطوى انعكس على المجتمع وعلى الجامعات المصرية والبحث العلمى بحيث أصبح قرار الاستمرار فى دراسة هذه الجماعات والحركات نوعا من أنواع المخاطرة والمقامرة فتحول عدد من «علماء السياسة» عن دراستها أو نحو تسجيل مواقف سياسية وليست «علمية» بشأنها.
ثانيا: بين القيم والواقعية، ذلك أن المنشغلين بعلم السياسة فى حالة حرب دائمة بين مجموعة القيم والأفكار التى يؤمنون بها مثل الحق والعدل والحرية.. إلخ وبين الواقع القبيح للسياسة فى مصر الذى لا يعرف بكل تأكيد هذه القيم. هنا يكون المرء فى حيرة من أمره، هل يواصل تحليل الظواهر السياسية على مقياس هذه القيم فتبدو تحليلاته مثالية أخلاقية بعيدة عن الواقع، أم ينشغل بتحليل الواقع والانشغال به فيبدو أكثر انتهازية أكثر منه مهتما بمشكلات مجتمعه الحالية؟
ثالثا: بين السياسة والعلم.. ذلك أن الانشغال بالعلوم السياسية فى الدول غير الديموقراطية يرجح كفة السياسة على كفة العلم، فتجد عددا من باحثى السياسة وقد تحولت مهمته من تحليل الظواهر السياسية وأداء النظام السياسى وتحالفاته إلى «التخديم» على رغبات السلطة والنظام والحاكم، ومن هنا يتحول بعض علماء السياسة إلى مجرد خدم فى بلاط السلطة (أى سلطة) مطوعين النظريات السياسية لخدمة الحاكم مغلفين تلك التصرفات بعبارات متشنجة عن الوطنية والأمن القومى.
رابعا: بين دارسى السياسة وتوقعات المجتمع.. من غير المعقول أن يشرح أستاذ السياسة لطلابه نظريات التنمية والديموقراطية وأخرى متعلقة بالنظام السياسى بشكل عام ثم يتغير الواقع المحيط أو يقول رئيس الدولة بعكس ما يقوله العلم، أو يشن الإعلام حملات تخريب منظمة لأبسط قواعد المنطق والرشد يشارك فيها بعض الزملاء ثم يتمكن هذا الأستاذ أن يتفاعل مع طلابه (المختلط على بعضهم الأمر) بعيدا عن كل ذلك! فإما أن يتجاهل ويحول الفصل الدراسى إلى مكلمة نظرية لا تمت للواقع بصلة وإما أن يشتبك مع الواقع ويجلب لنفسه نظرات الريبة والشك والاتهام بالعمالة والمؤامرة! على أطراف الفصل الدراسى هناك أيضا مجتمع، هو خليط من إداريين ومساعدين وأولياء أمور مضغوطين بسبب ظروف الحياة ومستقطبين بسبب الضغوط السياسية والإعلامية ومحفزين لأى رأى مخالف أو مشتبك مع الواقع المعقد، كيف يمكن التعامل مع هؤلاء؟
خامسا: تحدى المجال العام، حيث أعطت يناير فرصة معتبرة لبعض المنشغلين بعلم السياسة للظهور خارج الدوائر الأكاديمية التقليدية نحو دوائر إعلامية وأكاديمية أكثر اتساعا واشتباكا مع الواقع المصرى ومجاله العام. هذا الانتقال كان له تكلفة باهظة قطعا، تكلفة قد لا يتمكن البعض من دفعها، ثمن يتخطى مجرد بعض التضييقات الإدارية المعتادة إلى حد التهديد الأمنى الذى قد ينهى حياتك الوظيفية وحريتك لسنوات طويلة غير معلومة أو محددة. ثمن قد يصل إلى حد تحرش الأصدقاء والجيران والأقارب بأفكارك وأطروحاتك ويدفعك إلى الانزواء أو المغادرة أو قد ينتهى بك الأمر منافقا للجميع مؤثرًا السلامة!
●●●
عادت مركزية الدولة ومؤسساتها إلى قلب التحليلات والتنظيرات السياسية، كما تنحت النظريات المعيارية لصالح الانشغال بالواقع الفج فى قبحه وهو واقع لا يقتصر فقط على أداء السلطة ومؤيديها ولكنه وصل أيضا إلى حال الكثير ممن يدعون معارضة السلطوية وهم ليسوا أكثر من شموليين فى انتظار الفرصة، طغت الاعتبارات السياسية على التحليلات العلمية فتحولت الأخيرة فى معظمها إلى طبخات نظرية متشنجة للتخديم على السلطة وأجندتها، فى ظل كل ذلك أصبح على المنشغلين بالسياسة مواجهة توقعات مختلفة ومتشابكة لطيف واسع من الطلاب وأولياء الأمور والزملاء والأقارب والجيران ومهما فعلت سيكون «التصنيف» والاتهام من نصيبك!
يتعرض علم السياسة بشكل عام للكثير من الانتقادات على المستوى الدولى كونه علما قاصرا على القيام بأهم أدوار العلم ألا وهو التوقع بمستقبل الظاهرة التى يدرسها ومن ثم يساعد على التحكم بها، ولكن فى مصر فإن الأمر قد تخطى مجرد عدم القدرة على التوقع والتحكم فى الظواهر السياسية إلى مأساة محاولة تحويل هذا العلم إلى أداة سلطوية أقصى أمانيها أن ينظر إليها الحاكم متعطفا ومقررا أن يستخدمها فى تبرير سلوكه الشخصى وسياساته، قليلون يحاولون الإفلات بعلم السياسة من هذا المصير البائس ولكن مصيرهم هم الشخصى يظل غامضا!