منذ ما قبل ثورة 2011، يثور النقاش ويحتد فى مصر حول سد تبنيه إثيوبيا ثم يهدأ ليعود إلى الاشتعال مجددا. كان النقاش فى البداية حول فكرة مثل هذا السد ثم صار حول بناء سد النهضة وأخيرا انصب على تهيئة السد للاستخدام فى توليد الكهرباء، أى تحديدا على الفترة التى سيستغرقها تخزين المياه التى ستولد الكهرباء، ثم على طريقة تشغيل السد. هاتان النقطتان، أى فترة ملء الخزان وطريقة تشغيل السد، هما لب الخلاف الحالى بين مصر وإثيوبيا.
هذا المقال يتناول تسوية الخلاف من منظور مصرى، وهو يفعل ذلك أولا بالنظر فى المنظومة الحاكمة لاستخدام مياه نهر النيل، ثم ينتقل إلى الغرض الرئيسى منه وهو المبادئ التى يجب ألا تحيد أى مقاربة مصرية لتسوية الخلاف عنها.
الملء السريع للخزان يعنى تخفيض حصة مصر من مياه النيل أثناء فترة الملء القصيرة، وهى الحصة المنصوص عليها فى اتفاقية سنة 1959 بين مصر والسودان التى سبق إبرامها الشروع فى بناء السد العالى. هذه الاتفاقية خصت مصر بحصة من مياه النيل تبلغ 55.5 مليار متر مكعب، والسودان بحصة تبلغ 18.5 مليار متر مكعب، وهما حصتان زادتا الحصتين البالغتين 48 مليارا و4 مليارات متر مكعب اللتين نصت عليهما الاتفاقية المبرمة فى سنة 1929 بين مصر، من جانب، وبريطانيا، الممثلة للسودان الإنجليزى المصرى، من جانب آخر. إثيوبيا لا تعتبر أن أيا من الاتفاقيتين ملزمة لها لأنها ليست طرفا فيهما. إثيوبيا لا تعترف كذلك باتفاقية ثالثة مبرمة فى سنة 1902 بين بريطانيا وإمبراطور إثيوبيا جوهرها هو التزام هذه الأخيرة بعدم عرقلة تدفق مياه النيل إلى السودان ومصر. إثيوبيا تعتبر أن هذه اتفاقية استعمارية غير متكافئة، مثلها مثل اتفاقيات أخرى كانت أطرافها قوى استعمارية هى بريطانيا وإيطاليا وفرنسا. غير أن ثمة اتفاقية تجمع مصر وإثيوبيا مبرمة فى القاهرة فى سنة 1993 تنص على مبادئ التعاون فيما بينهما بشأن استخدام مياه نهر النيل بما يحقق مصالحهما الاقتصادية والسياسية واستقرار المنطقة التى يقعان فيها. فى هذه الاتفاقية الإطارية ما يدعم الموقف المصرى، فهى تسكت عن إثارة مسألة حصة مصر من مياه النيل وهو ما يعنى قبول إثيوبيا ضمنا بها، ثم إنها، وللأهمية، تنص على التوالى فى مادتيها الخامسة والسادسة على الامتناع عن أى نشاط يتسبب فى ضرر جسيم لمصالح الطرفين، وعلى الالتزام بالتشاور والتعاون فى شأن المشاريع المفيدة للطرفين. بعدم تشاورها المسبق ثم ببنائها لسد النهضة وعدم التفاتها للضرر الجسيم الذى يمكن أن يلحق بمصر من جرائه، يمكن الدفع بأن إثيوبيا قد خالفت نص وروح المادتين الخامسة والسادسة من الاتفاقية الإطارية. صحيح أن هذه الاتفاقية لم يرد فيها نص على طرائق تسوية النزاعات التى تنشأ بين الطرفين، وهو المفهوم فى اتفاقية إطارية موضوعها التعاون، ومع ذلك فإنه يمكن الاستناد إليها عند الحاجة إلى تسوية النزاعات فى الإطار الأعم للعلاقات الدولية. قبل التطرق إلى هذا الإطار الأعم الذى يمكن لمصر أن تتحرك فيه، وهو يتعلق بعلاقاتها الدولية والإفريقية، ينبغى الإشارة إلى الأساس الأحدث للعلاقات المصرية الإثيوبية بشأن مياه النيل، ألا وهو إعلان المبادئ حول مشروع سد النهضة الصادر فى الخرطوم فى مارس سنة 2015. لقد أحسنت مصر باشتراكها فى إصدار إعلان المبادئ وبتسليمها بمقتضى الفقرة الثانية منه بحق إثيوبيا فى التنمية الاقتصادية وبأن سد النهضة سبيل لها إليها. هذا تسليم يدعم موقف مصر إن استدعى الأمر اللجوء إلى المجتمع الدولى لتسوية الخلاف ولا يخصم منه. مصر لا تنكر على إثيوبيا حقها فى التنمية وهى تنمية لا مراء فى حاجة إثيوبيا إليها. والإعلان ينص على عشرة مبادئ تستند إليها العلاقات بين مصر والسودان وإثيوبيا بشأن السد، كلها مبادئ مهمة ومفيدة، وإن اكتفينا هنا باستعراض ثلاثة منها. هذه المبادئ هى التعاون فى تفهم الاحتياجات المائية لدول المنبع والمصب، والمبدأ الثانى هو عدم التسبب فى ضرر ذى شأن عند استخدام مياه النيل الأزرق، والثالث هو الاستخدام المنصف والمناسب للموارد المائية المشتركة استرشادا بعدد من العناصر منها الاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية لدول الحوض، والسكان الذين يعتمدون على الموارد المائية فى كل دولة من هذه الدول. هذان المبدآن الثانى والثالث مأخوذان عن اتفاقية قانون الاستخدامات غير الملاحية لمجارى المياه الدولية، ومبدأ عدم التسبب فى ضرر ذى شأن بالذات هو مبدأ فى صالح دول مصب الأنهار الدولية، وهى فى حالتنا مصر والسودان. نترك لخبراء القانون الدولى المختصين فيها تقويم الصكوك الحاكمة لمياه نهر النيل، بما فى ذلك إعلان المبادئ وطبيعته القانونية، فهو بالرغم من الخلط فى المصطلحات الواردة فيه بين «الإعلان» و«الاتفاق»، ليس إلا إعلانا، لم يصدق عليه البرلمان المصرى، وبالتالى فهو فى القانون الدولى مجرد قانون دولى رخو، يهتدى به، وله حجيته الأخلاقية والسياسية، ولكنه ليس ملزما للدول الأطراف فيه.
***
كلما احتد النقاش واشتعل بشأن سد النهضة فى مصر، فإنك تسمع كلاما عن التهديد باستخدام القوة بل وعن استخدامها لوقف بناء السد حينا ولهدمه أحيانا أخرى للدفاع عن مصالح مصر، ولحماية مستقبل المصريين ومعيشتهم، وما شابه من حجج تدغدغ المشاعر وتلهب العواطف. هذا كلام لا بد صادر عن غيرة على المصالح الوطنية، ولكن التصدى له وتفنيده واجبان. التعاون وحده على أساس كل من «تفهم الاحتياجات المائية لدول المنبع والمصب» كما أشير إليه أعلاه، و«التفاهم المشترك، والمنفعة المشتركة، وحسن النوايا، والمكاسب للجميع، ومبادئ القانون الدولى» كما يرد فى الفقرة الأولى من إعلان المبادئ الخاصة بالتعاون بين الدول الثلاث هم الذين ينبغى أن يكونوا وسيلة مصر ودليلها إلى تحقيق مصالحها المائية. مجرد التلويح باستخدام «القوة الصلبة»، كما يطالب البعض، هو تقويض لمصالح مصر بل ومصدر تهديد لها.
دعك من الإمكانية العملية لاستخدام القوة، والأهم من ذلك للاستمرار فى استخدامها حتى تؤتى النتيجة المرتجاة منها ضد بلد يبلغ سكانه 112 مليونا. دعك من ذلك، وتصور أثر التهديد باستخدام القوة أو استخدامها ضد إثيوبيا، البلد الإفريقى الوحيد الذى لم يقع فريسة للاستعمار والذى يستضيف مقر الاتحاد الإفريقى ومن قبله منظمة الوحدة الإفريقية، تصوره على وضع مصر فى القارة الإفريقية، قارتنا، وعلى انسياب مياه النيل إلى كل من مصر والسودان فى الأجل الطويل، بعد أن ينتهى أثر استخدام القوة. أم أن استخدام القوة هو إلى ما لا نهاية؟ استخدام القوة من شأنه أن يستعدى مجمل القارة الإفريقية على مصر دون أن يحقق الهدف المفترض له، بل إنه سيقضى على فرص تحقيق هذا الهدف. وبالمناسبة، وإن كان هذا موضوعا مختلفا، هل يمكن أن تحقق مصر هدفها فى الحصول على مقعد دائم فى مجلس الأمن عن إفريقيا فى حالة توسعته إن هى هددت باستخدام القوة ضد إثيوبيا أو استخدمتها؟!
فإن انتقلنا إلى المجتمع الدولى، التهديد باستخدام القوة أو استخدامها يقوضان موقف مصر فيه ويضعفانه. الفقرة الثالثة من المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة تنص على مبدأ تسوية المنازعات الدولية بالطرق السلمية، والفقرة الثالثة من المادة الأولى للميثاق الخاصة بمقاصد الأمم المتحدة تنص على التعاون الدولى فى حل المشكلات الدولية ذات الطبيعة الاقتصادية أو الاجتماعية أو الإنسانية. احترام مقاصد الأمم المتحدة ومبادئها ضرورى تماما لأنه يحقق مصالح الدول متوسطة القوة، خاصة تلك التى تعتمد على المجتمع الدولى سياسيا واقتصاديا مثل مصر. ربما اعترض أحدهم قائلا وماذا عن إسرائيل التى لا تقيم لمقاصد الأمم المتحدة ومبادئها وزنا. إسرائيل وراءها قوة عظمى تحميها من القانون الدولى هى الولايات المتحدة. الدول الكبرى الأخرى بما فى ذلك الدول الأعضاء فى الاتحاد الأوروبى وروسيا والصين لها مصالحها فى إفريقيا وهى لا يمكن إلا أن تستنكر أى استخدام للقوة ضد واحدة من دولها، هى بالإضافة إلى ذلك من كبرياتها.
التعاون الثلاثى مع إثيوبيا والسودان، ثم التعاون الدولى الأوسع هو السبيل الوحيدة لمصر لتأمين الحد الأقصى لاحتياجاتها المائية. نصيب مصر البالغ 55,5 مليار متر مكعب، وهو نصيب مستقر تعاهديا بل وعرفيا، لا يكفى احتياجاتها، فالسكان يتزايدون بمعدل مرتفع يستدعى زيادة مصادر المياه بالتعاون فى الحد من تبخر المياه فى جنوب السودان مثلا. والتعاون ينبغى أن يمتد إلى الصناعة والزراعة والتجارة والتعليم والبحث العلمى فى عملية تكاملية تشمل مصر وإثيوبيا والسودان وجنوب السودان، وربما غيرها من دول الحوض.
***
أما التعاون الدولى فهو لا بد أن يمر أولا بالقارة الإفريقية وتنظيمها الإقليمى. تجاهل الدول الإفريقية والقفز فوقها إلى المستوى الدولى ضار بمصالح مصر. بالتوازى مع تعبئة دول القارة الإفريقية من أجل مساندة التعاون بين مصر وإثيوبيا والسودان فى التصدى لنتائج بناء سد النهضة، يمكن كذلك حشد أعضاء المجتمع الدولى، خاصة القوى الكبرى فيه وتلك التى تربطها علاقات خاصة بمصر وبالقارة الإفريقية، من أجل مؤازرة التعاون بين الدول الثلاث. إلى جانب التحرك السياسى فإن هذا دور للدبلوماسية المصرية أن تلعبه على أن تمنح أدواته وتطلق طاقاتها. العلاقات الدولية الثنائية لمصر، التى نسجتها على مر العقود، أصل له قيمته وهو قوة لها.
وأخيرا توجد الأمم المتحدة فى إطار الباب السادس من الميثاق عن تسوية المنازعات بالطرق السلمية. إن تحول الخلاف مع إثيوبيا إلى نزاع، أو فى لغة المادة 34 من الميثاق، إن أدى الموقف مع إثيوبيا إلى احتكاك دولى أو أثار نزاعا، فإنه يمكن اللجوء إلى الجمعية العامة أو إلى مجلس الأمن الذى يوصى بما يراه ملائما من إجراءات وطرق التسوية، بما فى ذلك تلك غير المنصوص عليها فى إعلان المبادئ، أى التحكيم والتسوية القضائية. فى اللجوء إلى المجتمع الإقليمى الإفريقى وإلى المجتمع الدولى الأوسع، بما فى ذلك الأمم المتحدة، فإن اعتراف مصر بحق إثيوبيا فى التنمية، وتمسكها بمبادئ ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولى، بما فى ذلك وبشكل خاص التعاون فى حل المشكلات الدولية، هذا الاعتراف وهذا التمسك يدعمان موقف مصر ويجعلاها تقف على أرض صلبة. هذه هى الصلابة المطلوبة وليس صلابة القوة.
يبقى أنه طالما كان سد النهضة وآثاره مسألة تتعلق بمستقبل مصر والمصريين، فإن المناقشات العامة بشأنه ينبغى أن تكون مفتوحة وأن تتوفر للمجتمع المعنى وللباحثين المعلومات عن دقائقها وتطور مراحلها. هذه معلومات يعرف بها الطرف المقابل نفسه، إثيوبيا، فكيف تحجب عن المصريين؟ الباحثون والمعنيون يوسعون عملية صنع السياسة ويرفدونها بأبحاثهم وأفكارهم لتستفيد بها فيما بعد الدائرة الأصغر لاتخاذ القرار.
موارد القوة الخارجية والداخلية لمصر تمكنها من أن تسلك نهج التعاون الدولى وأن تحافظ به على مصالحها.