قد يتعجب القارئ من عنوان هذا المقال: هل هو يدل على شىء يرقق القلب فى هذا العالم الملىء بالحروب؟ الحقيقة أن العنوان لا يتكلم عن رقة القلب لكنه يتكلم عن رقائق (chips) الكمبيوتر التى تتحكم فى كل شىء تقريبا فى عالمنا الآن كما سنرى. سنتحدث فى هذا المقال عن تأثير الرقائق على عالمنا سواء من الناحية التكنولوجية أو الاقتصادية أو السياسية. هذا الموضوع الذى قد يظن الكثيرون أنه متعلق فقط بالدول الكبرى ولا ناقة لبقية الدول فيه ولا جمل هو أقرب لكل دولة من حبل الوريد، وهذا المقال سيشرح السبب....
لنبدأ أولا بتعريف ماهية الرقائق، هى باختصار شريحة الكترونية توجد فى جميع الأجهزة الذكية التى نستعملها، فى عصرنا هذا نجدها تقريبا فى كل شىء. نجدها طبعا داخل أجهزة الكمبيوتر وداخل الهواتف الذكية وداخل السيارات الحديثة والطائرات، بل وداخل التليفزيونات وأغلب أجهزة المنزل الحديثة. نستطيع أن نقول إنها العقل المفكر داخل كل هذه الأجهزة. قد يقول قائل: ولكن أليس الذكاء الاصطناعى هو ما يجعل تلك الأجهزة ذكية؟ الإجابة هى نعم ولا تتعارض مع ما قلناه. الذكاء الاصطناعى أساسا نوع من البرمجيات، الرقائق هى التى تنفذ أوامر تلك البرمجيات، أى أن الذكاء الاصطناعى هو «السوفتوير» وتلك الرقائق هى «الهاردوير»، بدونها تصبح الأجهزة الإلكترونية التى نستخدمها فى حياتنا عديمة الفائدة ويصبح الذكاء الاصطناعى مجرد نظريات فى الأوراق العلمية المتخصصة المغلقة على أهل التخصص....
مما سبق تتضح بجلاء الأهمية الاقتصادية لتلك الرقائق، من يمتلكها ويتحكم فيها فهو يتحكم فى مختلف الصناعات والمنتجات، من النادر جدا فى عصرنا هذا أن نجد صناعة أو خدمة لا تعتمد على تلك الرقائق.
بدأ تصميم وصناعة الرقائق فى الولايات المتحدة الأمريكية منذ أواخر ستينيات القرن الماضى، ثم بدأت حرب شرسة بينها وبين اليابان كان الانتصار فيها أولا لليابان، ثم انتشرت تلك الصناعة فى العالم كله وتركزت الآن فى أيدى عدد قليل من الدول على رأسها أمريكا، ثم الصين، ثم اليابان.
كتاب «حروب الرقائق» أو (Chip War) من تأليف كريس ميلر أستاذ التاريخ الدولى والمنشور العام الماضى يعطى التفاصيل الدقيقة التاريخية والحالية عن الحروب (أو لنقل المنافسة) بين الدول للتحكم فى الرقائق تصميما وتصنيعا. هذا يقودنا إلى التأثير السياسى للرقائق....
تأثير صناعة الرقائق على الساحة السياسية كبير جدا. هناك شركة تسمى (TSMC) تقع فى تايوان وتصنع أكثر من نصف انتاج العالم من الرقائق. يجب أن نفرق بين تصميم الرقائق وهذا يتم فى أماكن كثيرة من العالم وتصنيع تلك الرقائق. الصين تريد ضم تايوان وأمريكا حساسة جدا لأى تحرك صينى، وإذا اجتاحت الصين تايوان ستقوم حرب بين أمريكا والصين لوجود هذه الشركة هناك. لاحظ أن أمريكا الآن تحظر تصدير الكثير من الرقائق الأمريكية للصين والتضييق على شركة هواوى الصينية واضح جدا أيضا.
كتاب «موجهين للحرب» أو (Destined for War) للكاتب ذائع الصيت ومستشار عدة رؤساء لأمريكا ومؤسس مدرسة كنيدى للدراسات السياسية بجامعة هارفارد جراهام أليسون يحلل بدقة العلاقة بين أمريكا والصين واحتمالات الحرب بينهما.
فى نفس الوقت تشعر أمريكا أن زمام الأمور فيما يتعلق بتصميم وتصنيع الرقائق أصبح يتفلت من أصابعها. فى التسعينيات كانت أمريكا تمثل 37% من سوق الرقائق، هذه النسبة هبطت إلى 12% فى أيامنا هذه. وقد ظهر هذا جليا عندما ضرب فيروس الكورونا العالم. وقتها لم تستطع أمريكا الحصول على كل احتياجاتها من الرقائق مما أدى إلى زيادة كبيرة فى أسعار السيارات وقيام الكثير من شركات السيارات الأمريكية بتسريح الكثير من العاملين بها.
لذلك كله مرر الكونجرس ثم وقعه الرئيس الأمريكى كقانون ما يسمى (CHIPS) وهى اختصار
(Creating Helpful Incentives to Produce Semiconductors) وتقوم على إنشاء مبادرات وتقوية السوق الأمريكية لإنتاج أشباه الموصلات وهى الرقائق التى نتكلم عنها، هذا القانون تم وضع ميزانية له تقدر بنحو 250 مليار دولار للخمس سنوات القادمة مما يجعله أكبر موازنة لخطة خمسية للأبحاث والتطوير فى تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا إن دل على شىء فيدل على الأهمية القصوى للرقائق فى عالم أصبح على شفا حفرة من نار حروب تملأ جنباته، والرقائق أمضى أسلحته....
قد يقول قائل إن كل ذلك يحتاج دولا كبرى ذات فائض مالى كبير، فماذا نستطيع أن نفعل نحن فى مصر؟ الإجابة عن ذلك تتلخص فى عدة نقاط:
• تصميم الرقائق لا يحتاج مصانع، يحتاج فقط أجهزة كمبيوتر وبرمجيات التصميم وعقول تفكر. نحن نمتلك هذه الثلاثة فى مصر، فلماذا لا نجد شركات فى مصر لتصميم الرقائق وبيع هذه التصميمات؟
• نحن فى وقت نحتاج فيه إلى رقائق مصممة خصيصا للتطبيقات المختلفة للذكاء الاصطناعى، والأجيال القادمة من برمجيات الذكاء الاصطناعى تحتاج إلى رقائق مختلفة عن الجيل الحالى، فهل نحن مستعدون؟
• نحتاج بيئة تشجع على الابتكار وهذا لا يعنى فقط وجود مصادر للتمويل، ولكن يعنى إزالة البيروقراطية الجامدة وتسهيل الإجراءات.
• إنترنت الأشياء تحتاج رقائق سهلة التصميم إلى حد ما ووسائل برمجة متقدمة، لكننا نستطيع ذلك ويمكننا استخدام تلك الرقائق (بعد تصميمها فى الداخل وارسالها للتصنيع فى الخارج) فى الزراعة وفى الطرق وفى المنازل إلخ.
إذا العوامل متوفرة أو سهلة التوفير... فلنبدأ.