مصر قبل مؤتمر شرم الشيخ وما بعده - مصطفى كامل السيد - بوابة الشروق
الإثنين 16 ديسمبر 2024 4:40 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مصر قبل مؤتمر شرم الشيخ وما بعده

نشر فى : الأحد 20 نوفمبر 2022 - 9:00 ص | آخر تحديث : الأحد 20 نوفمبر 2022 - 9:05 م
راحت السكرة وجاءت الفكرة. تلخص هذه العبارة البليغة المأثورة الموقف فى مصر بعد انتهاء النشوة التى صاحبت انعقاد مؤتمر الأطراف السابع والعشرين الخاص بتغير المناخ فى شرم الشيخ، تلك النشوة التى عمت الإعلام المصرى وقطاعات مهمة من المواطنين والمواطنات أسعدها حقيقة نجاح مصر فى الترتيب لاجتماع آلاف من الوفود من مائة وتسعين دولة على الطرف الجنوبى لساحل خليج العقبة وفى مدينة تعتبر درة السياحة فى مصر صيفا وشتاء، وبحضور عدد لا يستهان به من قادة أقوى دول العالم وخصوصا من المعسكر الغربى وفى مقدمتهم رئيس الولايات المتحدة ورئيسة مجلس النواب فيها ــ قبل الانتخابات الأخيرة ــ ورؤساء الدول والحكومات فى فرنسا وبريطانيا وألمانيا. والسعادة بهذا النجاح هو شعور مستحق فأى نجاح تحرزه مصر على أى صعيد هو أمر مطمئن أن فى قدرة الشعب المصرى أن يفاجئ نفسه بمثل هذا التوفيق، حتى وإن اقتصر دور مصر على تقديم التسهيلات، وحتى لو انتهى هذا المؤتمر بالإخفاق فى تلبية تطلعات الحكومات فى دول الجنوب المتضررة من ارتفاع درجة حرارة الجو بسبب أنشطة الصناعة فى الدول المتقدمة فى الشمال والدول الصناعية الجديدة فى شرق آسيا وجنوبها، وحتى ولو كانت نتائجه أقل بكثير مما توقعه أعضاء منظمات المجتمع المدنى العالمى التى تناضل من أجل أوضاع بيئية أفضل على مستوى العالم ككل.
سبب آخر لهذا الشعور بالنشوة سواء فى أوساط الحكومة أو بين قطاعات واسعة من الطبقة الوسطى هو الإخفاق الذريع لدعوة أنصار الإخوان المسلمين وآخرين خارج مصر إلى الخروج فى مظاهرات عارمة احتجاجا على سياسات الحكومة الاقتصادية التى ترتب عليها ارتفاع نفقة المعيشة لكل المصريين والمصريات بلا استثناء والصعوبات البالغة التى يواجهونها فى تدبير أمور حياتهم. وهى دعوة لم يتوقع كثيرون لها أن تنجح، لأنه حتى ولو كان كثيرون من الشعب المصرى يضيقون بلا شك من هذه الأوضاع، إلا أنهم لا يرون أن الاستجابة للدعوة للتظاهر سوف تكون هى الطريق للرخاء المأمول، أو حتى لأوضاع سياسية أكثر رحابة.
ومع انتهاء مؤتمر المناخ وتوارى ذكريات الحادى عشر من نوفمبر يتأمل الشعب المصرى أوضاعه، ويجد أن مصر التى عرفها قبل هذين الحدثين هى نفسها بعدهما، الأزمة الاقتصادية الطاحنة مازالت قائمة، والتحديات التى تواجه الأمن المصرى من خارج الحدود تبعث على القلق سواء من إثيوبيا بمضيها فى استكمال بناء سدها وتوليد الكهرباء منه، أو فى ليبيا بتواجد ميليشيات مسلحة تدعمها تركيا، أو فى شرق مصر واحتمالات تفجر الأوضاع فى فلسطين مع وصول حكومة اليمين المتطرف إلى السلطة فى إسرائيل، وإذا كانت هذه الأوضاع الإقليمية ترتبط بعلاقات القوى فى الشرق الأوسط التى لا يمكن لأى حكومة فى مصر أن تغير منها فى المستقبل القريب، فإن علاج الأوضاع الاقتصادية يتوقف أساسا على ما تفعله مصر، حكومة وشعبا. ولكن على هذا الصعيد الأخير فإن كل الشواهد تشير إلى استمرار نفس السياسات التى أدت إلى الأزمة الاقتصادية؛ وزير المالية يعلن عزم الحكومة على السعى لقروض جديدة تبلغ عشرة مليارات من الدولارات لسد الفجوة التمويلية، وعدد من الوزراء يتفاخر بالحصول على صفقات تمويلية فى مؤتمر المناخ دون أن يبصروا المصريين والمصريات بشروط هذه الصفقات، وقد أعلنت الحكومة أيضا عن الشروع فى بناء أبو قير الجديدة على جزيرة فى البحر الأبيض المتوسط، ولكنها لم تعلم الشعب المصرى، كالعادة، بأى دراسات جدوى جرت على هذا المشروع.
ولكن ماذا عن الاتفاق مع صندوق النقد الدولى؟
قد ينبهنى بعض القراء أن الجديد حقا أن الحكومة المصرية قد توصلت إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولى يعد الصندوق بمقتضاه أن يقدم دعما للحكومة المصرية بمقدار ثلاثة مليارات من الدولارات على فترة ٤٦ شهرا أو قرابة أربع سنوات، كما يمكن للحكومة بموجب هذا الاتفاق أن تطلب تمويلا إضافيا بمقدار مليار دولار من حساب آخر فى الصندوق، وأن تسعى للحصول على قرض من مجموعة أصدقاء مصر بمبلغ خمسة مليارات من الدولارات. وفى مقابل ذلك تلتزم الحكومة المصرية بالأخذ بعدد من الإجراءات يفترض أنها ستضع مصر على طريق النمو المستدام، منها قيام البنك المركزى بالإدارة المرنة لسعر صرف الجنيه المصرى، وهو ما أدى بالفعل إلى انخفاض قيمته فى مقابل العملات الدولية وفى مقدمتها الدولار، وأن تسعى الحكومة إلى خفض العجز فى ميزانيتها وعلاج اختلالات الاقتصاد الكلى والنتائج المترتبة على الحرب فى أوكرانيا وحماية مستويات المعيشة، والدفع نحو تحقيق إصلاحات هيكلية وحوكمة عميقة لتعزيز النمو الذى يقوده القطاع الخاص وتوفير الوظائف. تأمل الحكومة أن يكون هذا الاتفاق بمثابة ضوء المرور الأخضر الذى يسبق تدفق الاستثمارات الأجنبية فى مصر. ويذهب بعض المتفائلين إلى الاعتقاد بأن هذا الاتفاق هو المقدمة لتحول الاقتصاد المصرى بالفعل إلى اقتصاد القطاع الخاص. ومما يعزز هذا الاعتقاد فى رأيهم عزم الحكومة على التخارج من عدد من الأنشطة الاقتصادية كليا أو جزئيا وتركها للقطاع الخاص المصرى أو لشركات أجنبية كما أعلنت ذلك بالفعل فى وثيقة ملكية الدولة.
بعض هذه الغايات لا يختلف عليها أحد، مثل علاج اختلالات الاقتصاد الكلى كالفجوة فى توفير الاستثمارات للتنمية، والعجز فى ميزانية الدولة، والفارق الكبير بين الواردات التى تتجاوز قيمتها ضعف قيمة الصادرات على الأقل، وكذلك بين العدد الكبير الساعى للعمل وعرض الوظائف المنتجة فى الاقتصاد، فضلا عن غايات نبيلة منها حماية مستوى المعيشة وتعزيز دور القطاع الخاص.
ولكن تثور الشكوك حول أن يؤدى هذا الاتفاق إلى تحقيق هذه الغايات، فالإدارة المرنة لسعر الصرف، والتى ترتب عليها انخفاض قيمة الجنيه المصرى بمقدار الربع تقريبا عن قيمته قبل البدء فى هذه الإدارة المرنة من جانب البنك المركزى كان أثرها المباشر ارتفاع معدل التضخم والذى نتج عنه هبوط مستوى معيشة أغلبية المواطنين والمواطنات، ولم تُجد فى ذلك الزيادات التى أعلنتها الحكومة فى أجور العاملين والعاملات بالدولة ورفع الحد الأدنى للأجور، ونظرا لأن المساعدة التى سيقدمها الصندوق، وهى الأمر الوحيد المؤكد حتى هذه اللحظة هو مبلغ سبعمائة وخمسين مليون دولار كل سنة، وذلك بعد موافقة مجلس إدارة الصندوق فى شهر ديسمبر، والتى لا تتجاوز عشرة فى المائة من الدخل السنوى لقناة السويس لا تكفى إطلاقا للتخفيف من مقدار خدمة الدين الذى يتعين على الحكومة دفعه فى السنوات القادمة والذى يقدر بـ ١٢ بليون دولار فى سنة ٢٠٢٢ وفقا للبنك، ولا للعجز الهائل فى ميزان المدفوعات والذى تراوح بين ٤ و٦ مليارات دولار فى السنوات الأخيرة، ويعنى ذلك صعوبات فى توفير التمويل اللازم لاستيراد حاجات الاستهلاك والمنتجات من سلع استهلاكية ومن مستلزمات الإنتاج. ولذلك فليس من المؤكد أن معدل التضخم والذى وصل إلى ١٦ فى المائة فى أكتوبر ٢٠٢٢ سوف ينخفض فى ظل هذه الظروف فى السنوات القادمة، وهو ما يجعل هدف حماية مستوى معيشة الشعب المصرى أمرا قليل الاحتمال.
وإذا كان هدف تحول الاقتصاد المصرى إلى اقتصاد يقوده القطاع الخاص هو هدف يلقى تجاوبا داخل القطاع الخاص فى مصر، إلا أنه هدف لا يمكن أن يتحقق إلا بتغيير نمط حوكمة الاقتصاد والذى يجعل صنع القرار بالنسبة للأنشطة الاقتصادية فى يد القطاع المدنى سواء كان القطاع الخاص أو العام، ولا توجد بوادر على أن هذا الانتقال نحو هذا الإصلاح الأساسى لعملية الحوكمة الاقتصادية هو أمر محتمل فى المستقبل القريب.
وتكشف تجارب الإصلاحات التى دعا إليها صندوق النقد الدولى إلى أن الأخذ بتوصياته قد أدى فى حقيقة الأمر إلى دخول الدول التى طبقتها فى مرحلة كساد، لأن ما يقدمه كعون، وهو فى الحقيقة قرض مستحق السداد، هو أقل بكثير من الالتزامات التى تتحملها هذه الدول، ويتضح ذلك فى الحالة المصرية التى لن يتجاوز متوسط ما يتوافر من كل عناصرها الثلاث (إجمالى المعونات التى يمكن أن تحصل عليها مصر بموجب اتفاق الصندوق) مليار وربع مليار دولار فى السنة بينما لا يقل حجم التمويل المطلوب لتغطية العجز فى ميزان المدفوعات وسداد خدمة الدين الخارجية عن ستة عشر مليارا من الدولارات فى العام القادم على سبيل المثال. وهكذا فإن المساعدة المؤكدة التى سيقدمها الصندوق لن توقف استمرار معاناة مؤسسات القطاع الخاص فى الحصول على حاجاتها من العملات الأجنبية لتمويل وارداتها من مستلزمات الإنتاج الضرورية لاستمرار إنتاجها الذى كان فى حقيقته عملية تجميع لمكونات إنتاج مستوردة بدلا من أن يكون قائما على تعميق عملية التصنيع، وهو أمر مطلوب حتى فى ظل عملية عولمة الإنتاج وظهور ما يسمى بالمصنع العالمى، بل وأصبح أكثر ضرورة مع ما أظهرته أزمة سلاسل الإنتاج الأخيرة وجائحة كورونا من مخاطر التعويل على الاندماج المفرط فى الاقتصاد المعولم.
والواقع أن العهد الذى كان البعض ينظر أثناءه إلى صندوق النقد الدولى باعتباره مستودع الحكمة الاقتصادية فى العالم قد ولى وانتهى، فنصائح الصندوق واحدة، وهو يوجهها إلى كل الدول بحذافيرها دونما مراعاة للفوارق المهمة بينها. لو قدر للصندوق أن ينصح الولايات المتحدة أو بريطانيا فسوف يقول لحكومتيهما بضرورة خفض العجز فى ميزانيتهما، وعلاج أى بوادر للتضخم برفع سعر الفائدة، وهو نفس ما يقوله لمصر وما يمكن أن يقوله للأرجنتين أو غانا. وفضلا على ذلك فقد أصبح لدى دول الجنوب اقتصاديوها الذين تخرجوا من نفس الجامعات التى تخرج منها خبراء الصندوق، وتعلموا على أيدى نفس الأساتذة وقرأوا نفس الكتب. ولذلك لا يمكنهم فقط التنبؤ بما يمكن أن ينصح به الصندوق بل يمكن أيضا أن يشيروا إلى أن تحليله خاطئ. ألم يكن تحليله للأزمة المالية الآسيوية فى ١٩٩٧ خاطئا؟ أولم يعجز عن التنبؤ بالأزمة التى هزت الدول الرأسمالية فى سنة ٢٠٠٧ــ٢٠٠٨؟. بل ألم يثبت ماهاتير محمد فى ماليزيا عندما شبت الأزمة المالية الآسيوية أن نصيحة الصندوق بانكماش الاقتصاد الماليزى وحرية تحويل رءوس الأموال الأجنبية كانت نصيحة ضارة؟، ولذلك اتبع العكس تماما، فاتبع سياسة توسعية، وقيد شروط خروج رءوس الأموال الأجنبية، وتمكن أن يعبر ببلاده الأزمة ضاربا عرض الحائط بنصائح الصندوق.
فهل يمكن لنا فى مصر أن نلقى نظرة أوسع على أوضاع اقتصادنا وكيف تجرى حوكمته، وأن نطور نحن وصفة الخروج من أزمته، ونعطى درسا لصندوق النقد الدولى، بدلا من أن نسير وراء نصيحته التى سوف تبقينا على نفس الحال من اقتصاد ريعى يجعلنا تحت رحمة الدائنين؟
أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة
مصطفى كامل السيد أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة
التعليقات