كما حدث بالضبط فى أعقاب اصطدام قطارى قليوب فى ٢٠٠٦ بعد أربع سنوات فقط من احتراق قطار الصعيد، نسمع الآن بعد حوادث القطارات المتكررة فى أسيوط والبدرشين وغيرها تقريبا نفس المنطق والمقاربة عن إصلاح سكك حديد مصر. أولا، إلقاء اللوم على سنوات التدهور السابقة. وقتها قيل أيضا إن وزير النقل محمد منصور استلم الحقيبة للتو ولم يكن لديه ما يفعله، وسط اعتراض بالغ من المعارضة جميعها. وثانيا، قدم الوزير بتأييد كامل من الحكومة خطة واسعة بتكلفة ٨ مليار جنيه للتطوير تقريبا بنفس المعالم المطروحة الآن على استحياء: شراء جرارات جديدة وإصلاح جرارات قديمة، تطوير المزلقانات، ضخ استثمارات بدخول القطاع الخاص فى مشروعات شراكة، وبنفس مصادر التمويل: اقتراض خارجى بالأساس من البنك الدولى.
ووصل الأمر بالبعض للدعوة لخصخصة قطارات الهيئة قطارا قطارا للشركات المعلنة، التى تصبح هى مسئولة عن تطويرها وصيانتها (فيما عدا الجرارات)، على أن يسمى كل قطار باسم شركته. «بدلا من قطار الاسكندرية أو قطار الصعيد، يصبح اسمه قطار البيبسى أو قطار الشيبسى»، على حد تعبير أحد الصحفيين الذى يقدم برنامجا على راديو الدولة مروجا للفكرة. لكن أليس هذا هو نفس المنطلق الذى فشل من ٢٠٠٦ وحتى ٢٠١٣ فى تقديم أى شيء ليس فقط من زاوية تطوير الخدمات وتوسيع مظلتها ولكن حتى فى منع الكوارث التى يموت فيها المئات غيلة؟
السكة الحديد والتنمية والخصخصة
كان طريق العودة للمنزل من مدرسة أبشواى بنين الابتدائية ثم الاعدادية ثم الثانوية بمركز أبشواى بالفيوم يمر عبر محطة القطار، التى كان عدد من الزملاء يصلون من قرية أبوكساء المتاخمة (آخر الخط) للمركز عبرها للدراسة. وعلى مدى سنوات الطفولة، كان العبور على رصيف المحطة، التى بنيت ربما من زمن الاحتلال البريطانى، متعة خالصة. إذ تودع الزملاء، وترمى بعينك على المبنى ذى الطراز الانجليزى. وربما يعثر بعض المشاكسين فى قطار مركون على بعض «بدرة العفريت» فيبدرونها فى ملابس الزملاء مسببين الهرش والحكّة والجرى والمطاردات والضحكات. لكن ونحن نودع الدراسة الثانوية فى ١٩٨٩ بدأت الحكومة والمحافظة فى تنفيذ خطة لإلغاء ورفع الخط، الذى كان ينقل الآلاف يوميا من المركز وعبر عشرات القرى إلى عاصمة المحافظة. وبالطبع، تزامن ذلك مع الترخيص لأسطول من سيارات الميكروباص، ثم ايقاف التراخيص من بعده لفترة محترمة، لحساب «قطاع خاص» تمثل فى شخص واحد.
حالة الفيوم لم تكن متفردة. فقد أدت خطط إصلاح عاطف عبيد ومنصور خلال ١٠ سنوات من ٢٠٠١ إلى ٢٠١٠ إلى انخفاض عدد القطارات ٧٠ ألف قطار بنسبة ١٥٪، وانخفض عدد ركابها بالثلث فى نفس الفترة، بالتزامن مع رفع أسعار التذاكر وإلغاء الخطوط. أما الخطوط التى زادت أعدادها فهى قطارات الأغنياء المكيفة بنسبة ٣٧٪. ومع هذا ظل معدل الحوادث فى ثانى أقدم سكك حديد فى العالم بعد بريطانيا. يدور حول الألف حادث سنويا ما بين ٢٠٠٥ و٢٠١١، وفقا للبيانات الرسمية.
بالمقارنة بهذا الدور المتراجع للسكك الحديدية فى نقل الركاب، وفى نقل البضائع أيضا (وهو ما يمكن أن يؤدى تطويره لتوفير موارد كبرى للهيئة تمول بها نقل الفقراء وتحسين الخدمات لهم إلى جانب الأثر الاقتصادى بتوفير فرص النقل وتخفيض تكلفته)، تعالوا ننظر للوضع الصينى. فى الفترة التى أشرنا إليها نما الاقتصاد المصرى بمعدل ما بين ٥ و٧٪، لكن النمو عكس أثرا سلبيا على السكك الحديدية كما رأينا. أما الصين فتخطط لربط ٤٠ مدينة جديدة بشبكات سكك حديدية داخلية وبينية، مما سيرفع طول الخطوط أربع أضعاف بحلول ٢٠٢٠، فيما يقول محللون إنه فى إطار تصور الحكومة الصينية لتأمين استقرار الاقتصاد بحفز الطلب المحلى فى مواجهة الأزمة العالمية. ولقد زرت محطة القطارات الرئيسية فى العاصمة الصينية مطلع ٢٠١٠، وهى تفوق فى خدماتها ونظافتها وكفاءة وانضباط قطاراتها مثيلاتها فى أوروبا. ويذكر هنا أن الشركات الصينية تصنع أغلب هذه القطارات.
ويرجع جزء من الفارق بين أثر النمو الصينى على وضع السكك الحديدية وبين أثر نمو نظيف عليه بالضبط فى رؤية قطارات «البيبسى والشيبسى» التى تقتل التنمية لحساب الشركات الكبرى بحذف أى مكاسب ولو عابرة للفئات الأفقر التى يقصيها النموذج أكثر فأكثر من الاقتصاد والسياسة لحساب أرباح القلة.
وتحسب وزارة الاقتصاد الأمريكى أن كل دولار يتم استثماره فى السكك الحديدية، فى القضبان أو العربات أو المزلقانات.. الخ) يعيد ٣ دولار للاقتصاد الأمريكى بعائد على الاستثمار ٢٠٠٪. ناهيك عن خلق الوظائف وتوسيع فرص الاستثمار المحلى الصغير بتوفير النقل منخفض التكلفة (فكر فى الصعيد وسيناء والوادى الجديد إن تم ربطها بشبكة القطارات القومية). بالإضافة إلى ذلك فالسكك الحديدية هى من أقل طرق النقل تلويثا للبيئة. بالرغم من ذلك تعتمد الولايات المتحدة، بفعل ضغوط الشركات الكبرى للسيارات والنقل الجوى نظاما أهمية السكك الحديدية به قليلة للغاية.
لماذا؟ بسبب طبيعة القطاع التى لا تستجيب لمتطلبات النمو الذى تقوده وتحصده المصالح المباشرة للشركات الكبرى: القطاع كثيف رأس المال، أى يتطلب استثمارات كبيرة جدا فى الإنشاء والصيانة، وفى نفس الوقت دورة رأس المال بطيئة للغاية. وفى وضعية يحجم فيها القطاع الخاص المصرى عن الاستثمار بالغ الربحية فى الورق والسكر مثلا، فهو لا يقبل الدخول فى السكك الحديدية إلا فى حضانة الدولة حيث تنفق وتستثمر وتضمن الأرباح وتأمين رفع الأسعار ومواجهة الاحتجاج السياسى. أما اعتبارات خلق الوظائف والتنمية ودمج المجتمعات البعيدة، فهى ليست على أجندة الشركات الكبرى لا عندنا ولا فى الخارج.
منظور آخر
لم تفلح خطة منصور لإصلاح السكة الحديد، ولن تفلح خطته ذاتها بحكومة الاخوان (حتى بدون فساد كما يقولون) بالضبط لأنها تتبنى رؤى تقود لقطار البيبسى والشيبسى. والحقيقة أن أى إصلاح حقيقى للسكك الحديدية لن ينفصل عن رؤية التنمية الاقتصادية والمساواة الاجتماعية.
تخبرنا مدونة للبنك الدولى «نقل آمن ونظيف ورخيص من أجل التنمية» عن تجربة مدينة ريو دى جانيرو البرازيلية فى إصدار تذكرة نقل عام موحدة تربط المدينة وضواحيها. هذه التجربة التى بدأت فى ٢٠١٠ جزء من عملية تطوير للنقل داخل المدينة المزدحمة (كالقاهرة)، والتى يسافر إليها ٤٦٪ من الفقراء من خارجها للعمل، تماما كالبدرشين وغيرها. يمكن المشروع الفقراء من استخدام والتنقل بين كل أشكال النقل العام للوصول إلى محطتهم النهائية بتذكرة واحدة أقصى سعر لها هو ٢ دولار، وهو ما أدى لتخفيض فى الأسعار بالنصف فى المجمل ساعد فى زيادة عدد الرحلات والركاب فى عامين إلى ٥٨٥ مليون رحلة يستفيد منها نصف مليون شخص يوميا. يقول البنك الدولى إن التذكرة، التى ترافقت مع استثمارات حكومية فى عدد القطارات وخطوط جديدة، أدت لزيادة التوظيف وتقليل تكاليف النقل وتمكين الفقراء الساكنين بعيدا من وظائف جديدة: أى تضمين اجتماعى بدلا من إقصاء اجتماعى. الخلاصة هى أن كفاءة التطوير واقتصاديات التطوير وفرص نجاحه فى السكك الحديدية تتجسد فى علاقة كل هذا بالمساواة والتنمية والعدالة الاجتماعية. تطوير السكك الحديدية، كما هى تعبير عن هذا، هى أداة لتحقيقها أيضا.
•••
«كنا مركبين فوق بعضينا والعساكر بيضربونا»، يقول شاب أسمر بشارب خفيف قادم من أسيوط على القطار الذى أجرته الداخلية. ويضيف زميل له يشبهه فى السمت واللهجة لكنه يربط رأسه من إصابة: «بيعاملونا كأننا عبيد فى السخرة»، وتتوالى شهادات العساكر من راكبى القطار: «الاسعاف جات بعد نصف ساعة والحكومة جات فين وفين»، «محمد مرسى بيركب قطر مكيف لكن دول عساكر.. لا.. احنا بنى آدمين»، «أهم حاجة حق الرجالة اللى راحت».*
الفصل مستحيل بين الكرامة والحرية والحق فى الحياة والصحة والتعليم والعمل والمساواة أمام الدولة والتخلص من عسف الشرطة وبين إصلاح السكك الحديدية. الطريق لا يزال: عيش وحرية وعدالة اجتماعية.