كان المقال منذ أسبوعين عن مشروع السعودية الجديدة المراد تقديمها كدولة وطنية آخذة بالنموذج المفترض للدولة فى النظام الدولى. اليوم نتناول أبعاد المشروع على المستويين الإقليمى والدولى. من نفس مصادر المقال السابق، يمكن إدراك أن المستوى الحيوى للمشروع السعودى هو المستوى الإقليمى والمقصود بالإقليم هو الخليج تحديدا. الشرق الأوسط الأوسع فى مرتبة ثانية، هو يحمى المصلحة الوطنية السعودية ويخدمها. هذه المصلحة هى ضمان أمن النظام السياسى السعودى، أى إعادة إنتاج نفسه فى صورته المعدّلة. أما المستوى الدولى فهو أساسى لأن قطبه الأمريكى يحدد قواعد اللعب فيه، بما فى ذلك فى أقاليم النظام الدولى.
لأن السعودية دولة وطنية يعيش الشيعة فيها بلا مشاكل ويتبوؤن أعلى المناصب، فالصراع مع إيران ليس صراعا بين السنّة والشيعة بل هو صراع أيديولوجية الجمهورية الإسلامية عبر الوطنية التى تتعدّى على السعودية، الدولة الوطنية، وعلى غيرها من الدول الوطنية فى الخليج، مثل الإمارات، وفى الشرق الأوسط العربى، مثل لبنان. الابتعاد عن المنظور الطائفى، وإن كان فى الخطاب فقط، محمود. هذا الابتعاد عن الخطاب الطائفى يذكِّر بالمنظور إلى الصراع بين إيران والعراق فى الثمانينيات من القرن الماضى. الرئيس صدّام حسين لم يقدم الصراع قط على أنه بين سنّة وشيعة. ثمة فرق مع ذلك بين خطابى ولى العهد السعودى وصدّام حسين. بالنسبة للأخير، البعثى القومى المتعدّى هو الآخر للدولة الوطنية، الصراع كان بين العرب والفرس. أما بالنسبة للأمير السعودى فالصراع الحالى بين إيران والسعودية هو بين واحد من مكونات «ثلاثى الشر» هو أيديولوجيا الثورة الإسلامية عبر الوطنية والدولة الوطنية السعودية. يجوز للمحلل افتراض أن هذا المنظور هو للتعبئة الوطنية، المتعدّية للفوارق والتفاوتات الاقتصادية والاجتماعية والاعتقادية، ضد عدو مشترك. إذا كانت إيران تتعدّى على دول عربية أخرى مثل الإمارات ولبنان فهى تتعدّى على الدولة الوطنية فى كل منهما. الأمير السعودى لا يتحدث عن العروبة أو عن التحرك باسمها أو دفاعا عنها عندما يشير إلى مصر والأردن والإمارات والكويت والبحرين، وإنما هو يتحدث عنها كدول وطنية «تدافع عن فكرة أن الأمم المستقلة تركز على مصالحها الخاصة بها، وعلى بناء علاقات جيدة على أساس مبادئ الأمم المتحدة».
***
تقديم إيران على أن أيديولوجيتها متعديّة على كل الدول، إسلامية وغير إسلامية، بما فى ذلك الولايات المتحدة نفسها، يرتفع بخطاب الأمير السعودى إلى المستوى الدولى. إيران تمثل تهديدا للعالم أجمع بل إن المرشد الأعلى للثورة الإسلامية، آية الله على خامنئى، أخطر عليه من هتلر نفسه. وعندما يتعجب محاوره مما يبدو له مبالغةً، مشيرا إلى أن هتلر هو أسوأ ما يمكن أن يكونه إنسان، يفسّر الأمير السعودى: لقد أراد هتلر أن يغزو أوروبا بينما يريد خامنئى أن يغزو العالم. لم يتنبه ولى العهد السعودى إلى أنه فى دوائر صنع الخطاب السياسى المندد بممارسات هتلر العنصرية يوجد رفض لإجراء المقارنات مع هتلر، عمّال على بطّال، لأنها ترى فى ذلك تمييعا للشر المطلق الذى مثله الزعيم النازى. فى هذا الباب وقع خطاب الأمير السعودى فى تناقض على قدر معتبر من الأهمية. فى الوقت الذى شدّد فيه على الخطر الذى تمثله إيران للعالم أجمع، فإنه فى مقابلته مع مجلة «تايم» قال إن إيران لا تمثل خطرا على السعودية، اقتصادها هش، حجمه نصف حجم اقتصاد السعودية، وجيشها ضعيف، لا يعدّ بين أقوى خمسة جيوش فى الشرق الأوسط، وسلاحه متخلف، بينما جيش السعودية قوى، سلاحه متقدم، لا يسبقه فى القوة غير جيش واحد فى المنطقة. كيف يمكن أن تكون إيران خطرا على العالم بينما هى بهذا الضعف النسبى والمطلق؟!
التناقض مع ضعف إيران يستمر باديا فى حديث الأمير السعودى عن اتفاقها النووى مع الدول الخمس دائمة العضوية فى مجلس الأمن وألمانيا. هو كيّس فى حديثه، لا يهاجمُ الرئيسَ باراك أوباما بل يعتبر أن له مقاربته التى تعوّل على أن منح الفرص لإيران سيؤدى إلى انفتاحها، ولكنه يقول إن أيديولوجية إيران ستحول دون ذلك. نحن نعتقد أن فرص نجاح الاتفاق لا تتعدّى 0,1 فى المائة بينما ظنّ الرئيس أوباما أنها 50 فى المائة، ولكن حتى إن كانت كذلك فنحن لا نستطيع أن نتعرض لخطر الخمسين فى المائة الأخرى؛ لأنها تعنى الحرب. يقول الأمير السعودى إنه لا بد من سيناريو لا حرب فيه على الإطلاق. بعبارة أخرى، هو يريد أمنًا مضمونا مائة فى المائة.
هذا الموقف يذكرنا بنظرية إسرائيل التى كانت تريد هى الأخرى أن تكفل لنفسها الأمن المطلق. هكذا نصل إلى حديث ولى العهد السعودى عن إسرائيل والقضية الفلسطينية. الحق هو أنه يطالب بحل للقضية وبأن يتمكن الفلسطينيون من أن يعيشوا على أرضهم ويضيف أنه حتى يحدث ذلك فلن تقوم علاقة بين السعودية وإسرائيل. غير أنه يردف، ردا على سؤال وجه إليه، أنه من حق الإسرائيليين أن يعيشوا على أرضهم، فيما اعتبر أول تصريح من نوعه يصدر عن مسئول عربي، ثم يجيب عن سؤال آخر عما إذا كان لديه اعتراض على أساس دينى على وجود إسرائيل، بأن ما يهمنا هو مصير المسجد الأقصى وحقوق الشعب الفلسطينى. كان مستحبّا أن يقول الأمير لسائله إن موقف العرب من إسرائيل منذ البداية لم يستند إلى أى اعتبار دينى بل إلى الحقوق الوطنية للشعب الفلسطينى، بمسيحييه ومسلميه، ولكن ربما كان صعبا عليه أن يشير إلى أن التطرف الدينى الذى اشتركت السعودية فى تغذيته فى العقود الأخيرة هو الذى كاد يغيّر من طبيعة الصراع العربى الإسرائيلى تغييرا خسرت القضية الفلسطينية فيه الكثير. ويواصل الأمير السعودى فيضيف أنه أما إذا تمكن الشعب الفلسطينى من أن يعيش على أرضه، ففى اليوم التالى ستنفتح مجالات كثيرة للتعاون مع إسرائيل ذات الاقتصاد الكبير قياسا إلى حجمها، فلنا مصالح كثيرة معها ولنا عدو مشترك، المفهوم أنه إيران. أما قرار الرئيس دونالد ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل وبنقل السفارة الأمريكية إليها، فهو لم يدنهما وإنما اكتفى بالقول بأنه يتخذ موقفا إيجابيا من إجمالى المسألة. ربما كان إعلان الملك سلمان فى قمة الدمّام عن تبرع بمبلغ 200 مليون دولار لمدينة القدس ولوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين للتخفيف من أثر التصريحات الصادرة عن ابنه.
***
أما اليمن فإن السعودية اضطرت إلى الحرب فيها، فالحوثيون عملاء لإيران وهم خطر على السعودية وعلى الخليج وعلى اليمن نفسه. وفى سوريا، ليس ضروريا أن يترك الرئيس بشار الأسد السلطة قبل الشروع فى تسوية للحرب الأهلية الممتدة فيها، وهو تغير هام فى الموقف السعودى. غير أنه بعد أيام من زيارة الأمير للولايات المتحدة، أيدت السعودية القصف الجوى الأمريكى البريطانى الفرنسى لمواقع زعم أنه يجرى فيها تصنيع أسلحة كيماوية فى سوريا، ثم وافقت السعودية على أن ترسل قوات لتحل محل القوات الأمريكية فى سوريا. هذا التأييد وهذه الموافقة هما من باب البعد الدولى وليس الإقليمى للمشروع السعودى، فأكثر من أن يكونا موقفا من سوريا، هما تعبير عن التوجه الإيجابى تجاه الولايات المتحدة، قطب المستوى الدولى، ورئيسها الحالى. وساند الأمير السعودى هذا التوجه بالمال فاشترى سلاحا أمريكيا وغيره بمئات المليارات من الدولارات مدخلا الحبور على قلب الرئيس ترامب.
يوجد المزيد والكثير على المستوى الدولى، ولكن نقتصر على إضافة تأكيد الأمير لطرح جانب هام من أسهم شركة أرامكو فى سوق المال الدولية، وربما سوق نيويورك تحديدا، فهذا الطرح، إضافة إلى ما سيدرّه من موارد مالية على الدولة السعودية فى ثوبها الجديد، من شأنه أن يعزز مكانتها فى القطاع الخاص والسوق الأمريكيين والدوليين، وهو ما يتفق مع الأهمية القصوى الممنوحة لقطب المستوى الدولى الأمريكى ومع صورة الحرص على الانخراط فى النظام الدولى والعمل ببعض قيمه.
***
المستوى الإقليمى الخليجى إذن هو الأساس فى مشروع الدولة السعودية الجديدة. منه يصدر التهديد للحكم داخليا، ولمواجهته تعبأ مكونات الدولة الوطنية. الشرق الأوسط الأوسع حلقة ثانية لحماية الخليج والنظام السياسى السعودى، وإن لزم يمكن ترحيل الصراعات إليه. التهديد على المستوى الخليجى تمثله إيران، والسعودية تعمل على تقويضها وعلى ضمان أمنها هى على المستوى الدولى بفعل الولايات المتحدة أساسا.
فى غيبة الحرب، التهديد الحقيقى لأى دولة يأتى من الداخل. لا يمكن القفز فوق أسباب التهديدات الداخلية، مثل مشكلات الفقر، والتشغيل، والتمييز، والحكم المطلق وما لا بدّ أن ينتج عنه من انحراف بالحكم ومن قرارات خاطئة. هذه الأسباب لا يمكن ترحيلها إلى الأبد بدعوى التهديد الإقليمى. كما أنه لا ينبغى المبالغة فى تقدير التهديد الصادر عن إيران. هذه المبالغة، خاصة إن انضمت إليها إسرائيل وهى صاحبة مصلحة، يمكن أن تؤدى إلى صراعات مدمرة فى الشرق الأوسط.
المنطقة فى حاجة إلى وسيط من داخلها يحول دون انفجار الصراع فيها. هذا دور طبيعى لمصر، وهو من مصلحة كل الأطراف فى المنطقة. للدور ثمنه على المدى القصير ولا شك، ولكن إن أحسن لعبه سيمكن تحمل الثمن. وللدور مردوه العظيم على المدى المتوسط.
لعل مصر تلعب هذا الدور فى يوم قريب.