نحن ندرك منذ عدة عقود في مصر أن هناك مشكلة في التعليم، تم إقتراح الكثير والكثير من الحلول وتنفيذ بعضها ولكن مازال التعليم يعاني من نفس مشكلاته، لقد تحدثنا في مقال سابق عن التعليم بشكل عام وفي مقال تال عن الطالب وفي مقال ثالث عن المدرس.
في مقال اليوم نريد أن نتكلم عن إدارة التغيير في العملية التعليمية، يمكن القول أن التعليم مثلث ضلعه الأول هو المدرس وتمكنه والضلع الثاني هو المحتوى وخلوه من الحشو والمعلومات القديمة والمعلومات عديمة الفائدة والضلع الثالث يشتمل على الأدوات المستخدمة في العملية التعليمية مثل أجهزة الكمبيوتر والتابلت وما شابه، الطالب هو مركز هذا المثلث حيث أن الأضلاع الثلاثة هدفها خدمة الطالب، السؤال الآن هل تحسين الأضلاع الثلاثة كاف للارتقاء بالعملية التعليمية؟ أم أن هناك شيء ينقصهم؟ يجب أن نعترف أن تحسين الأضلاع الثلاثة هو خطوة أولى أساسية ولازمة.. ولكنها لا تكفي وحدها لأنه ينقصها بعض العوامل المساعدة.. لنأخذ بعض الأمثلة.
لنتخيل أن ميزانية الدولة أصبح كبيرة جدا وتكفي جميع المتطلبات وتم زيادة مرتبات المدرسين عشرة أضعاف فهل يعتبر ذلك كافيا لتحسين أحوال المدرس؟ بالقطع الكثير من المدرسين سيستفيدون من ذلك وتتحسن أوضاعهم المالية ولكن ماذا عن هؤلاء الذين يكسبون أضعافا مضاعفة من الدروس الخصوصية وبدون ضرائب؟ هل يقبلون ترك الدروس الخصوصية التي تدر عليهم عشرين ألف جنيه مثلا شهريا بدون ضرائب من أجل مرتب عشرة آلاف جنيه (إن وصل لهذا المبلغ)؟ قد يأخذون المرتب وأيضا يستمرون في الدروس الخصوصية، قد تقول لنغلظ عقوبة الدروس الخصوصية، المشكلة هنا أنك لا يمكن أن تحكم قبضتك تماما وتقضي على الدروس الخصوصية لأن أهالي الطلبة والمدرسون سيجدون طريقة لها، أقول الأهالي لأن الأهالي أصبحوا مقتنعين أن الدروس الخصوصية مهمة لكي ينجح الطالب ويحصل على مجموع وليس ليتعلم لأننا مازلنا في منظومة "خد شهادتك الأول وبعدين إعمل اللي إنت عايزه".
لنتخيل أننا أعطينا كل طالب في جميع مراحل الدراسة جهاز لابتوب أو تابلت محمل عليه مواد تعليمية، هل نضمن أن يستخدمه الاستخدام الأمثل؟ ماذا لو باعه؟ أو كسره؟ بعض الطلبة سيستخدمونه الاستخدام الأمثل ولكن ماذا عن الأغلبية؟ هل يمكن التحكم في طلبة في الإعدادية مثلا والاعتماد على ضميرهم في استخدام التابلت الاستخدام الأمثل والطلبة في تلك السن رغبتهم في الانطلاق أكثر بكثير من رغبتهم في التعلم؟
إذا سألت أحد أهالي الطلبة إن كان يقبل أن يدخل ابنهم التعليم الفني أو الصناعي بدلاً من كليات مثل الهندسة أو الطب، بالطبع إذا لم يشتمك هذا الأب أو هذه الأم سيقولون لك أن ابنهم متفوق دراسيا ويستحق الأفضل مع أننا في مصر عندنا نقص شديد في العمالة الفنية بل أن من يتخرجون من تعليم فني قد يكسبون أكثر من خريج هندسة لا يجد عملا ولكن الأهل يفضلون أن يأخذ ابنهم شهادة جامعية ثم يجلس في البيت أو يعمل في مطعم أو محطة بنزين، لماذا؟ لأن نظرة المجتمع عندنا أن التعليم الجامعي هو الأساس وأي تعليم آخر معناه أن الشخص أقل في المستوى، إذا هناك مشكلة مجتمعية.. أي أننا "بلد شهادات صحيح".
ما أردت قوله من هذه الأمثلة أن تحسين أضلاع المثلث هي خطوة أولى يجب أن يتزامن معها تغيير مجتمعي يحقق الآتي: يجب أن نجعل الطلاب يحبون العلم والتعلم لا أن يعتبرونه مشقة يرجون الخلاص منها، يجب أن نحاول تغيير فكر المجتمع لكي يضع كل شخص في مرتبة لا حسب شهادته أو درجاته لكن حسب خدماته لمن حوله ودرجة اتقانه لتلك الخدمة لأن قيمة المرء ما يتقنه، إذا تحقق هذا الهدف الثاني فسيقبل الأهل أن يدخل ابنهم سلك التعليم الذين يناسب ميوله ولا نقول قدراته فلكل منا قدرات متميزة يجب استخدامها ولكن وضع الجميع في نفس القالب فيه ظلم لمن تختلف قدراته عن هذا القالب، يجب أن نعلي من شأن المدرس ليس فقط ماديا ولكن معنويا لأنه بذلك سيعرف أنه يعمل في مهنة مقدسة لا يجب تدنيسها بالدروس الخصوصية وما شابهها.
إذا فالتغيير يحتاج وقت ويحتاج علماء نفس وعلماء اجتماع بالإضافة إلى خبراء التربية قبل أن يحتاج أجهزة وأموال.. قد يكون ما قلته هنا مفرط في التفاؤل ولكن لما لا فلنتفائل ولنعمل ولنغير عن طريق خطة تأخذ في اعتبارها ليس فقط العملية التعليمية ولكن أيضا نفسية المجتمع والعرف والتقاليد ونحاول تطويرها.