«العشوائيات» مصطلح يقترب من العبقرية. أريد بالمصطلح الدلالة على تجمعات معيشية نشأت بدون أى تخطيط، استجابة لاحتياجات المواطنين لأى سكن يقطنونه ولأى عمل يمارسونه، يقتاتون منه، ويفون به بطلب المواطنين على السلع والخدمات. لأن هذه التجمعات تنشأ بدون أى خطة، الطرقات ترتسم فيها كيفما اتفق، وهى تتزود بالمرافق عندما تستطيع إن استطاعت إلى ذلك سبيلا. العشوائية تحكم هذه التجمعات ونموها، حتى أنها صارت نقيضا للعمران الذى يفترض دراسة وتخطيطا وبصيرة. فى اللغات الأوروبية يطلق على هذه التجمعات مصطلح «التجمعات غير المنظمة» على غرار ما أطلق على القطاع الاقتصادى الذى ينشأ ويمارس أنشطته على نفس المنوال من اسم أى القطاع غير المنظم، أو أحيانا القطاع غير الرسمى، وهو مصطلح يتراجع الآن فى الاقتصاد لصالح مصطلح يغطى مفهوما أوسع وهو الاقتصاد غير المنظم، على اعتبار أن الأنشطة الاقتصادية غير المنظمة تندرج فى جميع القطاعات الاقتصادية وفى كل من منشآت الاقتصاد الحديث وغير الحديث. الابتكار من مصر كان فى صياغة مصطلح «العشوائيات»، وفيه تحرر من الترجمة الحرفية لمصطلح «غير المنظم» باللغات الأوروبية، وهو أكثر بلاغة فى التعبير عن المقصود بالمفهوم، ويا حبذا لو بدأ دارسو الاقتصاد وغيره من العلوم الاجتماعية العرب فى الأخذ بمصطلح «العشوائية» فى وصف ما درجوا على تسميته بالقطاع ثم بالاقتصاد غير المنظم.
***
المؤسف هو أن العشوائية تعدت مجال الاقتصاد وأصبحت تسم مختلف جوانب حياتنا، ما يعتبر قبل حداثى منها وتلك المفترض فيها أنها حديثة. عملية اتخاذ القرار، أى السياسة فى صلبها، صارت عشوائية. الأكثر مدعاة للأسف هو أن الدولة هى التى تنشر العشوائية. انظر إلى الطرقات العامة فى داخل المدن وخارجها. السيارات وغيرها من المركبات تقطعها بلا أى قواعد تنظمها، والعبرة ليست بوجود القواعد على الورق وإنما بالاقتداء بها. الأحياء الجديدة فى العاصمة، القاهرة والجيزة، تنشئها الدولة ولا تزودها بأى مواصلات عامة، فتخدمها مئات من سيارات أجرة، ميكروباصات، بل و«تكاتك»، بلا خطوط سير ولا محطات محددة، تتوقف عندما تريد وأينما تريد، وتتراكم على جانب الطريق تسده، وتنبت لخدمتها عربات المأكولات على الأرصفة التى تفقد بذلك وظيفتها الأساسية. هذه عشوائية ترجع إلى غياب التخطيط والدراسة.
وتفكر فيما كشفت عنه زيارة رئيس الوزراء لمعهد القلب وتبعاتها عن حالة تأدية الخدمات الصحية فى مصر. حيوانات تسرح بين المرضى، وأبنية وأسرة بالية ومهدمة وقذرة، وأجهزة وأدوية ناقصة. بهذه الحال، لا يمكن أن تكون تأدية الخدمات الطبية إلا عشوائية. ببخلها على صحة المواطنين فى الاعتمادات المالية المخصصة للسياسة الصحية وتطبيقها، الدولة تشجع العشوائية.
مثال آخر يتعلق بالعشوائية فى التعامل مع صحة المواطنين، هو ذلك الخاص بالإعلان الصاخب عن اكتشاف علاج لالتهاب الكبد الوبائى وتحديد تاريخ للكشف عن هذا العلاج، بدون أى اعتبار لبديهيات البحث العلمى؛ ومن بعد ذلك تلاشى الاهتمام بالموضوع كله وكأنه لم يكن.
الإعلان عما يسمى «بالعاصمة الإدارية» الجديدة، شابه أيضا الكثير من العشوائية. إعلان مدو فاجأ المواطنين والمجتمع بدون تخطيط مسبق ولا دراسة عند الحد الأدنى المتوقع لمثل هذا القرار ذى الآثار عظيمة الأهمية على حاضر البلاد ومستقبلها. انعدام التخطيط والدراسة بينهما بما لا يدع مجالا للشك التصريح أخيرا بأنه إن لم تصل الدولة إلى اتفاق مع الشركة الإماراتية المفترض فيها تنفيذ المشروع، فإن الدولة ستقوم هى نفسها بتنفيذه. هذا يعنى أن الدولة تركت للشركة المذكورة أن تطلب من مكتب أمريكى أن يصمم مشروع المدينة، ثم هى عرضت هذا المشروع على الملأ وأعلنت رضاها عليه وعلى الشركة، من قبل أن تتفق معها على شروط تنفيذ المشروع وتمويله، هل من عشوائية أكثر من ذلك؟
***
والأمثلة على العشوائية تتعدد فى مختلف مجالات السياسات، حتى إنه يصعب تتبعها. من واحد من مجالات ما يسمى بالسياسة العليا، خذ مثال اعتذار رئيس الجمهورية عن حضور قمة الاتحاد الأفريقى التى انعقدت أخيرا فى جنوب أفريقيا. أول أسباب الاعتذار المعلنة كان انخفاض مستوى تمثيل الدول فى القمة، وانعدام الأمن فى جنوب أفريقيا فى إهانة لا مبرر لها لبلد يملك أكبر اقتصادات القارة وأكثرها تقدما، زار رئيسها مصر منذ شهور قليلة. فى اليومين التاليين، تباين سبب الاعتذار بين ارتباط رئيس الجمهورية بمسائل تتعلق بالسياسة الداخلية، وانشغاله بالملفات الاقتصادية. ألم يكن من الأجدر التمهل وإصدار رواية مقبولة واحدة عن سبب التغيب المفاجئ لرئيس الجمهورية عن القمة، تأخذ فى اعتبارها علاقات مصر الأفريقية ومصالحها؟
وتأمل فى الإعلان عن انعقاد الانتخابات العامة التى لا تنعقد! الانتخابات ستنعقد قبل رمضان أو بعد رمضان، ثم قبل نهاية العام. ألا توجد أيام؟ أليس هناك شهور؟ أم إن البشرية لم تهتد إلى فكرة التقويم بعد؟ فى الحداثة، يحدد البشر، وتقرر الدول والمؤسسات المواعيد بالسنة، والشهر، واليوم. التقريب من سمات التخلف والعشوائية، والدولة التى تأخذ به ترتد بنفسها إلى ما قبل الحداثة.
تعليقان يفرضهما ما يلاحظ من ارتداد إلى ما قبل الحداثة وعشوائية. الأول هو أن سببا رئيسيا فى رفض الجموع الأكبر من المصريين لحكم الإخوان المسلمين، كان نكوصهم عن الحداثة والنزول بمعولهم على الدولة الحديثة يفككون أوصالها. المصريون رأوا أن تشخيص الإخوان المسلمين لأسباب تخلفهم خاطئ، وأن المطلوب هو تصحيح عوج الحداثة العيية التى يعيشونها بالأخذ بصحيح الحداثة وبتعميق الدولة الحديثة، لأن فيها صلاحهم. عشوائية السياسة فى الوقت الحالى نقيض للحداثة التى بها وحدها ينتشل المصريون أنفسهم من تخلفهم، وهى، ويا للسخرية، تقوض السبب الرئيسى الذى جعل المصريين يرفضون الإخوان المسلمين.
التعليق الثانى ينبع من أن أهم ما يميز الاقتصاد العشوائى هو انخفاض الإنتاجية فيه، أى انخفاض قيمة السلع والخدمات التى تنتج فيه عن استثمار وحدة من كل من عناصر الإنتاج. قد يرجع انخفاض الإنتاجية إلى ضعف رأس المال أو انخفاض قيمة الأرض المستثمرة، ولكن المؤكد أن التخطيط لاستخدام رأس المال والأرض، أيا كانت قيمتهما، يرفع من مردودهما. بغير التخطيط والدراسة، وفى أحسن الأحوال، سينفق عمل كثير ولكن المردود على من يعمل سيبقى شحيحا، كما وكيفا.
***
السياسة العشوائية ستكون منخفضة الإنتاجية كذلك وهى لا يمكن إلا أن تنتج نظاما سياسيا عشوائيا هو الآخر. السياسة العشوائية لن تنشئ نظاما سياسيا ديمقراطيا حديثا، وهى لن تعالج الأمراض التى تعانى منها الدولة الحديثة فى مصر. على رعاة العشوائية أن ينفضوها عن بلادنا. من يسير على طريق غير مبصر، مصيره إلى السقوط.