تقتات بعض القنوات الفضائية بمصائب الناس.. مادة للبث المباشر بلا ثمن.. وتشاركها فى التهام الفريسة الصحف السيارة التى لا تخضع لحكومة أو حزب.. وقوم أذلهم القهر المادى والمعنوى والإنسانى يريدون الحديث مع أى شخص لديه رغبة فى الاستماع بعد التجاهل المزرى لمطالبهم أو حتى سماع شكواهم من قِبل المسئولين..
وهكذا نعيش الآن حقبة الوقفات الاحتجاجية.. يخرج المحتجون وهم على يقين بأن أكثر من قناة فضائية سوف ترسل إليهم كاميراتها ومعداتها، فيختارون محدثهم اللبق الواعى والفصيح القادر على شرح القضية ومشروعية المطالب.. ويتفننون فى صياغة العبارات الاحتجاجية ويعدون اللافتات.. وتسارع القنوات الفضائية إلى هذه المادة الإعلامية المجانية وتعلن المطالب على الملأ.. ولكن لا شىء يحدث.. تظل الأحوال على ما هى عليه..! يقف المحتجون ليل نهار.. براحتهم.. احنا بلد ديمقراطى أصيل! يناموا فى الشارع زى بعضه.. لكن بلاش يناموا صف تانى! يصلوا صلاة قضاء الحاجة أو حتى صلاة الاستغاثة.. ربنا يتقبل؟!
هكذا تتعامل الدولة، وكأنها واخدة بنج كلى وترى الأمر بعيون ناعسة، وترى أن الوقوف عند الشعب المصرى قد أصبح عادة لا يستطيع التخلص منها.. فقد تعود على الوقوف فى طوابير الجمعية قديما وفى طوابير الخبز حديثا.. وهو يقف طويلا فى انتظار وسيلة مواصلات مأمونة تنقله دون أن تقتله.. ولأن الله سبحانه وتعالى دعانا إلى إعمال العقل ــ أى التفكير ــ فقد فكرت وقررت الاستعانة بصديق يمدنى بمعلومات صادقة وأكيدة عن هذه الظاهرة التى أصبحت جزءا من الحياة المصرية،
وقد أصابتنى هذه المعلومات بصدمة مرعبة تؤكد أن النار تحت الرماد.. حيث إن حصاد النصف الأول من هذا العام به (284) احتجاجا عماليا منها (106) اعتصامات و(41) تظاهرة و(36) وقفة احتجاجية و(18) تجمهرا و(83) إضرابا؛ منها إضراب سائقى النقل الثقيل، وإضراب الصيادلة، وإضراب المحامين وإضراب الإداريين فى التربية والتعليم. وقد شملت هذه الاعتصامات قطاع الأعمال والقطاع الحكومى والقطاع الخاص.. فإذا ضفنا إلى هذه الجموع الغاضبة قطاع الفلاحين الكادحين المظلومين.. فإننا نقول بصدق ومن واقع هذه الحقائق التى لا يمكن تكذيبها إن الشعب المصرى فى حالة غليان وسخط.
وإذا كانت الحكومة وهى فى حالة التخدير الكامل قد عجزت تماما عن إدارة الدولة، ما أدى إلى انهيار جميع الخدمات وانهيار كل المرافق.. الشوارع أصبحت مزابل ومصائد للموت، إما سقوطا تحت عجلات المركب فى ظل فوضى المرور القائمة أو سقوطا فى البالوعات المفتوحة فى ظل إدارة المحليات الفاسدة.. ولأن هناك مشاكل مزمنة ومؤثرة تركتها الحكومة تماما وأعلنت عدم مسئوليتها عنها مثل مشكلة البطالة التى تحول طاقات الشباب إما إلى طاقات مدمرة وإما إلى طاقات يائسة وخاملة، الأمر الذى يصيب الوطن كله بالعجز والإحباط وخيبة الأمل، حيث تتوقف عجلة الحياة المثمرة التى تعيشها كل مجتمعات الدنيا.. ومع انهيار التعليم بكل مستوياته.. وتدهور الصحة العامة وتفشى الأمراض فى أجساد المصريين، وتحول الإعلام الرسمى وغير الرسمى إما إلى غناء ورقص ومسلسلات وإما إلى برامج دينية متنوعة فيها الطيب حقا وصدقا فى حالات نادرة.. وفيها ما هو غير طيب بالمرة وللأسف هو الكثير.. بينما اختفت الثقافة والعلوم والفنون وكل ما يمت إلى علم الجمال بصلة..
هذا الواقع المؤلم المرير لم يفرض نفسه علينا بفعل قوة مستبدة غازية تريد لنا الهوان والمذلة والانكسار، وأن نكون دائما وأبدا الدولة المتخلفة التى تحتل المرتبة قبل الأخيرة فى شتى المجالات ونفرح لأننا لسنا الدولة الأخيرة التى تحتل ذيل أى قائمة.. ما جرى لنا من صنع حكوماتنا المتعاقبة التى لم تنهض بمسئوليتها إما عن جهل.. وإما عن فساد.. وإما عن عدم انتماء.. وإلا لماذا تزحف كل بلاد الدنيا إلى الأمام.. ونحن البلد الوحيد الذى ينطلق بسرعة إلى الخلف؟..
ولأن الله دعانا إلى إعمال العقل فقد سألت نفسى: لماذا نحن هكذا؟.. لماذا نتحول إلى مطايا تركبها الحكومات المتعاقبة وتقودنا إلى كل طرق الهلاك؟.. هؤلاء الساخطون المحتجون ليل نهار أمام الوزارات والمصالح والهيئات وسلالم النقابات، أليسوا هم أنفسهم الذين يذهبون إلى صناديق الانتخابات ويفرضون علينا صناع هذه الحكومات التى تخنق الإرادة وتحجب الرؤية؟.. أم أنهم لا يذهبون أصلا إلى أى انتخابات؟.. فى هذه الحالة من الذى يذهب ويصوت ويمنح الأغلبية لحزب شعاره للخلف در؟..
هل هناك شعب آخر لا نراه هو الذى يذهب إلى صناديق الانتخابات؟.. أم أن هؤلاء الساخطين الغاضبين هم أنفسهم الذين يذهبون ويفرضون علينا كل هذا الركود والسأم، لأنهم وإن تجمعوا فى وقفة احتجاجية أو حتى مظاهرة هم متفرقون فى داخلهم.. فى داخل كل واحد هدف شخصى وليس هدف جماعى هو استعادة دولة لكيانها وشخصيتها.. فى داخل كل منهم انتهازية حادة وبصيرة لا ترى عن بُعد..
فى رأيى الشخصى أن الوقفة الاحتجاجية لا يجب أن تكون أمام مبنى أى وزارة.. وإنما يجب أن تكون أمام صناديق الانتخابات طلبا للتغيير.. فهذا الحزب وحكوماته التى تتوالى علينا بنفس السياسات العاجزة والبليدة ليس لديه أى شىء طيب يقدمه للناس.. وإذا كان لديه شىء فأين هو؟.. وخاصة أن الكل يعيش حالة اختناق.. والحكومة فقط هى التى تتنفس!