انهار الحكم الإخوانى فى مصر بعد عام واحد من وصول واحد من قادة جماعة الإخوان المسلمين إلى رأس السلطة، وبعد أقل من عام من تلاقى مواقف المجتمع السياسى المصرى حول تأييد الرئيس الإخوانى فيما بدا آنذاك أنه تأكيد لسلطة الرئيس المدنى المنتخب على المؤسسة العسكرية، وخطوة رئيسية فى إرساء أسس نظام سياسى ديمقراطى تعددى، مدنى وحديث. بدلا من أن يوسع الرئيس وجماعته من أسس هذا النظام فيجعلانه أكثر رسوخا وثباتا فى الأرض، فإنهما فضلا أن ينعزلا عن بقية القوى السياسية المدنية، وأن يحكما وحدهما، فضاقت أسس النظام السياسى الناشئ وهان ثباته فى الأرض. الجذور، وإن كانت عميقة، لجماعة واحدة ومن معها من نفس التيار ليست كافية لتثبيت أى نظام اجتماعى، سياسيا كان أو اقتصاديا. فات ذلك جماعة الإخوان المسلمين فهوى حكمها بمجرد تجمع رياح التمرد عليه.
فات جماعة الإخوان المسلمين أن أولوياتها كما اتضحت للشعب فى فترة حكمها ليست هى بالضرورة أولويات الأغلبية الشعبية. الأغلبية التى انعقدت للجماعة فى عمليات التصويت منذ مارس 2011 كانت ترجع إلى ما ظنَت هذه الأغلبية أنه قيم الجماعة وأولوياتها. الأغلبية هذه كانت نتيجة لمباراة لم تكن قد لعبت بعد، فلما لعبت المباراة كانت نتيجتها مغايرة للنتيجة التى سارع القائمون على التحول السياسى آنذاك إلى بلورتها. المصريون لا يريدون دروسا فى الدين، وهم لا يقبلون من يكفِر فهمهم له. القيم الدينية التى تصبغ الحياة اليومية للمصريين وتتخللها مفروغ منها. هذا التخلل يكفل العلاقة بين المجالين الدينى الشخصى، من جانب، والسياسى العام، من جانب آخر، دونما حاجة إلى تزيٌد أو اصطناع.
●●●
المباراة السياسية كشفت عن القيم والمبادئ التى يريد المصريون الاهتداء بها، وعن أولوياتهم الحقيقية. تصدى الحكومة الجديدة لهذه القيم، والمبادئ، والأولويات، ونجاحها فى التقدم فى الاستجابة لها سيكون اسهاما عظيما فى تعزيز شرعية الإجراءات المتخذة اعتبارا من الثالث من يوليو، وفى بناء نظام سياسى تعددى وديمقراطى مستدام.
استمرار احتجاجات أنصار جماعة الإخوان المسلمين، والتصدِى لعنف الجماعات المتطرفة فى سيناء، والقدرة على التقدم نحو حلول ملموسة الأثر للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية التى يعانى منها المصريون، والتصدى بنجاح لمسألة التعديلات الضرورية على الدستور، هى التحديات الرئيسية أمام النظام السياسى الانتقالى المصرى. بعض هذه التحديات يشكل البيئة التى تعمل فيها الحكومة الجديدة، والبعض الآخر هو فى صميم عملها. توجد أيضا تحديات خارجية مثل تلك الخاصة بمياه النيل والقضية الفلسطينية، إلا أن التركيز فى هذا المقال على التحديات اللصيقة ببناء النظام السياسى.
●●●
فيما يخص البيئة، يصعب تصور أن تستمر الاحتجاجات إلى ما لا نهاية، ولو لمجرد أن آثارها على مستقبل الإخوان المسلمين فى النظام السياسى فى غير صالحهم على الإطلاق لأنها تستثير ضدهم جموع المواطنين، فضلا على أن هذا الاستمرار وما يثيره من حنق المواطنين يعرِض نفس تماسك الجماعة للانكسار. أما عنف الجماعات «الجهادية» والتكفيرية فى سيناء فهو أخطر ما فى البيئة التى ستعمل فى داخلها الحكومة. عمليات الاعتداء على المنشآت والأفراد تتكاثر فى تحد سافر للدولة. التصدى بنجاح للجماعات المسئولة عن هذه العمليات حيوى بالنسبة للنظام الانتقالى وحكومته، ولا يقل عنه أهمية تجفيف المنابع الفكرية لهذه الجماعات، تجفيف يلجأ إلى التعليم، والثقافة، وشرعية التعدد كأدوات، وليس إلى القمع والكبت. هذا التجفيف هو من عمل الحكومة، ونتائجه لن تظهر إلا فى الأجل الطويل. غير أن على الحكومة أن تبدأ وأن تستعين بأداة الثقافة خلال الفترة الانتقالية محدودة المدَة.
المهام الرئيسية للحكومة تقع فى المجالين الاقتصادى والاجتماعى. المصريون، مثل غيرهم من الشعوب، فى المغرب، أو إسبانيا، أو السنغال، أو اليونان، ليسوا معنيين بحديث التوازنات الاقتصادية وبالعجز فى الميزانية أو فى ميزان المدفوعات. عندما ينادون بالعدالة اجتماعية، فهم فى الواقع يطالبون بتحسين مستوى معيشتهم عن طريق توفير فرص العمل المجزى، والخدمات التعليمية والصحية جيدة المستوى، والإسكان والمرافق الملائمة. كل ما عدا ذلك وسائل. والمصريون واقعيون. لن يطالبوا الحكومة بالمستحيل. سيكفيهم أن يروا اهتماما حقيقيا بمبغاهم وتقدما نحو تحقيقه. من المهم أن تمسك الحكومة فى الفترة الانتقالية عن تكرار حديث الدعم وخدمة الدين العام، وأن تكتفى بالتصدى لهما بكفاءة، وإنما بصمت. يمكن للحكومة أن تبدأ بتخصيص كل المعونات التى أعلنت السعودية، والإمارات، والكويت عن تقديمها لمصر، أو الجانب الأكبر منها، لقطاعات التعليم، والصحة، والإسكان، والمرافق، وأن تستخدمها فى تطبيق إجراءات، وفى تنفيذ مشروعات، محددة ملموسة.
●●●
البيئة والأداء الاقتصادى والاجتماعى سيؤثران على النتيجة الأهم للفترة الانتقالية المتمثلة فى التعديلات التى ستدخل على الدستور. على الرغم من كل نواقص التحديث فى مصر فى القرنين الماضيين، فإن تطورات السنة الماضية، ثم المقدمات لانتفاضة الثلاثين من يونيو، والانتفاضة نفسها، تبيِن أن التحديث تجذَر فى مصر، وهو تحديث ينسى الكثيرون أن مصر سبقت فيه كل بلدان «الشرق»، بما فيها إيران، وتونس، وتركيا. يريد المصريون من التعديلات الدستورية تكريس استقلال المجال السياسى عن المجال الدينى، وإن كان هذا لا يعنى ألا تصل آثار معتقداتهم الدينية إلى المجال السياسى. عموم المصريين ينشدون أن يعزز الدستور المعدَل الحريات العامة، والمساواة وعدم التمييز بين المواطنين بناء على أى أساس كان، وتدعيم حقوق المرأة التى اكتسبتها فى نضال تعدَى القرن من الزمان، وحماية حقوق الإنسان بصفة عامة. فى مقابل ذلك، ثمة من يتمسك بأحكام «الهوية» التى أدخلت على دستور سنة 2012، معتبرين الهوية شىء جامد يمكن وقف تطوره، ومتجاهلين ما طرأ عليها، وعليهم هم شخصيا، من تطور. واضح أن الحكومة الجديدة تصطف بين عموم المواطنين، وهى لا ينبغى أن تخجل من هذا الاصطفاف. من حق المدافعين عن «الهوية» أن يعبروا عن مواقفهم. النزال سيكون صعبا، ولكن لا ينبغى للحكومة، ومعها النظام الانتقالى، أن يخشياه. عموم المصريون يؤيدونهما، بل إنهم دلُوهما على الطريق.
أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة