ارتبطت الحركة الوطنية فى مصر، منذ زمن طويل، فى نضالها ضد السيطرة الأجنبية والحكم المطلق، بالمطالبة بدستور يعكس تعطش الشعب المصرى للاستقلال وحكم يعبر عن تطلعه للكرامة والمساواة.
وكان ذلك واضحا منذ بداية صعود هذه الحركة الوطنية فى ستينيات القرن التاسع عشر. لم يكد الخديو إسماعيل يسعد بإدخاله مجلسا نيابيا منتخبا هو مجلس شورى النواب فى 1866 كما هو الحال فى الأمم المتقدمة حسب رؤيته التحديثية، حتى سعى النواب المنتخبون إلى لائحة لهذا المجلس تضمن حقهم فى مساءلة الحكومة، وهو مطلب انضم إليه ضباط الجيش المصريون فى أول إرهاصات الحركة العرابية فى سنة 1879 التى رفعت قضية مسئولية النظارة –الوزارةــ أمام مجلس شورى النواب لتكون فى صدارة مطالبها فى اللائحة الوطنية فى أبريل 1879، ثم توجت هذه الحركة نضالها ضد كل من الحكم المطلق والسيطرة الأجنبية بوضعها دستورا فى سنة 1882يؤكد على مبدأ مسئولية النظارة أو الوزارة أمام السلطة النيابية الممثلة للشعب.
ويعود هذا الارتباط الوثيق بين مطلبى الدستور الديمقراطى والاستقلال الوطنى، إلى اعتقاد قادة الحركة الوطنية الراسخ، والذى أيدتهم فيه جموع الشعب المصرى بأن الصلابة فى مكافحة السيطرة الأجنبية على مصر لا تتحقق إلا إذا كان الذى يقود الكفاح ضد هذه السيطرة هم الممثلون الحقيقيون لهذا الشعب. وقد تأكد هذا الاعتقاد من خلال ممارسات كل من الحكام الطغاة وممثلى الاحتلال الأجنبى سواء من جانب المحتل الأجنبى أو من جانب السلطة الملكية. طبعا لم تستسلم الحركة الوطنية لهذا التلاعب بإصرارها على حكم دستورى صحيح يقيد السلطة الخاضعة لإرادة المحتل الأجنبى، ومن ثم كان شعار هذه الحركة تحت زعامة الحزب الوطنى بقيادة مصطفى كامل ومحمد فريد هو الجلاء والدستور، وكان أول إنجازات هذه الحركة بعد حصول مصر على الاستقلال الذاتى بموجب تصريح 28 فبراير 1922 هو وضع دستور شارك فى صياغته جميع ممثلى الأمة من مسلمين وأقباط ويهود وأرمن، وحظى بموافقة جميع القوى السياسية، ولما حاول الملك وضع دستور آخر يلبى نزعته المستبدة هو دستور 1930، قاطعت الحركة الوطنية هذا الدستور حتى أسقطته فى سنة 1935 واستمر دستور 1923 نافذا حتى ألغاه مجلس قيادة الثورة فى 16 يناير 1953 بعد حركة الجيش فى 23 يوليو 1952 التى أنهت عمليا الحقبة الليبرالية فى تاريخ مصر.
***
وعلى الرغم من أن الدساتير التى تعاقبت على مصر بعد سنة 1952 أولت اهتماما كبيرا بمبادئ المساواة بين المواطنين، واعترفت بحق النساء فى الانتخاب والترشح وأقرت الحقوق الاقتصادية والاجتماعية إلا أنها اتسمت سواء فى دستور جمهورية مصر فى سنة 1956 أو الدستور المسمى بالدائم لجمهورية مصر العربية فى سنة 1971، بتركيز السلطات فى يد رئيس الدولة بإقامة نظام رئاسى يخلو من فصل السلطات الذى يتسم به النظام الرئاسى فى الدول، التى تعتبر نموذجها الأصيل مثل الولايات المتحدة الأمريكية. ولم يكن تركيز السلطة هذا عقبة أمام أى تطور ديمقراطى فحسب، بل كان سببا لعدم كفاءة أداء النظام الحكومى ذاته. وهو ما أكده تقرير لخبير ألمانى دعاه الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، لتقديم رؤيته حول إصلاح النظام الإدارى فى مصر، ولما كان أول مقترحات هذا الخبير هو الحد من تركز سلطات الدولة فى يد رئيس الجمهورية، فقد انتهى أمر هذا التقرير إلى دفنه فى أحد أدراج الزعيم الراحل وفق رواية سمعتها من المرحوم الدكتور إبراهيم سعد الدين، الذى كان وثيق الصلة بجهود إصلاح جهاز الدولة طيلة خمسينيات وستينيات القرن العشرين. وقد ظلت القضية الدستورية شاغلا مهما للحركة الوطنية فى ظل حكم الرئيس الأسبق حسنى مبارك، وانصب الاعتراض على المادة 76 الخاصة بمدة بقاء رئيس الجمهورية، التى أطلقها تعديل دستورى فى سنة 1979 بجعلها مددا بدلا من مدتين، والمادة 77 التى قصرت الترشح لمنصب رئيس الجمهورية على شخص واحد. ولذلك استمرت قضية الدستور موضع اهتمام القوى السياسية على نحو ما هو معروف، سواء فى ظل مبارك فى سنواته الأخيرة أو المجلس الأعلى للقوات المسلحة أو أثناء حكم مرسى، الذى تجرأ بإصدار إعلان دستورى جعله فوق الدستور، وكان واحدا من أسباب الثورة عليه وعلى حكم الإخوان المسلمين.
***
ولذلك لم يكن من المدهش أن تتطلع القوى السياسية فى مصر بعد ثورة يناير إلى وضع دستور جديد، يضع حدا لتركيز السلطات فى يد رئيس الجمهورية، ويمكن القول إن دستور 2012 الذى وضعته جمعية تأسيسية هيمن عليها الإخوان المسلمون، كان أقرب إلى النظام البرلمانى، أما دستور 2014 الذى وضعته لجنة الخمسين، فقد أعاد التأكيد على سلطات رئيس الجمهورية؛ فهو صاحب الكلمة الأولى فى تسمية رئيس الوزراء بعد انتخاب مجلس النواب، وله أن يعفيه. وهو غير مسئول أمام مجلس النواب الذى لا يطرح الثقة فيه إلا فى الأحوال الاستثنائية التى يتهم فيها بانتهاك أحكام الدستور أو الخيانة العظمى أو فقد شرعيته بخروج جماهير المواطنين عليه، وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة، وهو يقترح القوانين ويصدرها ويمكنه الاعتراض عليها، وهو يعفى من العقوبة أو يخففها، ويعين كبار الموظفين العسكريين والمدنيين، ويشارك الحكومة فى وضع السياسات العامة. كما أنه يمثل الدولة فى علاقاتها الخارجية، وهو يعلن حالة الطوارئ، ويتخذ تدابير تقتضيها الضرورة عندما تثور الحاجة لذلك، ويصدر مراسيم بقوانين فى غياب مجلس النواب. وقد أسقط دستور 2014 ما كان دستور 2012 نص عليه من ضرورة أن تقتصر السلطة المباشرة لرئيس الجمهورية على مسائل الدفاع والأمن والسياسة الخارجية، وأن يمارس سلطته فيما عدا ذلك من مسائل من خلال الحكومة «المادة 141»، وكان ذلك تحت إلحاح قادة حركة تمرد فى لجنة الخمسين.
***
هذه سلطات واسعة يمارسها رئيس الجمهورية فى ظل دستور 2014، ولا يمكن التحجج بأن رئيس الجمهورية لايمكن له أن ينفذ برنامجه فى ظل هذه النصوص، فهو يشارك مع الحكومة فى وضع السياسات العامة ويشرف على تنفيذها، وهو أول من يقترح الحكومة على مجلس النواب، وليس من المتصور أن يقترح حكومة تناصبه العداء، أو بها وزراء لا يتوقع أن يتعاونوا معه، وبإمكانه أن يطلب من مجلس النواب إعفاء هذه الحكومة. لكن الجديد هنا أن دستور 2014 ينقل مصر من الحكم الفردى الذى يتحكم فيه فرد واحد فى مصائر الشعب إلى حكم يتشاور فيه رئيس الجمهورية فى الشئون الداخلية، خصوصا مع رئيس الحكومة الذى يتمتع بالأغلبية البرلمانية فى مجلس النواب. وهذه النقلة هى مهمة لرئيس الجمهورية، فضلا عن أهميتها لسائر المواطنين. وذلك للأسباب التالية:
أولا: أنه مع تركيز سلطات كثيرة فى يد رئيس الجمهورية، فإنه لا يستطيع ببساطة ممارسة كل هذه السلطات، وهو ما يؤدى إلى التأخير فى إتخاذ القرارات وإصابة الجهاز الإدارى بالشلل. وأمامنا مثل محدد على ذلك. منح تعديل قانون الجامعات فى سنة 2014 لرئيس الجمهورية سلطة تعيين رؤساء الجامعات بدلا من انتخابهم، وهو أمر كان معمولا به من قبل، ولكن منحه كذلك سلطة تعيين عمداء الكليات الجامعية، وهو ما لم يسع إليه أى من رؤساء الجمهورية السابقين، وترتب على ذلك أن جامعات عديدة بقيت بدون رئيس شهورا عديدة واستغرق الأمر أيضا شهورا طوال قبل أن يستقر رئيس الجمهورية على اختيار عمداء لأكثر من مائة كلية رغم مرور شهور طويلة على بدء العام الجامعى. وتخيلوا الشلل الذى يصيب الجامعات والكليات عندما تظل فترات طويلة تحت إدارة مؤقتة.
وثانيا :أنه ما خاب من استشار. انفرد السيد رئيس الجمهورية، باتخاذ قرارات مهمة ومصيرية دون استشارة مجلس الوزراء ودون مراعاة لأوضاع ميزانية الدولة وأولوياتها. وفى مقدمة هذه القرارات قصة العاصمة الجديدة، التى هى انتهاك صريح لنص المادة 222 بأن القاهرة هى عاصمة جمهورية مصر العربية. ونتيجة هذا القرار المنفرد والذى لم يأخذ فى الاعتبار العجز الكبير فى موازنة الدولة ووجود أولويات أخرى مثل تردى التعليم العام وعدم كفاية الفصول والمدارس لاستيعاب الأعداد الهائلة من الطلبة نتيجة ارتفاع معدل الزيادة السكانية وتدهور أوضاع الصحة العامة وقلة مخصصات الموازنة العامة الموجهة لها وسوء حالة القطارات. ولذلك فإن التشاور مع مجلس الوزراء بالنسبة لما يود الرئيس طرحه من مشروعات يمكن أن يسهم فى ترشيد مثل هذه الأفكار، وإكسابها قدرا من الواقعية والتكيف مع إمكانيات الحكومة، ولذلك فقد تعرف مصيرا أفضل من مشروع العاصمة الجديدة الذى تردد بشأنه طويلا دون أن يلقى استجابة محددة من الشركات الدولية أو المحلية التى كانت قد بادرت بإعلان اهتمامه بهذا المشروع.
ثالثا: الالتزام بأحكام الدستور يكسب نظام الرئيس السيسى قدرا أكبر من المصداقية فى مواجهة الرأى العام العالمى، الذى مازال ينظر لما جرى فى مصر بعد 30 يونيو 2013 على أنه انقلاب عسكرى، ويبدد مخاوف قطاعات مهمة من النخبة السياسية فى مصر التى أزعجها حديث الرئيس عن أن مصر تحتاج ثلاثة عقود للانتقال إلى أوضاع ديمقراطية، وأن الدستور طموح، وأنه قد جرى وضعه بحسن نية، وأن الدول لا تدار بحسن نية.
أتمنى رغم الحملة الزاعقة المطالبة بتعديل الدستور استجابة لما فهمه أصحابها من عبارة الرئيس أن يكون الوقت قد حان لتلبية تطلع الحركة الوطنية المصرية إلى إقامة نظام دستورى فى مصر، يتمتع بالمصداقية والشرعية.