لم أشارك قطاعا واسعا من المصريين حزنهم لهزيمة المنتخب الوطنى يوم الأربعاء الماضى ليس لأننى غير مكترث بما هم مهتمون به، ولكن لأننى كنت حزينا لأسباب أخرى. ووجدتنى أقول لبعض الأصدقاء الذين بثوا إلىّ شيئا من الحزن: «ما تزعلوش... أصل الحكاية ما تزعلش». وكان التشبيه الذى حضرنى أن شخصا ما حزن لأن ابنه رسب فى مادة الألعاب الرياضية. فما كان منى إلا أن بادلته حزنا بحزن وفى نفس الوقت استطلعت أداء ابنه فى المواد الأخرى مثل الرياضيات والفيزياء والكيمياء والتاريخ والجغرافيا والاقتصاد والفلسفة، فقال إن ابنه رسب فى كل هذه المواد. فقلت له إذن ما تزعلش على الرسوب فى الألعاب... أصل الحكاية ما تزعلش.
فها أنا أجد نفسى مع أصدقائى من عشاق الكرة، أقول لهم: ما تزعلوش أوى كده... أصل الحكاية فعلا ما تزعلش.
أليس من قلة الفطنة، وفى قول آخر من التفاهة، أن نحزن على رسوبنا فى مادة الألعاب، ولا نحزن لرسوبنا فى المواد الأخرى التى تنبنى بها الأمم وتتقدم بها المجتمعات؟
من حق أى منا أن يستاء أو يغضب على أى من الأمور، فكل منا إنسان له أولوياته، مهما كانت خاصة. ولكن أليس من واجبنا أن نستاء ونغضب على ما هو جاد ومهم من الأمور الأخرى أيضا؟
سأقول لحضراتكم ما أحزننى فعلا:
1 ـ لقد أحزننى وجود هؤلاء الأشخاص غير المؤهلين تربويا وأخلاقيا وفكريا وثقافيا للجلوس أمام الكاميرات والميكروفونات فى الفضائيات الخاصة (كما قال الأستاذ السيد ياسين فى مقاله بالأهرام) كى يكونوا قادة الرأى العام لشباب اختلطت عليه خطوط العداء والصداقة فتصور أن الجزائر ومصر فى عداء بسبب كرة الأصل فيها أنها رياضة. وقد قيل إن الرياضة تهذيب للنفوس قبل أن تكون إحرازا للكئوس. من هؤلاء المذيعون الجدد؟ من الذى أعطاهم الحق فى أن يوجهوا الرأى العام فى مصر؟
من الذى يحاسبهم على خطاياهم؟ من الأسف، لا توجد إجابة عن هذه الأسئلة وهذا مما يضيف إلى الحزن حَنقا.
2 ـ لقد أحزننى فائض الطاقة المبددة الموجودة بهذا الكم المهول، مع الكيف المتردى، بين شبابنا. هذه العقول والأيدى خلقت لتعمل، فإن لم تجد فى الطاعة عملا وجدت فى المعصية أعمالا، كما قال ابن الخطاب رضى الله عنه. وهكذا فإن هذا الفائض من الطاقة بين شبابنا إن لم يجد فيما يفيد سبيلا كان له فيما يضر سُبلا.
3 ـ لقد أحزننى ضعف الأخلاق وقلة الحياء فى السباب والجدال بين قطاع من جمهور البلدين، وكأنهم لم يسمعوا قط عن أوامر صريحة بألا نتنابذ بالألقاب وألا يسب الرجل أباه بأن يسب الرجل أبا الرجل فيسب هذا الأخير أباه، وأن نترك الانتصار للنفس باسم القبلية أو العصبية فإنها «مُنتنة» كما صحت بهذا الأحاديث.
4 ـ لقد أحزننى أن قادة الرأى العام فى مصر أضعف تأثيرا مما كنت أظن وقطعا مما أتمنى، وكأن هذا الجيل الجديد «ما لوش كبير» إلا الغوغاء من المذيعين والإعلاميين الجدد يتوعدون إخواننا الجزائريين وينالون منهم نيلا لا يليق بشعب شقيق لا يمكن اختزاله فى عدد من الحمقى الذين هم أصلا موجودون هنا وهناك.
5 ـ لقد أحزننى أن فائض الطاقة بين شبابنا يواجه بعجز الإدارة بين حكامنا فهم لا يعرفون كيف يستغلون هذه الطاقة فى خدمة قضايا المجتمع الذى يعيشون فيه.. فتظل الأمية على حالها، وتظل القمامة على حالها، وتظل الصحراء على حالها، وتظل مشاكلنا على حالها كنهر يصب ماؤه فى البحر ولا يعرف القائمون عليه كيف يفيدون منه.
6 ـ لقد أحزننى فائض الأموال الذى يظهر فجأة بالملايين مكافأة حالة لمن يضرب الكرة بالقدم، ولا تظهر هذه الأموال لبناء الجامعات والمدارس ومساعدة لمن يعيشون فى العشوائيات تحت رحمة صخور الجبل الذى إن شاء انهار وقتل وإن شاء ثبت وهدد «وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير».
7 ـ لقد أحزننى اختلاط الأولويات عند شبابنا الذين يقفون بالساعات انتظارا لتذكرة لمشاهدة مباراة بل والسفر آلاف الكيلومترات من أجل مباراة، ولا يفعلون أقل القليل من أجل نصرة مظلوم أو حتى نصرة أنفسهم بممارسة حقوقهم السياسية فى اختيار من يحكمونهم ومعاقبة من يقصرون فى إدارة شئونهم.
8 ـ لقد أحزننى أن صرنا، نحن العرب، موضوعا لآيات نزلت فى يهود الجزيرة حين قال الله فيهم: «بأسهم بينهم شديد» و«تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى».. فما معنى هذا الكم المهول من الحقد المستعد لأن ينفجر بين شعبين يفترض فيهما التآخى من أجل مباراة كرة قدم؟ يعادى بعضنا بعضا من أجل قضايا من التفاهة بما قد لا يستحق النقاش أصلا، ونترك قضايا مجتمعنا سواء المصرى أو العربى بلا كثير من العناء وكأن ما يحدث فى فلسطين أو اليمن أو العراق أو السودان أمور غير ذات أولوية أو أهمية.
9 ـ لقد أحزننى أن العالم يتحرك نحو الكيانات الأكبر ونحن، العرب، نتحرك نحو مزيد من التشرذم والتنازع وتبديد الطاقة. فى يوم من الأيام كان حلم الوحدة العربية قائما بين شعوب متقاربة والمسافة النفسية والاجتماعية بينها تقول إن العقبة الوحيدة هى قيادات حريصة على عروشها أكثر من حرصها على مستقبل مشترك لوطن عربى كبير وواحد. وها هى هذه النخب تنجح فى أن تجعل الكل يفكر بمنطق «مصر أولا وأخيرا» و«الجزائر أولا وأخيرا.» وكذا يزداد أعداؤنا قوة بوحدتهم ونزداد نحن ضعفا بفرقتنا. وأتذكر تعليق العروبى الكبير ساطع الحصرى حينما سُئل «لماذا انتصرت إسرائيل على سبع دول عربية فى حرب عام 1948؟» فكان رده لأنهم كانوا سبع دول، ولو كنا دولة واحدة لانتصرنا عليها.
10 ـ لقد أحزننى أننا نحرق أعلام بعضنا البعض حقدا وحسدا وبغضا وقد كنت أتمنى أن يكون الحلم أن يأتى اليوم الذى يمثل العرب فيه فى كأس العالم منتخب واحد بدلا من أن نجتهد فى مزيد من الانقسام. وهذا ما اكتشفه الأوروبيون: فإذا كانت الحدود هى المشكلة، فلنلغ هذه الحدود ولنقم كيانا أكبر لنا جميعا؛ ولو كان تعدد الأعلام والهويات مشكلة، فلنوجد علما جديدا وهوية مشتركة ليكون لها الأولوية على ما عداها من أعلام وهويات، فانتقلوا من دول ودويلات إلى كيان أكبر باسم الاتحاد الأوروبى. ونحن لم يزل بأسنا بيننا شديدا وانقساماتنا أكثر وخلافاتنا أكبر إن لم يكن بالكرة، فبغيرها. تتعدد الأسباب والانقسام واحد.
11 ـ لقد أحزننى أننا حتى فى إطار كرة القدم لا نتعلم كثيرا من خبراتنا السابقة. لقد لعب المنتخب فى آخر مباراتين كما كان ينبغى له أن يلعب من أول مباراة أمام منتخب زامبيا فى القاهرة. منذ أن بدأت معرفتى بكرة القدم قيل لى إن منتخب مصر يحتاج لأن يشارك فى معسكرات طويلة نسبيا حتى يتأقلم اللاعبون على خطة المدرب، وكى يرتفع أداؤهم لاسيما بين أولئك الذين لا يشاركون مع فرقهم. وكانت المفاجأة أن منتخبنا لعب أول مباراتين بدون هذه الحكمة الذهبية ذات التاريخ الطويل، وحينما كدنا أن نهزم بدأنا نعود إلى قواعد الأصل فيها أنها مستقرة كرويا، لكننا لم نستيقظ إلا بعد فوات الأوان، فلو استعد منتخبنا لأول مباراة بقدر استعداده لآخر مباراة لكانت المحصلة غير المحصلة. ولكننا نبدو وكأننا لا نجيد العمل والاجتهاد إلا تحت ضغط الأزمة. وهذه ليست من خصائص إدارة الأزمة بالاستعداد لها بقدر ما هى تعبر عن منطق «الإدارة بالأزمة».
كل ما سبق هو ما يدعو إلى الزعل، والهزيمة الكروية هى أقل ما يعنينى، إذن الحكاية على بعضها فعلا ما تزعلش.