إذا كانت الأوضاع الأمريكية قد أفصحت مؤخرا عن جائحة السلوكيات «الترامباوية»، فمن شأن ما شهده السباق الرئاسى الأخير من تناقضات، وما قاد إليه من إدراكات، توليد أوضاع واستشرافات غير تقليدية. ذلك يستدعى الاجتهاد فى التعرف على ما يلى:
أولاــ تضاريس شخصية بايدن كرئيس جديد فى اللحظة الجارية.
برغم اقتراب بايدن من الثمانين، إلا أن عامل السن قد لا يكون ذا أهمية كبيرة بشأن تضاريس سياسى وصف نفسه بأنه «مرشح التحولات». وبالفعل، تطورات أقوال وتصرفات بايدن على مدى حملتى الانتخابات (مع ساندرز ثم ترامب) تشير إلى تحولات ذات دلالة، من بينها:
ــ إنه بينما كان يصرح (فى فبراير 2020) أثناء منافسته مع ساندرز بأن «الأمريكيين لا يتطلعون إلى ثورة»، إذ به فى حملته التنافسية مع ترامب يقترب من شعارات ساندرز، بل ويتخطاها إلى ما يبدو أكثر تقدمية، كما أظهر فى خطابه السياسى أكثر من مرة، وذلك مثل:
▪ اعتباره لآخر ما نطق به جورج فلويد من كلمات «لا أستطيع التنفس» (أثناء إزهاق روحه بواسطة الشرطة) بأنها «دعوة عمل للأمة».
▪ اهتمامه بالدعم المالى للتعليم الجامعى لأبناء الفقراء.
▪ إدراكه لتغير المزاج فى الشارع السياسى الأمريكى.
▪ إشاراته إلى ضرورة مجابهة العنصرية واللا مساواة الاقتصادية، وكذلك التصدى لحجب الأمل عن الأمة.
▪ رغبته فى استعمال «النفوذ» فى إجبار البنوك على إقراض الشركات التى تناضل أثناء مجابهة الكورونا.
▪ رجوعه إلى كتابات بداية القرن العشرين عن شقاء العمال، والقول بأن «حياة العامل لا تساوى أن أحصل على الهامبورجر بسعر رخيص».
▪ إدانته لاستخدام ترامب للقوة ضد متظاهرين سلميين.
ثانيا ــ ملامح توجهات الدفع إلى تحولات سياسية داخل المجتمع الأمريكى.
1ـ التصاعد والانتشار للتظاهرات التى جمعت البيض والسود معا للتعبير عن رفضهم للسياسات الداخلية.
2 ـ الاضطراب المجتمعى الحاد بفعل إشكاليات الكوفيدــ19 والبطالة والعنصرية.
3 ـ التغير فى مزاج الشارع السياسى، وتجسد ذلك فى رفض المركزية السياسية (فى شكل الحزبين) وكذلك رفض المركزية الإعلامية.
4 ـ التطور فى ثقافة الشارع السياسى الأمريكى بأكثر من التطور فى النظام السياسى.
5 ـ إخفاق اللوبى الصهيونى فى إنجاح ترامب، برغم خدماته غير المتخيلة فى دعم الإدارة الإسرائيلية.
6 ـ رفض البيض الأقل تعلما لقبول رئاسة بايدن (11 نوفمبر 2020)، مما قد يعكس علاقة معقدة ما بين التعليم وممارسة الديمقراطية.
ثالثا – فلسفة التحولات الأمريكية المحتملة فى الزمن القادم:
من المتوقع لهذه التحولات أن تقوم على توجهات وفاعليات على غرار ما يلى:
ــ تصحيح أخطاء ترامب فى التعاملات الدولية، مثل قضايا المناخ والهجرة، والعلاقات مع الصين وروسيا وأوروبا وكندا وإيران.
ــ إحداث مواءمة للنظام السياسى مع مستجدات الإدراكات السياسية فى الشارع الأمريكى. من أمثلة القضايا التى قد تتصدر هذا الاتجاه:
▪ التحول إلى قدر من اللا مركزية السياسية والإعلامية.
▪ إعادة تنظيم الشرطة.
▪ تحسين أوضاع الصحة والتعليم، وتصحيح التعاملات مع الكورونا.
▪ تطوير الأوضاع والقوانين بخصوص العدالة الاقتصادية.
رابعا ــ الاحتياج الأمريكى إلى معرفة إنسانية تغييرية جديدة.
إذا كان لا يمكن غض النظر عن الاتساق بين التطرفات والالتواءات «الترامباوية» على الساحتين الأمريكية والدولية، فمن الضرورى الانتباه إلى أن مثل هذه الممارسات، وخاصة فى الساحة العالمية، ليست فريدة من نوعها عما شوهد زمن الإدارات الأمريكية السابقة.
مثلا، لا يمكن نسيان الزعم الكاذب بامتلاك العراق أسلحة نووية، كحجة لشن الحرب عليه (2003).
وأيضا لا يمكن التغاضى عن الضلوع المزمن للولايات المتحدة فى ممارسات دولية للتشدد والهيمنة، حيث تمثل منصة للتوجهات النيوليبرالية المخربة لاقتصاديات الجنوب. كما أنها راعية للتطرف فى الصراعات الدولية، مع استخدامها لمفاهيم تحريفية، مثل «الفوضى الخلاقة». فضلا عن تضافريتها مع العنصرية الإسرائيلية والتى تخرق قواعد العدالة، دوليا وإنسانيا.
وهكذا، بالأخذ فى الاعتبار لشذوذيات السياسات الأمريكية يمكن التفهم للشذوذية فى سياقات اعتلاء ترامب لمنصب الرئاسة، وفى إتباعية ملايين من الأمريكان له.
وعليه، يحتاج تصحيح الالتواءات «الترامباوية»، وما ساهم فى خلقها من سياقات، إلى علاج أوضاع الشارع السياسى الأمريكى.
الإشكالية هنا أن إنجاز هذا التصحيح لا يمكن أن يتحقق دون التصحيح لعديد من الميكانيزمات السلبية الحاكمة لهذا المجتمع.
من النماذج الدالة على ذلك يأتى فشل «أوباما» فى علاج مشكلة امتلاك الأفراد للأسلحة النارية، برغم تعاظم المعاناة المجتمعية من تكرار الحوادث الناجمة عنها.
وإذا كان هذا الفشل قد جاء بسبب تحالف صناع الأسلحة، فإن نفس نوعية التحالف تمثل ميكانيزما فاعلا فى السياسات الأمريكية/العالمية، مضادا لمصالح الشعوب، ومُتلفا لسلوكيات مسئوليها.
مما سبق يكمن القول بأن عنق الزجاجة فى السعى التصحيحى يتطلب تمكن الإدارة الأمريكية من عمليات الرعاية والدعم للتوصل ــ داخليا وخارجيا ــ إلى معرفة إنسانية تغييرية جديدة.
وبإيجاز، يمكن للدور الأمريكى بشأن التوصل إلى المعرفة الإنسانية التغييرية المطلوبة أن يكون أكثر اتزانا وتحققا، محليا ودوليا، إذا ما اتجهت الرئاسة الأمريكية الجديدة إلى إنشاء مجلس قومى للفكر الإنسانى (أو للمفكرين).
تكاملية هذا المجلس مع كل من مجلس الأمن القومى والحكومة، يمكن أن تقود إلى منهجيات وتطبيقات تطويرية كبرى بشأن المعرفة الإنسانية التغييرية.
خامسا ــ السياقات المؤازرة للتحولات الأمريكية الممكنة:
بينما الصعوبات بشأن الاتجاه إلى المعرفة الإنسانية التغييرية الجديدة، تكمن فى أنانية أصحاب المصالح، أو فيما ترَسّخ من عادات وتقاليد، فإن العناصر المساعدة يمكن أن تتشكل من التالى:
ــ تميز الولايات المتحدة بوجود مأسسة للديمقراطية تتمتع بعراقة نسبية، مقارنة بغيرها من الدول.
ــ اتساع حجم وتنوع الكفاءات البشرية من الأكاديميين والسياسيين والمفكرين ممن يمكنهم التوصل معا إلى مساهمات رائدة ذات صلة.
ــ وجود حالة عالمية من «العَطَشْ» لمعرفة إنسانية تغييرية جديدة.
ــ إمكانية توافر عزم كبير، داخل الولايات المتحدة، لدعم هذا الاتجاه، خاصة من جانب المتمتعين بمستويات أعلى فى التعليم، والذين كان وزن تصويتهم لصالح بايدن أعلى منه لترامب. فى نفس الوقت يجدر الانتباه إلى تضاؤل فى الأوزان التقليدية التى تكون عادة مؤثرة فى الانتخابات الرئاسية، وخاصة وزن اللوبى اليهودى، بحيث زادت نسبة اليهود القادرين على التفرقة بين اليهودية كديانة والصهيونية كاتجاه سياسى عنصرى.
وختاما، عن مقارباتنا نحن العرب مع مسألة المعرفة التغييرية الإنسانية فستكون أكثر إيجابية إذا اعتمدت على دراستنا لما ينبغى أن نحققه، وفهمنا لكيفية تحقيقه، وليس الانتظار لما سيكون عليه الرئيس الأمريكى من توجهات وسياسات. بمعنى آخر، يعتمد الأمر على اجتهادنا فى إبداع مسارنا الخاص بشأن التوصل إلى المعرفة الإنسانية التغييرية (الخاصة بنا).