عندما كسرت ثورة 25 يناير قيود الاحتلال - إبراهيم الهضيبى - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 7:56 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عندما كسرت ثورة 25 يناير قيود الاحتلال

نشر فى : الجمعة 22 يوليه 2011 - 6:30 م | آخر تحديث : الجمعة 22 يوليه 2011 - 6:30 م

  كانت مصر ولا شك محتلة. نعم لم يكن هذا الاحتلال حسيا، لم يكن عن طريق قواعد عسكرية تحيط بالمدن وخواجات لهم مكاتب فى دواوين الوزارات، وإنما كان احتلالا من خارج الأرض كما يسميه المستشار طارق البشرى.

كان احتلالا للقرار السياسى الذى لم يكن ملكا للمصريين بعدما أسرته جهات استند النظام السابق إليها باحثا عن شرعية القوة بعدما أعوزه فقره الديمقراطى، ورهن النظام فى مقابل ذلك مصالح الأمن القومى المصرى فى داخل مصر وكذلك فى شرقها وجنوبها.

وإذا كان الاحتلال قد غاب حسيا فإن أدواته بقيت حاضرة فى قلب المشهد: أجهزة أمنية تقوم بمهمتى القمع والاستخبارات، فأما القمع فهو لإسكات القوى الرافضة للظلم السياسى والاقتصادى للنظام (وهذه رشوة قوى الاحتلال لحلفائها فى الداخل)، وكذلك لقمع القوى الساعية للاستقلال الحضارى، وأما الأجهزة الاستخباراتية فقد كان تزود المحتل دوما بما يريده من معلومات عن النشطاء السياسيين المصريين، سواء ما يتعلق بتحركاتهم السياسية من لقاءات وتحالفات ومواقف، أو ما يتعلق بحياتهم الشخصية، وهى كلها معلومات يمكن استخدامها للإيقاع بين الأطراف المختلفة، أو لتحريك مواقف بعينها.

كانت الثورة إذا أشبه بمعارك التحرير الوطنى: بدأت فى عيد الشرطة، وكانت شعاراتها الأولى تتعلق بإصلاحها، ثم جاء الرد من الشرطة بالرصاص الذى أصاب آلاف المصريين، بيد أن الراغبين فى التحرير فاقت أعدادهم الرصاص، ففرغ الرصاص وبقى البشر، فتحرر الوطن، أو كاد.

أراد الثوار التأكد من تفكيك المنظومة التى قام عليها قمع الشرطة، سيطروا ماديا على مراكز القمع: أُحرِقت أقسام الشرطة التى شهدت تعذيبا جسديا بشعا للمواطنين ،رأينا بعضا منه فى تسريبات الكترونية خرجت فى السنوات الماضية، ودخل الثوار مقرات أمن الدولة حتى وصلوا إلى حجرة نوم الوزير الأسبق، حرزوا آلاف المستندات التى تثبت انتهاكا للحريات والحقوق المدنية والإنسانية، وسلموها للجهات المختصة للتحقيق، تم إلقاء القبض على الرءوس الكبيرة فى الجهاز: الوزير وعدد من مساعديه بينهم رئيس جهاز أمن الدولة، تم حل جهاز أمن الدولة، وظن الجميع أن امبراطورية الأمن قد سقطت، وأن نظاما جديدا فى سبيله للتشكل على أسس جديدة.

خاب الرجاء، فى غضون أسابيع قليلة نقلت وسائل الإعلام أخبارا غير سارة: تعذيب بعض المواطنين فى الأقسام حتى الموت مرة أخرى، الأمن الوطنى ـ بديل أمن الدولة ـ تخلى عن عصا الجلاد ولم يتخل عن عقلية الجاسوس، إذ لا يزال يراقب تحركات السياسيين المصريين ويكتب التقارير عن لقاءاتهم وتجمعاتهم، ويعلم الله حجم ما يصل لأعدائنا من تلك المعلومات، أفراد الشرطة يضغطون على أهالى الشهداء ويهددونهم بتلفيق القضايا إذا لم يغيروا أقوالهم، الشرطة الجنائية تختفى من الشوارع غير عابئة بأمن المواطنين (ولكن معدل الجريمة مع ذلك لم يرتفع، وهو دليل على فقر أدائهم) ولا نرى لها أثرا حين تقع أحداث فتنة طائفية أليمة فى شبرا ولا حين تسىء بعض جماهير الكرة لدولة عربية شقيقة، والشرطة السياسية تظهر مكشرة عن أنيابها حين طالب بعض الثوار بتنكيس العلم الإسرائيلى فى ذكرى نكبة فلسطين، وأخيرا خرج الضباط وقد تم تسليحهم مرة أخرى بالعدة والعتاد من الذخيرة الحية والمطاطية والقنابل المسيلة للدموع (وكلها صناعة أمريكية)، وتسلحوا مع ذلك بالرغبة فى الانتقام، فخرج المشهد الذى رأيناه مساء الثلاثاء 28 يونيو.

يبدو من المشاهد السابقة أن محاولات إصلاح أجهزة الأمن غير ناجعة، فالمشكلة فى أفراد وهياكل أسست لخدمة أهداف غير تلك التى نريدها الآن، ولذلك فإن التغيير ـ لا الإصلاح ـ يصير حتميا.

التغيير لا بد وأن يقوم على عدة محاور: أولها حل الأجهزة الشرطية الاستخباراتية، عين أعدائنا على سياستنا الداخلية، لابد أن تتوقف ـ فورا ـ هذه الأجهزة عن جمع المعلومات، وأن تلتحق مهمة جمع المعلومات بأجهزة المخابرات.

ولابد ـ ثانيا ـ من إعادة بناء جهاز الشرطة بحيث يتمكن من القبض على الخارجين عن القانون ولا يتمكن من قمع المصريين، ويكون أساسا عن حل جهاز الأمن المركزى، وإعادة جنوده المجندين إلى القوات المسلحة، وضم ضباطه إلى باقى ضباط الشرطة الجنائية.

وتتوازى مع ذلك عملية تطهير أجهزة الأمن، وهى تبدأ بفصل كل القيادات الأمنية رفيعة المستوى التى عملت فى ظل النظام السابق، من خلال إحالتهم للمعاش أو المحاكمة، وكذلك نقل كل ضباط أمن الدولة السابقين إلى وظائف إدارية بعيدة عن حمل السلاح وجمع المعلومات، وفتح تحقيق واسع حول انتهاكات الضباط لحقوق المواطنين، وإيقاف كل من يوجه إليه اتهام عن العمل لحين الحكم فى قضيته حتى لا يستخدم سلطاته للتأثير على مجرى التحقيقات، وحبس كل الضباط المتهمين بقتل المتظاهرين احتياطيا وإيقافهم عن العمل لحين صدور أحكام نهائية بحقهم لنفس السبب.

ثم تأتى مسألة العدالة التى تضمن استمرار المؤسسة، وولاء أفرادها للدولة والقانون لا للنظام السياسى والأفراد، ويكون ذلك أولا عن طريق إعادة هيكلة الأجور، بحيث يستطيع الضباط فى المراتب الإدارية الأدنى الاكتفاء بمرتباتهم عن الإتاوات التى يفرضونها على الناس، وبحيث لا يتوحد كبارهم مع النظام للحفاظ على المبالغ الطائلة التى يتقاضونها، ثم هناك إعادة النظر فى قانون الترقيات وغيره من القوانين الإدارية الحاكمة لعمل الشرطة بحيث تكون هناك معايير واضحة للاستمرار فى العمل، ولا تكون هذه المعايير مرتبطة برضا الضباط فى الدرجات الإدارية الأعلى أو القيادات السياسية عن الأداء لأسباب غير مهنية. وتأتى بعد ذلك الرقابة على عمل جهاز الشرطة، ولابد من إيجاد ضمانات جادة لتمكين أربعة جهات مختلفة من الرقابة، أولا تنفيذى وهو الوزير الذى ينبغى أن يكون مدنيا سياسيا، وثانيها البرلمان باعتباره الجهة التشريعية، وثالثها الرقابة القضائية، ورابعها الرقابة المدنية من خلال المنظمات الأهلية ومؤسسات العمل المدنى. ومن المهم هنا الإشارة لنقطتين، أولاهما أن حجم الفساد الذى كانت عليه المؤسسة هو الذى أدى لفشل كل محاولات إصلاحها إلى الآن، وبالتالى فإن الرهان على أن تنصلح المؤسسة من داخلها رهان خاسر، فالعناصر الصالحة فى داخل المؤسسة ليست بالضرورة مصلحة، والمصلح منها شديد الضعف إذا ما قورن بالمصالح التى تدفع الغالبية للحفاظ على الوضع الحالى، وأما الإشارة الثانية فهى أننا فى حاجة ماسة إلى معرفة حقيقية بتكوين المؤسسات الشرطية، فبعض الشفافية والمعلومات مفيدة من أجل تحويل المبادرات إلى خطط تنفيذية أكثر تفصيلا للتعامل مع المشكلة.

أتصور أن جهود الإصلاح الجزئى لأجهزة الشرطة قد أثبتت فشلا كبيرا، تفسيره فى ظنى هو تلك العلاقة الوطيدة بين بقاء هذه الأجهزة على النحو التى هى عليه وبين مصالح الأطراف التى تمدها بالسلاح والتدريب فى مقابل المعلومات، وأتصور أن هذا التغيير الشامل لأجهزة الشرطة يحتاج لقوة دفع كبيرة لا تقدر عليها القوى الوطنية المصرية إلا مجتمعة، الأمر الذى يجعل اجتماعها ضرورة لا مفر منها لتحرير مصر من أسر هذه الأجهزة ومن يحرص على وجودها.

إن الأحزاب والتنافس السياسى لا معنى له فى وجود الاحتلال، وهو درس لابد وأن يكون كل دارس للتاريخ المصرى قد وعاه، فالاحتلال تحتاج مواجهته لحركات التحرر لا للأحزاب، أقصد لأؤلئك الذين يريدون إزاحة لاعب غير مرغوب فى وجوده على الساحة، لا لأولئك الذين يتنافسون على الأدوار السياسية.

إن اتفاق القوى الوطنية المصرية على تغيير أجهزة الأمن وفلسفتها هو الضمان الرئيس لانتقال هذا الوطن إلى حيث يريد أبناؤه من استقلال وكرامة وحرية، واختلافها حول هذا المطلب يعجز عن تحقيقه، فتبقى القوى الوطنية كلها وقتئد أسيرة لأجهزة أمنية خارجة عن القانون، ونفقد من الثورة معنى الحرية والاستقلال.

التعليقات