فى آخر حواراته التليفزيونية قال وزير المالية يوسف بطرس غالى إن اباه سأله عن الضريبة العقارية قائلا بغضب: «ايه اللى بتهببه ده؟». ولا لبس فى أن استنكار والد الوزير للضريبة، التى هندسها ابنه ودافع عنها باستماتة، قد ترافق مع استنكار وادانة عميقين واجها الضريبة منذ أن كانت فكرة، ثم مشروع قانون، حتى أقرها البرلمان العام الماضى، ثم أصدرت لائحتها التنفيذية فى أغسطس الماضى.
ويختلف الاستنكار والادانة هذه المرة عما اعتاد عليه غالى طوال مشواره السياسى، الذى بدأه عام 1993 كوزير فى الحكومة. هذه المرة الهجوم أعنف وأعلى صوتا، وفى البرلمان نفسه، بل وفى بيت الوزير. فما السبب فى ذلك؟
لأنها ضريبة جديدة؟ لا الضريبة ليست جديدة بل هى تحل محل تلك التى كان ينظمها القانون 56 لعام 1954. إذن أكيد أن القانون الجديد (يحمل رقم 106 لعام 2008) يرفع قيمة الضريبة وعبئها؟ الاجابة لا أيضا. الضريبة العقارية الجديدة تفرض معدلا ثابتا 10% مقارنة بما بين 10و 40% فى القانون القديم، وتعفى جميع العقارات التى تقل قيمتها عن 500 ألف جنيه من دفع أية ضريبة. بل وتحسب ريهام الدسوقى، كبيرة باحثى الاقتصاد الكلى ببنك الاستثمار بلتون أن من كان يملك عقارا بقيمة 450 ألف جنيه، كان عليه وفقا للقانون القديم دفع 2590 جنيها سنويا (نسب التهرب منه كانت هائلة) مقارنة بــ 30 جنيها سنويا لمالك عقار بقيمة نصف مليون جنيه طبقا للقانون الجديد. فما المشكلة بالضبط؟ لماذا كل هذه الجلبة؟
السبب الحقيقى هو أن هذه الضريبة، على غير كل منطق التعديلات والاجراءات الضريبية التى طبقتها الحكومة فى السنوات الماضية سواء على المبيعات أو الدخل، يدفعها الاغنياء والطبقة الوسطى العليا، وهم الأعلى نفوذا وصوتا وتمثيلا فى الاعلام والبرلمان، أكثر من الفقراء.
التزم القانون القديم بأحوزة عمرانية ضيقة فجاءت الضريبة العقارية الجديدة لتوسعها لكل الاقاليم ضامة بذلك فيللات وشاليهات وقصور هاسييندا ومختلف القرى التى تنتهى بــ «هيلز»، إلى نطاق الضريبة. كما أن الضريبة أصبحت تشمل ماهو مخصص للسكن إلى جانب غيره، رافعة بذلك تكلفة الاحتفاظ بوحدات سكنية لمجرد التسقيع او التخزين او الاستثمار. وهو إجراء قد يكون من شأنه دفع عدد من مالكى الوحدات الخالية أو المغلقة (28% من اجمالى العقارات فى مصر) لتأجيرها أو بيعها بسعر سيقل مع زيادة العرض لمن يحتاجها، أو فى أقل الأحوال دفع الثمن لميزانية الدولة. أيضا سيعيد رفع التكلفة هذا حسابات تلك القلة الثرية التى مولت بدايات فقاعة عقارية من الاسكان الفاخر فى السنوات الاخيرة بغرض الاستثمار او مجرد الموضة بامتلاك عشرات الوحدات فى قرى الساحل وضواحى القاهرة. وهى فقاعة لا تقع تكلفتها فقط على المالكين بل تسهم الدولة بجزء كبير من تكلفتها عن طريق مدها للخدمات العامة (مياه وكهرباء..الخ) اليها على حساب عشوائيات الفقراء، بل وأحياء القاهرة. وتقدر الحكومة الفجوة بين العرض والطلب فى الاسكان بنحو 300 ألف وحدة سنويا بسبب هذا التوجه، الذى يستهلك أيضا موارد المجتمع الاقتصادية من تشغيل وطاقة واسمنت وحديد وغيرها.
حقيقة الضريبة العقارية الجديدة (التى هى فى الوقت ذاته ليست شيئا غير معتاد فى جميع الدول الرأسمالية العريقة، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية)، أنها لأول مرة توسع نطاق الممولين فى الشريحة الأغنى بدلا من امتصاص قليل الفقراء عبر ضريبة المبيعات أو ضم الأجر الاضافى لضريبة الدخل، كما حدث فى قانونها الأخير، الذى خفض ما يدفعه الاغنياء لمعدل يتساوون فيه مع الجميع عند 20% (هذه المرة على غير ما يحدث فى دول رأسمالية عريقة مازالت تتبنى ضرائب تصاعدية).
فى مصر يستفيد الاغنياء أكثر من خدمات الدولة ومرافقها. وإلا فمن الاعلى استهلاكا للطرق ودعم الوقود والكهرباء..الخ؟ لكن عندما يضطر مالك وحدة عقارية قيمتها 15 مليون جنيه إلى دفع 18,300 سنويا بدلا من 86 ألفا و400 جنيه سنويا في القانون القديم لتمويل الميزانية المنهكة فإنها تكون الحرب. ويقول الوزير بوضوح فى حواره إن «ضريبة 6 فيللات تكفى لاقامة وحدة للاسكان التعاونى»، ما أحوجنا للملايين منها. لكن الحكاية لا تنتهى هنا.
تقول ورقة بحثية صادرة عن البنك الدولى فى يونيو 2000، أى فى عز سيطرة فلسفة إجماع واشنطن وحرية الاسواق، تحت عنوان «الاصلاح فى اتجاه الضريبة العقارية فى الاقتصادات التى تمر بتحول»، إن السبب الأساسى فيما رصدته وقتها فى هذا الاصلاح هو دفع موارد الدولة ومحاصرة عجز الموازنة، الذى هو هدف محورى فى التحول الاقتصادى نحو التمكين الكامل للسوق من الاقتصاد.
وهنا غالى ليس استثناء بالمرة. فمن المتوقع أن تولد الضريبة العقارية حال التطبيق الكامل لها دخلا سنويا قدره بنك بلتون بما بين 3-4 مليارات جنيه مقارنة بمتوسط 680 مليون جنيه فى السنوات الـ3 الاخيرة طبقا للقانون القديم، وهو ما سيساعد دون شك فى حل مشكلة عجز الموازنة، الذى سيرتفع العام المالى الحالى من قرابة الــ 7% من الناتج المحلى إلى 8.5%.
وربما يكون هذا سببا كافيا ليوسف بطرس غالى لقبول التحيز النسبى للضريبة الجديدة ضد الأغنياء، وهو واحد من الأنبياء الأوائل لتمكين السوق اقتصاديا فى مصر، بعدما وصلت مساهمة الفقراء للحد الأقصى المسموح به سياسيا. وغنى عن الذكر ان الوصية الضريبية الاولى لهذه الفلسفة هى تقليص ما يدفعه الاغنياء لتخفيض تكلفة الاستثمار ورفع الربحية، ومن ثم زيادة التشغيل وتدعيم الطلب، وبالتالى رفع الحافز للتوسع واعادة الاستثمار. وهى دورة ثبت مرارا وتكرارا فى تاريخ الرأسمالية أنها لا تكاد تكتمل حتى تنقطع بعنف.
وتحذر ورقة البنك الدولى نفسها من العواقب السياسية لاصلاح نظام الضرائب العقارية بما يفرزه من معارضة وتراجع شعبية صار الآن بين متنفذين، وهو أمر يدركه وزير المالية جيدا الآن، بعد أن غادر مؤقتا هذا المربع الذى تمترس فيه طوال تاريخه، ليواجه من أجل عيون عجز الموازنة، غالى الذى اعتدناه، وصادما بذلك حتى أبيه.
wgamal@shorouknews.com