هى قصة رجلين من عالمين ودينين مختلفين يعملان معا بلا كلل لمواجهة خطابات الكراهية والعنصرية، ومن أجل عالم تسوده قيم المساواة والعدالة والحرية. الأول اسمه جورج، ولد فى العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس فى 17 ديسمبر 1936، والثانى أحمد، الذى ولد فى صعيد مصر فى السادس من يناير 1946.
ولد جورج، أو خورخى طبقا للغة الإسبانية، لأب مهاجر إيطالى يعمل فى السكك الحديدية، وأم اختارت أن تتفرغ لتربية أولادها الخمسة. تخرّج تقنيا كيميائيا لكنه اختار حياة الكنيسة، فالتحق بالرهبنة اليسوعية فى العام 1958. درس العلوم الإنسانية فى جامعة سانتياجو فى تشيلى، ثم عاد إلى الأرجنتين ليكمل دراسة الفلسفة. اختير كاهنا فى العام 1969، وعُيّن فى العام 1992 أسقفا مساعدا لبوينس آيرس، وبعد ذلك بستّ سنوات اختير لمنصب رئيس أساقفة. أما أحمد فقد ولد لأسرة صوفية زاهدة فى الأقصر، وانخرط فى التعليم الأزهرى فى معهد إسنا الدينى، وبعده فى معهد قنا الدينى، ثم سافر إلى القاهرة حيث التحق بكلية أصول الدين فى جامعة الأزهر، وحصل على شهادة الليسانس فى العقيدة والفلسفة فى العام 1969، وشهادة الماجستير فى العام 1971، ودرجة الدكتوراه فى العام 1977. سافر بعد ذلك إلى فرنسا لدراسة مناهج العلوم وطرق البحث. وتدرّج فى المناصب داخل الأزهر إلى أن اختير مفتيا للديار المصرية فى العام 2002، ليتولّى بعد ذلك بعام رئاسة جامعة الأزهر.
وصل كلٌّ من الرجلين إلى قيادة المؤسسة الدينية التى انخرط فيها. فقد اختير جورج فى مارس 2013 بابا للكنيسة الكاثوليكية، ليكون بذلك أول بابا من أمريكا اللاتينية، وأول يسوعى فى الوقت نفسه يصل إلى رأس الكنيسة الكاثوليكية تحت اسم البابا فرنسيس. أما الشيخ أحمد الطيب، فكان اختير قبل ذلك بثلاث سنوات ليكون الإمام الأكبر للأزهر الشريف.
• • •
عندما وصل البابا فرنسيس إلى قيادة الكنيسة الكاثوليكية كانت العلاقة بين الأزهر والفاتيكان متوقّفة بسبب تصريحات للبابا السابق حول اضطهاد المسيحيين والمسيحيات فى الشرق الأوسط. رأى البابا فرنسيس فى الحوار مع الإسلام خطوة ضرورية فى ظل لحظة تاريخية صعبة آنذاك. فقد شهدت تلك الأعوام صعود تنظيم داعش وإقامته لدولته فى العراق وسوريا، كما عرفت تلك الفترة توافد اللاجئين واللاجئات إلى أوروبا، وما صاحب ذلك من خطاب لليمين المتشدد يرفض فيه استقبالهم. فسعى فرنسيس إلى استئناف الحوار مع الأزهر فى محاولة لتغيير تلك الصورة القاتمة. وبالفعل، عاد الحوار بين المؤسستين الدينيتين. زار أحمد الطيب الفاتيكان فى مايو 2016، وكانت الزيارة الأولى التى يقوم بها شيخ للأزهر للفاتيكان، ثم زار فرنسيس القاهرة فى أبريل 2017، لتدشّن هاتان الزيارتان مرحلة جديدة فى العلاقات بين الأزهر والفاتيكان.
لم تكن عودة العلاقة بين المؤسستين الدينيتين بالأمر الهيّن، لكنّ صداقة نشأت بين الطيب وفرنسيس، سمحت لهما بتجاوز العديد من العقبات المؤسسية والأصوات المتحفظة. يتشارك الرجلان فى الكثير من الصفات، منها أنهما يريان أن لهما رسالة إنسانية تتجاوز مسئوليتهما تجاه أتباعهما من المسلمين والمسيحيين، ويسعيان إلى الدفاع عن قيم إنسانية مثل التسامح والعدالة لجميع البشر. يتشابه الرجلان أيضا فى نمط حياتهما البسيط. فقد عاش فرنسيس عندما كان أسقفا فى بوينس آيرس فى شقة بسيطة، وكان يطهو فيها طعامه بنفسه، واعتاد أن يتنقل بالمواصلات العامة. وعندما تم اختياره على رأس الكنيسة الكاثوليكية، تخلى عن الشقق البابوية، واكتفى بجناح صغير فى دار الضيافة فى الفاتيكان. وكذلك حال أحمد الطيب، الذى يقيم فى شقته فى القاهرة، ويرفض تقاضى راتبا عن منصبه كشيخ للأزهر، ويقول إنه يؤدى عمله فى خدمة الإسلام، ولا يستحق عليه أجرا إلا من الله. كما يتشارك الرجلان فى جمعهما فى الدراسة بين العقيدة والفلسفة.
أثمر الحوار بين الأزهر والفاتيكان عن وثيقة الأخوّة الإنسانية، التى وقّعها كلٌّ من الطيب وفرنسيس فى دولة الإمارات العربية المتحدة فى فبراير 2019. تبدأ الوثيقة بعبارةٍ هى فى ذاتها جوهرُها: «باسم الله الذى خلق البشر جميعا متساوين فى الحقوق والواجبات والكرامة، ودعاهم للعيش كإخوة فيما بينهم ليعمّروا الأرض، وينشروا فيها قيم الخير والمحبة والسلام». أكد كلٌّ من الطيب وفرنسيس فى الوثيقة على أن العدل القائم على الرحمة هو السبيل الواجب اتّباعه للوصول إلى حياة كريمة لجميع البشر. وترى الوثيقة أن الحوار ونشر ثقافة التسامح وقبول الآخر هما السبيل من أجل احتواء العديد من المشكلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والبيئية التى تواجه البشرية.
• • •
إن طريق الحوار بين الطيب وفرنسيس ليس سهلا. يواجه نهج كلّ من الرجلين أصواتا متطرفة تسعى إلى اختطاف الدين لخدمة أهدافها السياسية. فيواجه الطيب مجالا دينيا تسعى فيه الأصوات المتطرفة إلى أن تنتقص من دور الأزهر، وتستخدم الحوار مع الفاتيكان لتحقيق هذا الهدف. وكذلك هو حال البابا فرانسيس الذى جاء فى لحظةٍ تشهد صعود التيارات اليمينية المتطرفة فى دول أوروبية عدة. تستخدم هذه التيارات اليمينية الدين لحشد الأصوات، لكنها تتجاهل القيم المسيحية نفسها فى خطابها، كما هو حال مواقفها المتشددة تجاه اللاجئين واللاجئات. فبينما طالب البابا فرانسيس الكنائس بفتح أبوابها لإيواء اللاجئين واللاجئات، ترفض تلك الأحزاب اليمينية استقبال اللاجئين واللاجئات من الأساس، وتطالب بإعادتهم إلى بلادهم الأصلية. إلا أن الرجلين مستمران فى نهجهما من دون أن يسمحا لتلك الأصوات المتطرفة أن تفسد الحوار بينهما.
جاء حوار الطيب وفرنسيس فى لحظةٍ بدت مليئة بالعنف والعنصرية وخطابات الكراهية ليعطينا بعضا من الأمل فى أن المستقبل قد يكون أفضل. هذه العلاقة الخاصة التى جمعت كلا من الإمام الأكبر والبابا هى سرّ نجاح الحوار بين الأزهر والفاتيكان، ولكنها أيضا نقطة ضعفه. فالتحدى الحقيقى أمام هذا التقارب بين الطيب وفرنسيس هى كيف يمكن أن تنتقل قيم الحوار بين الرمزين الدينيين إلى كل العاملين فى مؤسستى الفاتيكان والأزهر، ثم فى مرحلة تالية إلى كل الفاعلين الدينيين، المسلمين والمسيحيين، كالمنظمات الأهلية المسيحية والإسلامية. فيجب ألا يتوقف الحوار عند مستوى القيادات الدينية ليكون منهج عمل لكل العاملين فى المجال الدينى الإسلامى والمسيحى.