الحرية شرط للعدالة - حازم الببلاوي - بوابة الشروق
الخميس 10 أبريل 2025 3:53 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

الحرية شرط للعدالة

نشر فى : الإثنين 23 نوفمبر 2009 - 10:52 ص | آخر تحديث : الإثنين 23 نوفمبر 2009 - 10:52 ص

 لعل أخطر القضايا التى واجهت البشرية فى تطورها الطويل يتعلق بفكرتى العدالة (المساواة) والحرية، والعلاقة بينهما. وكنت قد نشرت فى جريدة الأهرام بتاريخ 26 يونيو 1973 مقالا بعنوان «فى الحرية والمساواة»، وقد استعرت نفس العنوان لكتاب لى صدر عن دار الشروق فى عام 1985.

وكان موضوع ذلك المقال هو التأكيد على أنه «لايكفى القول بأن الحرية والمساواة هما دعامة أى مجتمع راق ومتمدين، بل لابد من اتخاذ موقف محدد من كل منهما. حقا إن الحرية تضيع فى مجتمع اللامساواة والفروق الطبقية، كما أن المساواة لا تتحقق فى مجتمعات الكبت والعبودية. ولكن ليس معنى ذلك أن الحرية هى المساواة أو أن المساواة هى الحرية»، بل هناك من الأحوال، التى يثور فيها شبه تعارض بين الحرية والمساواة. و«الرأى عندى هو أنه مع الاعتراف بأن الحرية والمساواة معا هما أعمدة أى نظام سياسى ناجح، إلا أن الحرية هى الأساس، وينبغى أن يكون لها دائما الأسبقية».

وكانت الحجة الأساسية لهذا الموقف تستند إلى التجارب التاريخية المتحققة فى هذا المضمار، والتى تجعل من الحرية أساس العدالة والمساواة. «فنظرة منصفة على النظم السياسية المختلفة تقطع بأن الدول التى قامت على مبدأ الحرية ودعت إليها لم تنجح فقط فى توفير قدر كبير من الحرية كل شىء نسبى طبعا ولكنها، وفرت أيضا مكاسب ضخمة على طريق المساواة.

وعلى العكس من ذلك فإن النظم السياسية التى قامت أساسا على مبدأ المساواة، قد فشلت جميعا تقريبا فى تحقيق الحرية ولم تنجح فى كثير من الأحوال فى تحقيق المساواة». وهكذا فقد كان الغرض من ذلك المقال التأكيد على ضرورتهما معا، مع إعطاء الأولوية دائما للحرية، فهى أيضا السبيل إلى العدالة والأساس لوجودها.

والسبب فى العودة إلى موضوع سبق أن تناولته منذ أكثر من ثلث قرن، هو صدور كتاب حديث عن «فكرة العدالة» (2009)، The Idea of Justice، للاقتصادى الهندى أمارتيا سن A. Sen الحائز على جائزة نوبل، وهو كتاب يناقش قضية العدالة وبوجه خاص «نظرية العدالة»، والتى قدمها المفكر والفيلسوف الأمريكى جون راولز J. Rawls فى كتابه الشهير بهذا العنوان والصادر فى 1971، حيث أصبح العمدة فى تحديد مفهوم «العدالة» فى معظم الأوساط الأكاديمية منذ الربع الأخير من القرن العشرين. وعندما نشرت مقالى سالف الذكر» فى الحرية والمساواة»، لم أكن ـ آنذاك على علم بهذا الكتاب المهم.

والآن، وبمناسبة قراءتى لمؤلف سن الجديد عن «فكرة العدالة»، ومناقشته لنظرية راولز وبصرف النظر عما بين الكاتبين من خلافات فى المنهج تأكد لى من جديد سلامة الموقف، الذى اتخذته منذ نيف وثلاثين عاما، فى أن «الحرية» هى الأساس، وأنه لا قيام للعدالة بدون حرية، وأن مقولة «المستعبدالعادل» هى وهم وتناقض.

ولنبدأ بعرض أفكار راولز عن العدالة والتى أطلق عليها وصف «العدالة كإنصاف» Justice as fairness. فجوهر «العدالة» عنده هو الإنصاف، أى المعاملة المتساوية لجميع الأطراف بلا تمييز أو تحيز. ومن هنا ارتباط مفهوم العدالة بفكرة المساواة.

فالعدالة هى، فى نهاية الأمر، المساواة فى المعاملة عند تساوى الشروط والظروف. والسؤال عند راولز، هو كيف نحقق هذه «العدالة»؟ وهو يرى أن نقطة البدء هى ضرورة البحث عن تعريف «للمجتمع العادل». فما هو هذا المجتمع؟

يأخذ راولز ينفس المنهج الذى اتبعه العديد من المفكرين والفلاسفة السابقين، وذلك بتعريف هذا «المجتمع العادل» عن طريق البحث عن نوع من «العقد الاجتماعى» بين الإفراد لتحديد شكل المجتمع العادل. تماما كما فعل هوبز ولوك وروسو من قبله. فمفهوم «المجتمع العادل» عندهم ينشأ كنتيجة لاتفاق أفراد المجتمع من خلال نوع من «العقد الاجتماعى» لتحديد خصائص هذا المجتمع العادل، وهكذا يتم تعريف مفهوم «العدالة».

ويضع راولز عددا من الشروط لضمان تحقيق هذا التوافق التعاقدى على مفهوم «العدالة» فى «الإنصاف». ولضمان «عدم الانحياز» لدى المتعاقدين، وبالتالى لتحقيق الإنصاف يفترض راولز أن هذا «العقد الاجتماعي» يتم فى لحظة للبراءة يطلق عليها «الوضع المبدئى» Original position، وحيث لا يعرف الأفراد مستقبلهم ولا وضعهم فى المجتمع، فهم لايعرفون إن كانوا سيكونون أغنياء أو فقراء، أصحاء أو مرضى، وهو ما أطلق عليه «ستار أو حجاب الجهل» Veil of ignorance.

وهكذا يشارك الأفراد فى 
«العقد الاجتماعى» فى لحظة ليس لأحد مصالح خاصة واضحة يقصد حمايتها، وبذلك يناقشون شكل المجتمع المثالى فى براءة كاملة نتيجة لهذا «الستار من الجهل» بأوضاعهم الفعلية فى المجتمع، وبالتالى يأتى اتفاقهم مجردا عن أى مصلحة أو انحياز.

ويعتقد راولز أنه من السهل أن يتم التوافق على شكل «المجتمع العادل» بين هؤلاء الأفراد المجردين من المصالح الخاصة والتحيزات. وهو يرى أن هذا التوافق يتم على عدة مراحل، حيث يتم التوافق أولا على «المبادئ» الأساسية «للمجتمع العادل»، وفى المرحلة الثانية يتم الاتفاق على «المؤسسات»، التى تباشر نشاطها فى ضوء هذه «المبادئ».

ومن هنا تتضح أهمية المرحلة الأولى، التى تحدد «مبادئ المجتمع العادل» عند راولز. وهو يرى أن هذه المبادئ تتبلور حول مبدأين أساسيين:
المبدأ الأول «أولوية الحرية»، ومقتضاه الاعتراف بالحقوق المتساوية لجميع الأفراد فيما يتعلق بالحريات العامة.

والمبدأ الثانى «مبدأ الاختلاف»، وهو يتعلق بقبول بعض الفروق فى الحقوق والمزايا الاقتصادية والاجتماعية فى إطار قيدين، الأول أنه لا يجوز التمييز فى الفرص العامة بحيث ينبغى أن تتاح للجميع بلا تمييز، والقيد الثانى هو أن قبول التمييز فى الحقوق والمزايا لابد أن يكون ضمن حدود من شأنها أن تؤدى إلى تحسين أوضاع المجتمع فى مجموعه من حيث التقدم الاقتصادى والاجتماعى.

وبعد أن حدد راولز هذين المبدأين الأساسين للعدالة، فإن انتقل بعد ذلك إلى اختيار المؤسسات التشريعية والقضائية اللازمة لضمان احترام هذين المبدأين فى إطار من الديمقراطية فى اختيار ممثلى الشعب فى المجالس التشريعية ومع استقلال القضاء، وبما يؤكد مبدأ حكم المؤسسات وسيادة القانون.

وليس هنا مناط التفصيل فى نظرية راولز عن «العدالة»، ولكن ما أردت أن التأكيد عليه هو أن المبدأ الأول فى تعريفه للعدالة هو أولوية «الحرية».

فالحرية هى الخطوة الأولى والضرورية لمجتمعات العدالة. ولكن الحديث عن الحرية، وخاصة الحريات العامة والسياسية وحدها لا يكفى بل لابد وأن تستكمل بإجراءات مكملة ليس فقط لضمان المساواة فى الفرص أو المساواة أمام القانون، بل على الأقل لضمان توزيع المزايا الاقتصادية والاجتماعية على نحو يوفر للجميع، خاصة المحرومين، الحدود الكافية للعيش الكريم مع إتاحة الفرص الكاملة للمجتمع للتقدم الاقتصادى والاجتماعى.

وجاء كتاب سن الأخير عن «فكرة العدالة»، متضمنا نقدا جوهريا لمنهج راولز بالبحث عن «نموذج مثالى» Transcendental للمجتمع العادل، حيث يرى على العكس أن الأكثر واقعية هو البحث «المقارن» بين المجتمعات.

فالمشكلة الحقيقية التى نواجهها فى الواقع هى «الظلم»، وبالتالى الحاجة إلى معرفة كيفية القضاء عليه أو التخفيف منه. فالطريق إلى تحقيق مجتمع «العدالة» يبدأ بالبحث فى مظاهر «الظلم». ومن هنا يرى سن أن تحقيق «العدالة» يتطلب التمعن فى الظروف والأوضاع الفعلية للمجتمعات، واكتشاف ما تتضمنه من مظاهر «للظلم»، وبحث كيفية العمل على إزالة أو تخفيف هذه المظالم.

وللظلم مظاهر متعددة وكثيرة ومتنوعة. ورغم أن سن ناقش فى كتابه العديد من هذه القضايا، فقد احتل موضوع «الحرية» موضعا مركزيا عنده فى تحديد مفهومه للعدالة. فعند سن كما عند راولزـ يمثل توفير الحريات العامة والسياسية للأفراد الخطوة الأولى والأساسية لتحقيق «العدالة».

فهذه الحريات هى تحقيق للمساواة بين الأفراد فيما يتعلق «بإنسانيتهم»، وبالتالى ضرورة تمتعهم بحقوقهم وحرياتهم العامة والسياسية على قدم المساواة وبلا تمييز، فليس للحكام على المحكومين بأكثر مما يفوضونهم فيه وتحت رقابتهم. فالاعتراف بحريات الأفراد واحترامها هو تطبيق لمبدأ المساواة (العدالة) فى معاملة الأفراد باعتبارهم سواسية فى الإنسانية.

ويؤكد سن من ناحية أخرى أن ما يحتاجه الأفراد ليس مجرد توافر «الموارد» تحت إيديهم، وإنما تمتعهم بـ«القدرات» capabilities المناسبة لحسن استخدام الموارد المتاحة لهم. ويخلص سن من تحليله إلى القول إن «الاقتراب من العدالة لايتحقق إلا بالديمقراطية»، أى «بالحكم من خلال الحوار».

وهكذا يتضح أن سن يبتعد عن منهج روالز «المثالى» فى تحديد «المجتمع العادل»، ويرجح «المنهج المقارن» للمجتمعات الواقعية على نحو ما أخذ به آدم سميث وكوندورسيه وماركس وستيوارت ميل، وذلك بالتركيز على مظاهر «الظلم» فى المجتمعات المختلفة ومحاولة استئصالها.

ويؤكد سن أن التعرف على مظاهر الظلم تتوقف على «القيم» السائدة، و«المصالح» الغالبة فضلا عن «العادات» المتأصلة فى مختلف المجتمعات. وهو يستند فى صدد التعرف على أوضاع العدل والظلم إلى فكرة آدم سميث عن «المراقب غير المتحيز» Impartial spectator.

فلدى كل فرد وفى داخله نوع من «المراقب غير المتحيز»، أو الضمير، الذى يساعده على الحكم السليم على الأشياء. وهكذا يظهر فى كل وقت نوع من الاتفاق العام حول ما هو «عادل»، وما هو «ظالم». وفى ضوء ذلك يمكن مقاومة الظلم والأخذ بمزيد من العدالة دون حاجة إلى البحث عن تعريف مجرد «للمجتمع العادل».
يبدو مما تقدم أن المفكرين المعاصرين فى تناولهم لقضية «العدالة»، وسواء أكانوا من أنصار التفكير «المثالى» كما عند راولز، أو كانوا من أنصار المنهج «التاريخى المقارن» كما مع سن، فإنهم يتفقون على أنه لاعدالة بدون حرية. وإذا كان فقهاء المسلمين يتفقون على أن «العدل أساس الملك»، فالطريق إلى العدل يبدأ بتوفير الحريات العامة.

فالحرية شرط ضرورى، وإن لم يكن كافيا، لتحقيق العدالة. وفى هذه الأيام وحيث يدور جدل سياسى حول الإصلاح السياسى فى مصر، فإن نقطة البدء هى الحريات العامة والسياسية. فهذه هى نقطة البداية للإصلاح.

حازم الببلاوي  مستشار صندوق النقد العربي في أبوظبي ، ووكيل الأمين العام للأمم المتحدة الأسبق ، حاصل على ليسانس الحقوق من جامعة القاهرة مع مرتبة الشرف ، كما حصل على العديد من الجوائز والأوسمة من حكومات وهيئات عالمية ومحلية مختلفة ، وهو صاحب العديد من المؤلفات باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية في مجالات التنمية والتعاون الاقتصادي ، بالإضافة إلى عدد كبيرمن الأوراق المُقدمة إلى مؤتمرات إقليمية ودولية.
التعليقات