فى مصر لا تتمتع الخبرات الحوارية مع السلطة عادة بسمعة جيدة، فدائما ما تفشل هذه الحوارات وتنتهى باتهامات متبادلة بين أطرافها، حدث ذلك أيام مبارك ثم تكرر أكثر من مرة مع المجلس العسكرى ثم مع محمد مرسى وكانت النتائج جميعا لم ينجح أحد!
فى خطابه الأخير أعلن السيسى طلبه من عدد من المؤسسات الصحفية إجراء حوارات سياسية تخص موضوعات مختلفة مثل الشباب والأحزاب والأوضاع الاقتصادية، وبعض هذه الحوارات قد تم بالفعل وبعضها أخذ فى التحضير. ورغم إشفاقى الشديد النابع من حرصى وخوفى على دخول هذه المنابر الصحفية فى لعبة خطرة وغير محمودة العواقب خصوصا فى حالة لا قدر الله الفشل. فإننى فى هذه السطور أضع ما أتصوره ضمانات للحوار مع السلطة لأنى فى النهاية مؤمن بأن الحوار هو أمل هذه البلد العظيمة وهو السبيل الوحيد لتجنب العنف والإرهاب والقمع.
أولا: فيما يتعلق بالجهة المستضيفة للحوار فلابد أن تلعب دور المنسق والداعم للحوار سواء من خلال تنسيق وتحديد أطرافه ومفاهيمه ومحاور جلساته أو من خلال تقديم الدعم اللوجستى والفنى للحوار، أو من خلال نقل فاعلياته للرأى العام والسلطة على السواء دون التورط أبدا فى تحديد أجندته أو اتخاذ وجهة نظر أو موقف أحد الأطراف المتحاورة.
ثانيا: بالنسبة لأطراف الحوار، فلابد أولا من تحديد الهدف من الحوار بوضوح وهذه نقطة محورية فى نجاح أو حتى مجرد اتمام الحوار، ثم لابد ثانيا من السعى للتوافق على حد أدنى من الأجندة أو المواقف الموحدة أو المتقاربة التى ستمثل موقف أطراف الحوار من السلطة، ثم لابد ثالثا من تحديد ضمانات وشروط لإنجاح هذا الحوار واستكماله، وهى ضمانات على السلطة الالتزام بها لو كانت جادة فى عملية الحوار.
ثالثا: على السلطة أن تتعاطى بجدية مع المتحاورين ومع مطالبهم، ومع افتراض حسن النوايا فلابد أن يكون الهدف: ماذا تريدون حتى يتم إنجاح عملية التحول الديمقراطى واستكمال ملفات الإصلاح والتغيير والخروج من العثرة؟ لا أن يكون الهدف «هاتوا ما لديكم حتى نعرف حجمكم الحقيقى فى الشارع»! وهنا على السلطة الالتزام بالضمانات التى تطلبها الأطراف المتحاورة وأن توفرها وأن تتفاوض لاحقا بشأنها من باب الندية مع باقى أطراف الحوار.
•••
فإذا ما انتقلنا من شروط انجاح الحوار إلى الحديث عن تفاصيل حوار الأحزاب المزمع عقده بإشراف مؤسسة الشروق فيمكننا طرح النقاط التالية التى أتصورها مهمة لإنجاحه:
• لابد من اختيار نموذج الحوار المزمع عقده أولا، وبشكل عام هناك ثلاثة نماذج للحوار، النموذج الأول هو نموذج التوافق والمساندة أى إجراء حوار بهدف التوصل إلى اتفاق تام حول قضايا معينة من خلال الإجماع، وهناك نموذج تبادل الآراء والذى يعنى تحول الحوار إلى شكل «المنتدى» الحوارى، ثم هناك نموذج الحوار بهدف «التفاوض» حول القضايا الخلافية للوصول إلى اتفاق على الحد الأدنى، وفى تقديرى فإن النموذج الملائم للحالة المصرية هو نموذج «التفاوض» حول القضايا الخلافية.
• كذلك لابد من تحديد أهداف هذا الحوار، وفى تقديرى فإن الحوار الذى نحن بصدده يجب أن يهدف بجلاء إلى الخروج من الأوضاع الحالية للدخول فى نموذج إصلاحى يمهد لتحول ديمقراطى حقيقى فى البلاد وينهى حالة الانقسام. فلا يجب أن يقتصر الحوار اذا حول مجرد ضمانات لنزاهة الانتخابات المقبلة «مثلا» أو مجرد الحديث عن فرص التحالفات والتكتلات الانتخابية.. إلخ، ولكنه لابد أن يتسع ليشمل كل القضايا السياسية الخلافية للولوج نحو مرحلة جديدة إصلاحية من عمر البلاد.
• بناء على النقطة السابقة فأطراف الحوار فى الواقع ثلاثة، الأحزاب السياسية، القوى والتيارات السياسية غير الحزبية، والسلطة. ليس بالضرورة من المهم اجراء الحوار بين الأطراف الثلاثة فى نفس الوقت ولكن المهم أن يكون هناك استيعاب من الجميع أنه دون توسيع هدف الحوار وأطرافه فإن النتائج ستكون محدودة.
• فى تقديرى يجب أن يتضمن الحوار ثلاث مراحل، تتمثل المرحلة الأولى فى الحوار بين الأحزاب حول الأهداف وأجندة الضمانات والتغيرات المطلوبة من السلطة، ثم تجرى المرحلة الثانية بتوسيع القاعدة الحوارية لتشمل أطراف سياسية غير حزبية (منظمات مجتمع مدنى، حركات اجتماعية وشبابية.. إلخ) للتوصل إلى أجندة عامة مشتركة تمثل محاور الحوار والتفاوض مع السلطة، ثم تأتى المرحلة الثالثة، وهى مرحلة الحوار مع السلطة لتفعيل أجندة الحوار وتحويلها إلى إجراءات تنفيذية يمكن قياسها، وفى تقديرى لو صدقت النوايا وتم الموضوع باحترافية، فإن المراحل الثلاث للحوار تحتاج من شهرين إلى ثلاثة على أقصى تقدير، أى إنها فى الواقع قد تتم قبل الانتهاء من الانتخابات البرلمانية القادمة.
•••
وفى رأيى، فإنه ولإثبات حسن النوايا، يمكن للسلطة السياسية الممثلة الأن على الأقل فى مؤسسة الرئاسة اتخاذ خمس خطوات هامة على الأجل القصير من أجل انجاح هذا النموذج الحوارى وذلك على النحو التالي:
أولا: حصر قائمة بأسماء المحتجزين والمعتقلين من الشباب والبحث مع الأجهزة القضائية فى ضوء ترتيبات دستور ٢٠١٤ عن صيغة قانونية للإفراج عنهم فورا.
ثانيا: تعديل فورى للقوانين غير الدستورية أو تلك التى تحمل تلك الشبهة، وهو ما يتمثل فى مناقشة جدية مع القوى المعنية حول تعديل قانونى التظاهر واختيار القيادات الجامعية.
ثالثا: التعهد بعدم تشريع المزيد من القوانين التى لا تقتضيها الضرورة وهو ما يعنى تأجيل اتخاذ أى خطوات تجاه الجمعيات الأهلية ومنظمات المجتمع المدنى لحين انتخاب البرلمان ومناقشته وتشريعه لهذا القانون فى إطار حوار موسع مع هذه المنظمات.
رابعا: فتح لجنة تحقيق فورية للتثبت من حالات وتقارير انتهاك حقوق المساجين والمعتقلين فى السجون المصرية وعدم الاكتفاء بتصريحات الجهات الرسمية أو الحقوقية شبه الرسمية فى هذا الإطار.
خامسا: التعهد بنزاهة العملية الانتخابية ووضع معايير لهذه النزاهة لا تقتصر فقط على عدم تزوير الصوت الانتخابى ولكنها تتسع لتشمل معايير النزاهة الأشمل من الرقابة على التمويل إلى تنقيح كشوف الناخبين إلى التصدى لحالات العنف والبلطجة على أى مواطن قبل أو أثناء أو بعد الإدلاء بصوته الانتخابى، وصولا إلى وضع ضمانات قضائية وتنفيذية لحياد أجهزة الإعلام الخاصة والرسمية تجاه المرشحين، مع فتح باب الرقابة والمتابعة الداخلية والخارجية على العملية الانتخابية.
•••
إذا ما استطاعت السلطة الوفاء بالالتزامات الخمس السابقة وكلها فى تقديرى نقاط واقعية وقابلة للتحقق، فإن حوار الأحزاب والتيارات السياسية يمكن أن يركز على خمسة ملفات محددة للتحقق فى الأجل المتوسط (من عام إلى ثلاثة أعوام) على النحو التالى:
• ملف «تأشير الدستور» أى تحويل الدستور إلى مجموعة من المؤشرات والإجراءات التى يمكن قياسها لتحديد مدى التزام السلطات التنفيذية والتشريعية بها بما يمكن من محاسبتهما على أسس دستورية ديمقراطية سليمة.
• ملف «العدالة الانتقالية» حيث يتم تحديد إجراءات تنفيذية تتخذها السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية بالتعاون مع منظمات المجتمع المدنى لتحقيق عدالة انتقالية حقيقية وناجزة لا تستبعد مسائلة ومحاسبة أى مسئول مهما كان وضعه فى المجتمع طالما ثبت تورطه فى انتهاكات حقوق المواطنين فى كل الأحداث التالية لثورة يناير.
• ملف «الدمج» وهو ملف أعمق وأهم من مجرد المصالحة ويتمثل فى مجموعة من الإجراءات التى تضمن دمج كل المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية أو الفكرية لطالما أنهم لم يتورطوا فى أعمال إرهابية أو تخريبية ما دام أنهم ملتزمون بالعمل العام فى رحاب الدولة المصرية الوطنية ملتزمين بالقانون والدستور.
• ملف «العلاقات المدنية العسكرية» وهو ملف يحتاج إلى خبراء وممثلين للمؤسسة العسكرية والشخصيات العامة والأحزاب والقوى السياسية والمدنية للتفاوض حول وضع عقد جديد بين المدنيين والعسكريين يضمن استقلال ووحدة واحترافية المؤسسة العسكرية بالتوازى مع ضمان احتكار القوى السياسية والمدنية لعملية صنع القرار على المستويات المركزية والمحلية مع تشكيل غرف قضائية خاصة مختلطة من قضاة عسكريين ومدنيين لبحث القضايا التى تمثل تهديدا مباشرا للمؤسسة العسكرية وما يقتضيه ذلك من تعديل الدستور.
• ملف «الشباب» وهو ملف تمكين الشباب اجتماعيا وسياسيا بمجموعة من القرارات والقوانين التى يجب أن تكون مكونا أصيلا فى تعاطى السلطة معهم.
إذا ما تمكنت الأطراف المعنية فى مصر الالتزام بهذا الطرح أو على الأقل مناقشة ما جاء فيه بجدية من أجل التعديل أو الإضافة أو الحذف فإن آمال الخروج من المأزق الحالى ترتفع حتى إن بقت أمالا حذرة، أما إذا ما قررت تحويل الحوارات إلى مجرد لقطات تذكارية لالتقاط الصور وتسجيل المواقف، فإننا سنظل ندور فى هذه الحلقة المفرغة دون توقف.