تم استقبال الأستاذ أدهم حافظ فى منزل الرجل المهم وفائى عبدالتواب بترحاب منزوع الدسم أى ينقصه صدق المشاعر ويفتقد إلى العاطفة، حتى الابتسامة التى رسمها الرجل المهم فى الواقع ابتسامة جافة.. ابتسامة آلية مكررة حولت الفم إلى «جهاز مبتسم آلى» يعمل تلقائيا مع كل وجه يراه.. قال لضيفه الغاضب..
ــ إيه أدهم بيه.. الخرفان مزعلاك فى إيه..؟
والحقيقة أن رجل القانون لا يمكن أن يغضب من الخراف لأنه يقدر مدى كفاءة عقولها، هذا بخلاف أن الحيوانات لا تحاسب ولا تلام..
ولكنه غاضب من «البنى آدم» الذى جاء بالخراف إلى عمارة سكنية يسكنها بشر، وها هى رائحة الخراف النفاذة والتى تطغى على ألف رائحة قد تسربت وتسللت إلى جميع شقق العمارة وأيضا العمارات المجاورة، كما أن سيمفونية القهر والإزعاج ماء.. ماء.. ماء.. مازالت مستمرة وبلا توقف وكل هذا بالمخالفة للقانون والعرف والمنطق الإنسانى والحضارى.. الرجل المهم يستمع فى صمت دون أى تعليق ولكن جهاز المبتسم الآلى شغال.. شغال.. وعندما أحس أن رجل القانون أخرج كل ما بداخله قال له.. كل سنة وحضرتك طيب.. ثم سكت مبتسما من جديد..
الضيف غير المرغوب فى وجوده ظن أنها تهنئة بالعيد.. ولكنه أدرك بالخبرة والفطنة أنه يريد إنهاء الحديث فى موضوع الخراف حيث إنها دخلت المنور واستقرت وانتهى الأمر.. قال للرجل المهم..
ــ يعنى إيه كل سنة وأنت طيب دى..؟
عندما يتعطل «جهاز المبتسم الآلى» لدى الرجل فإن فمه يتحول إلى فتحة شكمان خاصة بسيارة ميكروباص أصاب محركها العطب.. يخرج منها الدخان الأسود اللزج المشبع بالسموم قال لضيفه بينما الخراف مستمرة فى عزفها..
ــ أنا عارف إن سعادتك علمانى.. ويمكن تكون مش واخد بالك إن الخرفان دى أضاحى.. ودى مناسبة دينية إسلامية بتحصل مرة واحدة كل سنة.. ودا أمر الله سبحانه وتعالى لنبيه سيدنا إبراهيم عليه السلام.. وبعدين دى شعائر دينية فوق القانون والعرف.. وبعدين دى ليلة يا سعادة المستشار وجايز الخرفان تهمد وتسكت من نفسها.. وبعدين دى لحمة الغلابة حد يكره الخير للغلابة.. استحمل علشان ما حدش يقول عليك إنك ضد العيد الكبير..
هنا أحس رجل القانون العجوز بصدره وهو يكاد يتيبس وأن جميع الشرايين الواصلة إلى القلب والخارجة منه تكاد تتحول إلى أسطوانات زجاجية وهذه الحالة لم تحدث له إلا مرة واحدة فى حياته عندما كان يترافع أمام أحد القضاة وأدرك أنه فاسد.. صرخ فى الرجل المهم وفائى عبدالتواب..
ــ وحد الله.. وحد الله يا راجل.. علمانى إيه وهباب إيه..؟ أنت عارف أنى أعرف فى الدين أكتر منك.. والخرفان بتاعتك وجودها فى المنور ضد الدين بتاعنا اللى تعاليمه بتقول دفع الأذى عن الناس والحفاظ على سلامة الجار.. شوف للخرفان مكان تانى يا باشا..
ونظرا لأن وفائى شاهد وجه رجل القانون وهو يكتسى باللون الأزرق وخشى أن يطب ساكت فى منزله فقال ملاطفا ومخففا..
ــ مكان تانى فين بس يا أستاذ أدهم.. يعنى أحجز للخرفان سويت فى الفور سيزون والا أبيتهم عندى فى الشقة.. أهى ليلة يا أستاذ وتعدى..
قال الأستاذ أدهم..
ــ بيتهم فى السلخانة يا باشا..
وهنا امتعض وفائى عبد التواب وظن عدم ارتياحه لهذا الاقتراح فقال.
ــ صعبه عليه يا أستاذ.. لازم أشهد الدبح بنفسى.. دى واحدة.. الثانية.. إن الأضحية لو اتحط عليها ختم السلخانة.. هلى تبقى أضحية أم لا..؟ وبعدين سيدنا إبراهيم دبح بنفسه وبره السلخانة..
وأمام هذه السفسطة والسفاسف صمت رجل القانون الجهبذ لحظات وحاول أن يكون هادئا قدر إمكانه وسأل وفائى..
ــ قول لى يا وفائى باشا.. مصر دلوقت.. بتدبح برة السلخانة والا جوه السلخانة..؟!
وخرجت الكلمات من فوهة الرجل المفتوحة فى أسفل الرأس..
ــ دا سؤال يسأله راجل محترم زى حضرتك..؟!
قال رجل القانون الذى لا يجد الهواء الذى يتنفسه بعد أن تشبع هواء المنطقة المحيطة كله برائحة الخراف.
ــ أنا جيت لك على مشكلة ملهاش دعوة بالدين.. قلتلى إنك عارف إنى علمانى وشوية شوية هتكفرنى.. مع إنك لو اعترفت بالحق والعدل أنا وأنت هنفضل مسلمين وصالحين كمان.. وبعدين يا وفائى باشا.. سيدنا إبراهيم دبح بره السلخانة لأن فى زمانه ماكنش فيه سلخانة.. وعاوز انبهك لحاجة مهمة.. أنت عارف إن العمارة ساكن فيها القنصل الإيطالى ودا ممكن يعمل مشكلة دبلوماسية لأنه هيئة سياسية..
هناك صاح وفائى فى ابتهاج شديد..
ــ سيب القنصل الإيطالى عليه..؟ الراجل زى العسل معايا وعارف أنا مين وكل ما يشوفنى يقول لى بنجورنو وأقوله بنجورنو.. وإن شاء الله أبعت له فخدة شابكه فيها حتة من اللية..
هنا أدرك الأستاذ أدهم حافظ أنه لا فائدة ترجى.. فكرر سؤاله:
ــ مصر دلوقت بتدبح بره السلخانة.. والا جوه السلخانة ونهض واقفا واستأذن منصرفا ومقهورا ذهب إلى مسكنه وأغلق النوافذ والستائر محاولا دفع الأذى عن نفسه وأيضا قرر الاستسلام ولكنه سأل نفسه لماذا هو فقط الذى رفض هذا الجور..؟ لماذا سكت بقية السكان، هل هو الخوف من نفوذ الرجل..؟ أم أن سلوك أهل مصر قد تبدل وتغير وأن السلبية قد تمكنت من فرض ديكتاتوريتها البشعة على الناس فأصبحوا على هذا الحال من التراخى والانكسار.. وقديما قال أحد الفلاسفة الذين يريدون يفعلون ويبدو أن أهل مصر لا يريدون لأنهم ببساطة لا يفعلون....!!
هتف الضابط هيثم..
ــ يا سلام على الحكمة.. ماحضرتك جيت على نفسك وحبست نفسك.. وما حبتش تعمل مشكلة.. وأكيد الخرفان اتدبحت واتوزعت.. خلاص المشكلة نفسها اتدبحت.. يبقى لزومه إيه المحضر ضد وفائى باشا..؟!
فجأة ضحك «حسين عساكر» بصوت عال فقد كان يسمع ما يجرى ويدور.. صرخ فيه الضابط هيثم خليك فى حالك يا أخينا.. خليك فى حالك بدل ما أدخلك الحجز.. هنا تدخل المحامى الجهبذ قائلا:
ــ تدخله الحجز علشان ضحك..؟
ــ لا يا أفندم.. علشان التهمة اللى قبل كدة..؟ دا عاوز يحكم البلد..
ــ حقه يا ابنى.. يحكم البلد.. هوه يعنى اللى حكموها قبل كدة كانوا أحسن منه..؟! صحيح أنا لسه ما أعرفش هو مين..؟
ولا حتى عاوز يحكمها ليه..؟ لكن أنا بقول لك إنه زى غيره.. هوه محمد على كان إيه؟ مرورا بأولاده وأحفاده الحكام منهم كانوا كلهم أتباعا لغيرهم وصولا إلى الملك فؤاد المقامر المفلس دائما والطفيلى الذى كان يبحث عمن يقدم له وجبة طعام حتى الملك فاروق ما كملش تعليمه وبعد منه ظابط لظابط لظابط لظابط..
ولأن هيثم لا يريد الاستطراد فى هذا الموضوع تحديدا هتف فى الرجل
ــ يا سعادة الباشا.. خلينا فى موضوع الخرفان.. هيه مش اتدبحت..!!
قال المحامى الجهبذ مخاطبا الشاب الطامع فى حكم البلد..
ــ صحيح أنت كنت بتضحك على إيه..؟!
قال حين عساكر بجدية وأدب فقد أعجب أشد الأعجاب بالأستاذ أدهم حافظ وحدث بينهما نوع من أنواع التلاقى الفكرى والروحانى.. قال
ــ الباشا مؤكد دبح.. لكن ساب المخلفات.. الدم مع لمؤاخذة محتويات المعدة والأمعاء و...
وهنا صاح الرجل الوقور والجسور مقاطعا..
ــ والله العظيم ينفع تحكمها...!!
فنهض الضابط هيثم ساخطا ومحتجا.. لا يجوز أن يحدث هذا فى ورديته صاح دون أن يدرى وفى تلقائية وعفوية.. إيه اللى بيحصل دا..؟ هوه الحشيش اللى فى السوق دلوقت اسمه إيه!؟ فرد عليه أحد أمناء الشرطة قائلا اسمه «غزالة» يا باشا..؟ فرمقه بنظرة ساخطة أفرسته.. وقال مخاطبا الأستاذ أدهم
ــ هو يعنى علشان خمن إن مخلفات الخرفان لسه موجودة فى العمارة.. وتخمينه طلع مظبوط.. يبقى ينفع يحكمها..
فى هدوء قال المحامى الجسور
ــ طبعا. أديك ظابط وما عرفتش تخمن زيه.. فرضنا حضرتك وحضرته انتوا الاتنين عاوزين تحكموا البلد اختار مين فيكم..؟
ابتسم حسين عساكر معجبا بنفسه، بينما الضابط هيثم أصابته حالة إحباط وأراد إنهاء هذا الأمر فقال
ــ خلاص.. خلاص.. فى خلال نص ساعة العمارة هترجع زى ما كانت.. برميل مطهر هنمسح بيه العمارة من فوق لتحت.. مش دا اللى حضرتك عاوزه..
هز المحامى الكبير رأسه موافقا فقال له الضابط..
ــ اتفضل مع السلامة.. حضرتك شرفتنا..
قال المحامى الكبير الأستاذ أدهم حافظ بكل ثبات وثقة..
ــ دى قضية هنخلص منها بعد التنفيذ وأشوف النضافة بعينى.. لكن القضية التانية لسه ماحدش قرب منها..
إحساس قوى داهم الضابط هيثم بأن هذا الرجل العجوز سوف ينطق بما لا يحب سماعه فسأله بصوت خفيض أصابه الوهن
ــ هوه فيه قضية تانية يا استاذ..؟!
وكان رد رجل القانون الجهبذ جملة من خمس كلمات.. أنا محامى الجدع الطيب ده.. ونظر إليه قائلا اسمك بالكامل يا ابنى..
وإلى الأسبوع القادم بإذن الله