ألقى الرئيس مبارك بقنبلة فى زيارته كفر الشيخ الأسبوع الماضى، حين قال إن الأمر لم يحسم بعد فى موضوع الضريبة العقارية. فالحقيقة أن الأمر محسوم من الناحية القانونية.. لقد تقدمت الحكومة بقانون الضرائب العقارية، وأقره مجلس الشعب ثم صدق عليه رئيس الجمهورية، وهو بالتالى قانون نافذ. فما هو الأمر الذى لم يحسم بعد إذن؟ يبدو أن الأمر غير المحسوم هو جدية الدولة فى تحصيل الضريبة العقارية من المواطنين وقدرتها على كسر إرادة مقاومة القانون. وهذا أمر ليس بالجديد على المجموعة الحاكمة. كم من الضرائب فرضت ولم يسددها إلا أقلية أو لم يسددوا إلا نسبة يسيرة منها؟
مثال: قانون الضرائب على الدخل القديم (قبل 2005) كان يلزم رجال الأعمال بدفع 40% من أرباحهم. هل نمى إلى علمك عزيزى القارئ أن هناك من كان يدفع هذه النسبة بالفعل؟ مثال آخر: هل تعلم عزيزى القارئ أن حصيلة ضريبة الأرباح التجارية والصناعية اليوم لا تتجاوز 4.9 مليار جنيه أى نحو 4 % من إجمالى الضرائب، وأقل من 0.5 % من الناتج المحلى الإجمالى، علما بأن عدد ممولى هذه الضريبة يبلغ أكثر من خمسة ملايين تاجر وصانع، بعضهم يتمتع بثراء فاحش، وعلما بأن أصحاب الرواتب والأجور يساهمون فى تمويل الدولة بضعف نسبة هؤلاء التجار والصناع؟
ليس هناك من دولة فى العالم لا يعارض الناس فيها دفع الضرائب. من يذهب إلى لندن يمكنه أن يشاهد ظاهرة غريبة جدا وهى الشقق ذات النوافذ المغلقة بالطوب والأسمنت. أصل الحكاية أن طريقة تقدير الضرائب العقارية فى بريطانيا كانت تعتمد فى الماضى على عدد النوافذ الموجودة بالعقار، لذلك سارع الكثير من الملاك بإلغاء العديد من النوافذ، مفضلين العتمة فى المنزل ــ فى بلد لا يرى الشمس أصلا إلا نادرا ــ على دفع الضريبة. مقاومة الدولة ضريبيا سلوك عادى تعانيه كل الدول فى كل البلاد. الاختلاف بين البلاد يكمن فى طريقة مقاومة الضرائب وفى قدرة الدولة على كسر هذه المقاومة.
تجربتنا مع الضريبة العقارية تعيد التذكير بأن قدرة الدولة على فرض الضرائب على الأثرياء والقادرين تظل ضعيفة. كما قلت فى مقالة الأسبوع الماضى، الدولة المصرية تتعرض منذ منتصف الثمانينيات لتراجع حاد فى إيراداتها الريعية من عائدات البترول وقناة السويس والمساعدات الخارجية، وهو الأمر الذى يضعها أمام اختيار وحيد وهو زيادة إيراداتها من الضرائب بما أن باب الاستدانة من خارج مقفول وبما أن الدين المحلى تجاوز الخطوط الحمراء. وقد سعت الدولة إلى ذلك بالفعل من خلال محاولة إصلاح الضرائب التى لم تكن تأتى بحصيلة تذكر مثل الضرائب على الدخل. قانون الضرائب العقارية الجديد هو فى الحقيقة ليس بجديد. ما تحاول الحكومة الآن فعله ليس فرض ضريبة جديدة، وإنما تقديم هدية أو «إكرامية» لأصحاب العقارات وهى تخفيض نسبة الضريبة حتى يلتزموا بدفعها. القانون الجديد قدم فى الحقيقة تخفيضات هائلة بالمقارنة بقانون العوايد القديم (رقم 56 لعام 1954) الذى كان تصاعديا وكانت أعلى نسبة له تبلغ 44 % من القيمة الإيجارية للعقار.
القانون الجديد ليس تصاعديا، كما أن نسبة الضريبة للكل ــ العقارات الثرية والفاحشة الثراء ــ 14 % فقط من القيمة الإيجارية. أى إن الدولة اليوم تطالب الأثرياء والقادرين بدفع ثلث ــ فقط ــ ما كان مستحقا عليهم طبقا للقانون القديم. المثير للانتباه أن أحدا ــ على حد علمى ــ لم يقف فى مجلس الشعب ليطالب ببقاء النسبة القديمة أو بزيادة النسبة التى تقدمت بها الحكومة. ولكن وقفت الأغلبية الساحقة مع تخفيض النسبة. حتى اليسار فى المجلس؛ نائب التجمع عبد العزيز شعبان مثلا قال أن فرض ضرائب على الوحدات غير المشغولة يمثل استنزافا لرأس المال!! (الأهالى 18/6/2008).
وهذا أمر مثير للعجب لأن التقاليد البرلمانية الموجودة فى العالم هى أن ينقسم المجلس النيابى إلى يمين ويسار، وأن يقف اليمين ضد رفع الضرائب على رأس المال وعلى الثروة، بينما يقف اليسار مع زيادتها. بدون ذلك ما كان لدولة الرفاهة فى البلاد الصناعية المتقدمة أن تظهر للوجود. فتاريخ تطور الدولة المنفقة بسخاء على التعليم والصحة وعلى العاطلين والفقراء يمشى بالتوازى مع زيادة ثقل اليسار فى المجالس التشريعية لهذه الدول ومن ثم زيادة الضرائب على أرباح رأس المال كما على الثروة. اليمين دائما ما يعارض زيادة الضرائب على أرباح رأس المال بسبب تأثيرها السلبى ــ المزعوم أو الحقيقى ــ على الاستثمار. لكن عندما يتعلق الأمر بالضريبة على العقارات تسقط هذه الحجة، خصوصا إذا تحدثنا عن الواقع الاقتصادى المصرى حين يصبح تملك العقارات فيه طريقة للإثراء عن طريق «التسقيع» والمضاربة. لا شك أن الضريبة العقارية فى مصر لها ضرورة تنموية لأنها لابد أن تقلل الحافز على تخزين المدخرات فى عقارات عوضا عن استثمارها فى الإنتاج المادى.
فما هى مشكلة مصر إذن؟ ولماذا تظل الدولة متعثرة فى قدرتها على فرض ضريبة هى من أكثر الضرائب تنموية وعدالة؟ الحقيقة أن المشكلة ليست فى الدولة بقدر ما هى مشكلة المجموعة الحاكمة التى تدير هذه الدولة. النظم الحاكمة تستطيع تمرير الزيادات الضريبة على الأثرياء والقادرين بقدر تمتعها بدعم من جماعات فى المجتمع، وهذا الدعم قد يأتى بواسطة نظم تعبوية شرسة قد تصل إلى درجة الفاشية أو نظم ديمقراطية مدعوة من أغلبية شعبها. ومصر ليس بها هذا ولا ذاك. وإذا كان غياب الفاشية هو أمر محمود لمن يعرف حقا ما هى الفاشية وكيف تدمر مجتمعاتها فإن افتقاد الديمقراطية فى مصر يؤكد مرة بعد أخرى أن عزلة المجموعة الحاكمة عن الشعب وافتقادها لقاعدة تأييد صلبة داخل المجتمع يضعان حدودا كثيرة على أى محاولة جادة لإصلاح جهاز الدولة وعلى تنمية إيراداته. أيكفى هنا أن نذكر القارئ الكريم أن السبب الأساسى الذى يقدمه المصريون لرفض الضرائب هو عدم ثقتهم فى كيفية إنفاق عائدات هذه الضرائب. وهذا شىء ليس بعجيب، فجمع الضرائب ليس منبت الصلة عن إنفاقها. من هنا نفهم لماذا بح صوت العديد من السياسيين والمهتمين بالشأن العام بضرورة فرض ضرائب على قصور وفيلات المنتجعات مثل الساحل الشمالى والتى زادت بشكل فظيع فى عهد مبارك، ولماذا عندما جاءت الضريبة غابوا عن تأييدها أو كان تأييدهم خجولا.