تشير تعليقات قطاع واسع من المصريين بشأن أحداث غزة وسياسة مصر تجاهها إلى أزمة ثقة شديدة حيال المواقف الرسمية لحكومتهم، لكنني أظن أن هذه الأزمة ليست وليدة أحداث غزة فقط، وإنما هي تعبيير عن شرخ عميق في الشخصية المصرية بحكم تعرضها لصدمات هائلة في آخر مائة عام وأصبحت نتائجها جزءا أصيلا من الثقافة السياسية للمصريين. ويمكن رصد هذه الصدمات على مستويات أربعة.
أولا وعلى مستوى الهوية، وجد المصريون أنفسهم يتحولون بقرارات سياسية من "ولاية إسلامية" تتبع الخلافة العثمانية إلى زعامة الأمة العربية تقاتل باسمها ضد الصهيونية والامبريالية في أعقاب ثورة يوليو. وتأتي هزيمة 1967 لتفقد الثورة الكثير من شرعيتها، ثم يرفع انتصار 1973 الروح المعنوية للمصريين لكنهم يجدون أنفسهم، استفاء لمتطلبات السلام مع إسرائيل، مطالبين بأن يضحوا بكل ما عاشوا من أجله في السنوات الثلاثين السابقة من أجل استعادة الأرض؛ فبدلا من التفكير والتصرف كمسلمين أو كعرب كان عليهم أن يعيدوا "برمجة" أولوياتهم باعتبارهم "مصريين أولا" وأحيانا "مصريين وكفى". ومع كل صدمة من هذه الصدمات، يفقد المصري جزءا من قدرته على تحديد هويته ومن ثم قضاياه الأولى بالتقديم.
وعلى مستوى بنية النظام السياسي الداخلي، ثانيا، فقد شهدت مصر تحولات هائلة من الملكية مع التعددية الحزبية على عيوبها ومجتمع مدني نشط نسبيا إلى نظام ثوري يلغي الأحزاب ويؤمم الصحف ويجمد المجتمع المدني ويطلق لفظة "البائد" على كل ما كان سابقا عليه، وقبل أن تستقر الأوضاع يرحل الرئيس عبد الناصر ويأتي الرئيس السادات ليسير على خط الرئيس عبد الناصر "بأستيكة" كما قيل.
لنجد أنفسنا نعود إلى حالة من التعددية الحزبية الشكلية والتي استمرت حتى عهد الرئيس مبارك الذي تبنى مزيدا من الانفتاح الإعلامي مع ضبابية في حدود الحرية وقيودها، والسماح بمجتمع مدني أكثر حرية ولكن أقل فعالية مما كان عليه قبل الثورة.
وفي علاقة النظام السياسي بأقدم جماعة معارضة في تاريخنا، أقصد جماعة الإخوان، تتوالى الصدمات بين النشأة والتفاوض ثم الإلغاء والحل في مرحلة ما قبل الثورة، ثم دعم الثورة والتحالف معها، ثم القبض على رموزها وإعدامهم في عهد الرئيس عبد الناصر، ثم إخراجهم من السجن والسماح لهم بالازدهار في بدايات عهد الرئيس السادات ثم الاعتقال في آخر عهده، ثم توسيع هامش الحركة لهم في عهد الرئيس مبارك مع تضييق هذا الهامش بعد فوزهم في الانتخابات التي سمح لهم النظام بالتنافس فيها.
وكذا عند الحديث عن المشاركة السياسية، يدعو رئيس الدولة المواطنين للتصويت في الانتخابات، وحين يستجيب بعضهم يجدون أنفسهم أمام العصا الغليظة للأمن المركزي، فينكأ جرحَ الثقة القديم، جرحٌ جديد.
ثالثا على مستوى بنية النظام الاقتصادي: في أقل من عقدين تحولت مصر من نظام السوق ببورصة نشطة وعملة قوية ومنطق التنافس والتسويق وتفاوت حاد في الدخول والثروات في ظل اقتصاد منفتح على العالم الخارجي في العهد الملكي إلى دولة إشتراكية تعيش على إغلاق الحدود الاقتصادية وتبني منطق الاعتماد على الذات وتأميم الشركات والبنوك الأجنبية ثم الوطنية، وهكذا، فمن قواعد السوق إلى التدخلات الإدارية وجد المصريون أنفسهم مطالبين بالتعايش مع واقع جديد تعاملوا معه بمنطق "لعله خير."
وبعد سنوات ليست بالطويلة، ونتيجة عجز موارد الدولة عن الوفاء بما عليها من التزامات داخلية وخارجية عسكرية ومدنية، قرر الرئيس السادات أن يعود بعجلة الزمن إلى الوراء فتتبنى مصر الانفتاح الاستهلاكي ليزيد من عجز الموازنة ويحدث خللا رهيبا بالبنية الطبقية في المجتمع في وقت لم يكن المصريون قد استوعبوا بعد ضربات التأميم في مطلع الستينيات، ثم تأتي روشتة البنك الدولي وصندوق النقد مع بدايات حكم الرئيس مبارك الذي أعلن انحيازه لمحدودي الدخل مع يقينه بأنهم هم الذين يدفعون ثمن كل السياسات التي تبنتها الدولة منذ حكم مصر، فتشرع الدولة في بيع الكثير مما قامت بتأميمه من قبل.
والأخطر أن هذه المعاناة الاقتصادية أدت إلى نتائج ثقافية وقيمية شديدة جعلت ما كان حراما وعيبا ومرفوضا (لأنه يدخل في باب الفساد والرشوة) ليس حراما أو عيبا أو مرفوضا، فيزيد الشرخ في الشخصية المصرية اتساعا.
رابعا وعلى مستوى السياسة الخارجية والدور الإقليمي، حدثت تحولات عميقة في الدور المصري من عدو لإسرائيل لصديق يهنئها بحرب استقلالها ودعمها اقتصاديا بتصدير الغاز الذي يمثل ثروة قومية مصرية للشعب الإسرائيلي "الشقيق"، ومن قيادة المنطقة العربية ضد "العدو الصهيوني" إلى محاولة لعب دور "محايد" و"وسيط نزيه" في نفس القضية التي ناضلت مصر باسمها ومن أجلها عقودا، ومن عدو للولايات المتحدة التي توعدناها بشرب مياه البحرين الأبيض والأحمر على عهد الرئيس عبد الناصر لحليفها الاستراتيجي الأكبر لدرجة أن خطوط العداء والصداقة المصرية في منطقتنا تنطبق تمام الانطباق مع حدود العداء والصداقة الأمريكية. هذه كلها تغيرات أشبه بصدمات لم يستوعبها العقل الجمعي للمواطن المصري بما أفقده بوصلة تحديد مساحات الصواب والخطأ وحدود الفعل والتقاعس.
ولم يزل المصريون، تجاه أحداث غزة وغيرها، في حالة بحث عن خريطة وبوصلة، بل أقول قيادة، تساعدهم في الإجابة على سؤال: ماذا يفعلون؟ وحتى تأتي الإجابة المقنعة لهم فسيظلون قليلي الهمة، كثيري الشكوى، عديمي الهدف، سكارى بلا خمر، غضبى بسبب، أو حتى بدون سبب. فلا ينبغي أن نظلم المصريين فهم ضحايا نخبهم أكثر منهم جناة في حق أنفسهم.