من الواضح أن دول الشرق الأوسط، وبينها إسرائيل، تهمها المحافظة على الوقوف على الحياد بقدر الإمكان والامتناع من الحاجة إلى اتخاذ موقف من النزاع فى أوروبا الشرقية واختيار طرف. فمن جهة، على الرغم من الإدراك أن الولايات المتحدة تقلص تدخُّلها فى الشرق الأوسط، فإن عدة دول فى المنطقة لا تزال ترى فى العلاقات الجيدة مع الإدارة الأمريكية مدماكا مركزيا فى عقيدتها الأمنية. لكن من جهة أُخرى، هى مهتمة أيضا بالحفاظ على شبكة العلاقات مع روسيا، والتى تعمقت فى الأعوام الأخيرة وتشمل اليوم علاقات عسكرية واسعة النطاق، والدفع قدما بصفقات لشراء سلاح روسى. هذا بالإضافة إلى التدخل العميق لروسيا فى الحرب فى سوريا.
من السابق لأوانه أن نقدّر بصورة كاملة التداعيات العالمية للأزمة فى أوروبا، ومن الواضح أنه سيكون للتطورات العسكرية والسياسية والتسويات، التى سيجرى وضعها، تأثير أيضا فى المخاطر والفرص التى ستواجهها دول الشرق الأوسط. صحيح أنه ليس باستطاعة هذه الدول منع التدهور العسكرى، لكن يتوجب عليها بلورة سياسات والعمل بسرعة، فى ضوئها، من أجل تقليص مخاطر محتملة.
أيضا إسرائيل، مثلها مثل الدول الأُخرى فى المنطقة، تحرص حتى الآن على السير بين النقاط والامتناع من التعبير عن موقف إزاء التطورات. لقد اضطرت إسرائيل إلى دعوة مواطنيها ومواطناتها إلى مغادرة أوكرانيا كى لا تحتجزهم الحرب وتعرّضت لإدانة من سلطات كييف. بالنسبة إلى إسرائيل، التداعيات الأساسية للأزمة تتركز على ثلاثة مستويات: على المستوى العالمى، وعلى مستوى الساحة الإقليمية، وعلى جارتها الأقرب ــ الساحة الشمالية.
فى مواجهة الساحة العالمية
كلما طالت الحرب وتعقدت، من المتوقع أن يطلب الرئيس بايدن والإدارة الأمريكية، المهتمة بترسيخ وتأكيد المكانة الرائدة للولايات المتحدة فى النظام الدولى، اختيار طرف بصورة علنية والدعم الصارم للخطوات الأمريكية، والمشاركة فى الضغوط التى ستُمارَس على روسيا، والانصياع لمجمل العقوبات المفروضة عليها. فى مثل هذه الظروف، من الصعب جدا أن تكون الإدارة الأمريكية مستعدة للإصغاء، وأن تتفهم محاولات إسرائيل التوضيح والادعاء أن المصالح الإسرائيلية تفرض عليها المحافظة على قنوات مفتوحة مع موسكو. ومن المعقول أنه إزاء تحفُّظ دول الشرق الأوسط عن إظهار تعاطفها الكامل مع موقف الولايات المتحدة وخطواتها، أن تقوم الإدارة الأمريكية، لاحقا، بتصفية حسابها مع الدول التى ستحاول الوقوف موقف المتفرج.
إن الأزمة فى أوروبا الشرقية يمكن، تحديدا، أن تؤكد للولايات المتحدة أهمية المنطقة كمزود بالطاقة بدلا من روسيا. ويبدو أن الإدارة الأمريكية تتوقع رؤية خطوات فى هذا الاتجاه. ولقد برز سعيها لإيجاد بديل فى مسألة الطاقة حيال قطر التى اعتُبرت، خلال الزيارة التى قام بها الشيخ تميم بن حمد بن خليفة آل ثانى إلى واشنطن مؤخرا، «حليفة مهمة غير عضو فى حلف الناتو». وتوجهت الإدارة بطلب مشابه إلى السعودية، استُقبل حتى الآن ببرود، لكن من المعقول، لاحقا، أن تلبّى السعودية الطلبات الموجهة إليها، والمتعلقة بسوق الطاقة، من أجل تحسين علاقاتها مع الإدارة الأمريكية. أحد بدائل تزوُّد أوروبا بالغاز الروسى هو حقول الغاز فى البحر الأبيض المتوسط، المشتركة بين مصر وقبرص وإسرائيل. سيكون من الصعب على مصر وعلى إسرائيل رفض طلب الولايات المتحدة تزويد أوروبا بالغاز والمساعدة بوقف التزود بالغاز الروسى عبر خطى نورد ستريم.
فى الساحة الإقليمية
الأزمة فى أوروبا الشرقية، يمكن أن تؤثر مباشرة فى استقرار جزء من دول الشرق الأوسط، فى الأساس بسبب اعتماد هذه الدول إلى حد كبير على التزود بالمحاصيل الزراعية عموما، وبالقمح خصوصا، من أوكرانيا وروسيا. على سبيل المثال، مصر هى إحدى أكبر الدول المستوردة للقمح فى العالم، وهى تشترى معظم محاصيلها من روسيا وأوكرانيا.. بالإضافة إلى هذا الجانب الاقتصادى، يجب أن نضيف الارتفاع فى تكاليف الطاقة والنقل والمواصلات، ويجب أن نأخذ فى الحسبان أن هذه المشكلات، بالإضافة إلى التحديات التى تواجهها دول كثيرة فى المنطقة؛ الناجمة عن الزيادة الديموغرافية وحجم البطالة العالى، فى الأساس وسط جيل الشباب، وتأثيرات التغيرات المناخية، كل ذلك سيجعل من الصعب جدا على هذه الدول الحئول دون تدهور الوضع. فى مثل هذا الواقع، ستزداد احتمالات أن تواجه أنظمة المنطقة صعودا فى الاحتجاج الشعبى من جديد، وستعجز عن تلبية المطالب الشعبية. والدول التى من المحتمل أن يتزعزع استقرارها، كنتيجة غير مباشرة للأزمة بين روسيا ودول الناتو، هى الدول الأضعف فى المنطقة: سورية ولبنان وليبيا والعراق. فى ظل هذه الظروف لأزمة عالمية حادة، تزداد المخاوف أيضا على استقرار الأردن ومصر. وغنى عن الذكر أن عدم الاستقرار فى الدول المجاورة سيزيد فى التحديات الأمنية التى تواجهها إسرائيل. ومن المعقول أن إسرائيل نفسها يمكن أن تواجه ارتفاعا فى أسعار الطاقة وتأثيراتها فى غلاء المعيشة. ثمة تحدٍّ آخر بالنسبة إلى إسرائيل يعود إلى تركيز الولايات المتحدة على أوروبا، وهو ما سيسرّع توجّه الابتعاد الأمريكى عن الشرق الأوسط والحد من دعم الولايات المتحدة العسكرى لحلفائها فى المنطقة.
إسرائيل فى مواجهة الجبهة الشمالية
يبدو أن احتمالات أن تستغل روسيا ساحة عملها فى سوريا كى تثبت للولايات المتحدة أنها تملك أدوات لجعل جبهات إضافية قابلة للانفجار، إلى جانب أوروبا الشرقية، تتحقق عمليا ونظريا. فى الفترة الأخيرة، تضع روسيا العراقيل فى طريق المعركة التى تخوضها إسرائيل ضد التمركز الإيرانى فى سوريا، وضد جهود طهران فى نقل السلاح إلى حزب الله فى لبنان، عبر الأراضى السورية. فخلال يناير الماضى، أعلنت وزارة الدفاع الروسية أن طائرات روسية وسورية تقوم بدوريات مشتركة فى أجواء هضبة الجولان، وأن موسكو ودمشق تنويان الاستمرار فى ذلك. كانت هذه رسالة واضحة إلى إسرائيل، مفادها أن روسيا تقدر، إذا شاءت، إزعاج إسرائيل فى صراعها ضد المحور الإيرانى كما تجلى ذلك فى الأراضى السورية. كما يجب أن نرى فى ذلك خطوة هدفها أن توضح لإسرائيل أن وقوفها إلى جانب طرف فى الأزمة بين روسيا والناتو ينطوى على خطر عليها، وهى رسالة إلى واشنطن بأن موسكو تملك أدوات ضغط أُخرى.
بناءً على ذلك، الرد الأمريكى على هجوم روسى على أوكرانيا، والذى يمكن أن يتجلى بفرض العزلة على روسيا وتعميق العقوبات المفروضة عليها، من المتوقع أن يكون له تداعيات سلبية على إسرائيل. فى إطار الرد الروسى ضد حلفاء الولايات المتحدة، من المحتمل أن تقطع موسكو التنسيق العملانى الروسى ــ الإسرائيلى، وأن تحاول التصدى للهجمات الإسرائيلية فى سوريا بواسطة منظومة الدفاع الجوى وطائرات اعتراض روسية. فى الوقت عينه، من المحتمل أن تمتنع روسيا عن كبح إيران، وربما تشجعها على استخدام أذرعتها، ليس فقط ضد القوات الأمريكية، بل أيضا ضد إسرائيل.
توصيات مركزية لإسرائيل
يدل اختيار دول الشرق الأوسط الحياد، وبينها إسرائيل، على التغيير الذى طرأ على مكانة الولايات المتحدة فى المنطقة، وعلى موازين القوى الإقليمية. مع ذلك، فإن العلاقات الخاصة مع الولايات المتحدة التى تشكل درعا سياسيا ــ دبلوماسيا حيويا لإسرائيل، والالتزامات الأمريكية العلنية بأمنها، لا يتركان خيارا أمام إسرائيل ــ أيضا لو فضلت الوقوف موقف المتفرج – سوى أن تدعم موقف واشنطن بصورة كاملة ومن دون تردد. إذا امتنعت إسرائيل من الوقوف فى معسكر الولايات المتحدة وأوروبا، فإن التوترات مع الإدارة الأمريكية ستزداد، وستنزلق أيضا إلى المطالبة الأمريكية بتقليص شبكة العلاقات مع الصين. ناهيك بأن إسرائيل لا تقدر على رفض طلب واشنطن تطوير بديل من روسيا لتزويد أوروبا بالغاز.
المطلوب بلورة رد على مجموعة التداعيات على إسرائيل فى حال تطورت نسخة جديدة من «الحرب الباردة» بين الولايات المتحدة وروسيا. فى هذا الإطار، من المهم الحرص على التشاور الدائم مع واشنطن، وأن ننقل منذ الآن رسالة واضحة وملزمة وسرية بأن إسرائيل، عند الحاجة، ستقف علنا إلى جانب الطرف الذى تقوده الولايات المتحدة، حتى على حساب علاقاتها مع روسيا.
المفاوضات الدائرة فى فيينا بشأن العودة إلى الاتفاق النووى تتقدم، وثمة معقولية كبيرة أن يجرى توقيع الاتفاق فى الأيام المقبلة. ننصح إسرائيل بالامتناع، بقدر الممكن، من الدخول فى مواجهة مع الإدارة الأمريكية، حتى لو أُبرم اتفاق جديد مع إيران فى المرحلة المقبلة.
فى هذه المرحلة، يجب المحافظة على قنوات الحوار مع موسكو ــ فى ضوء الحاجة الحيوية والدائمة إلى منع حدوث احتكاك عسكرى فى الجبهة الشمالية، كما يجب الاستعداد لسيناريو قطع التنسيق العملانى بين إسرائيل وروسيا، وأن يجد الجيش الإسرائيلى نفسه فى مواجهة تحديات متزايدة فى الساحة الشمالية.
حاليا، يجب الامتناع عن بيع السلاح لأوكرانيا ودول تحيط بروسيا، فى الأساس السلاح المضاد للدبابات، ومواصلة الامتناع عن تزويد الجيش الأوكرانى ببطاريات القبة الحديدية.
على إسرائيل توسيع نطاق مساعيها لترسيخ علاقاتها مع دول المنطقة، وأن تنقل إليها رسائل إيجابية، استعدادا لاحتمال نشوب اضطرابات داخلية فيها، بهدف الحئول دون انسحابها من عملية التطبيع. وهذه ستكون رسالة أيضا إلى الولايات المتحدة بأن إسرائيل لا تقف فقط مع الجانب الصحيح، بل تعمل على ترسيخ جبهة إقليمية تؤيد سياستها.
يجب الاستجابة إلى المحاولات التى تبذلها تركيا للتقرب مجددا. فتركيا دولة مهمة فى الناتو وتحسين العلاقات معها سيعزز موقع إسرائيل الاستراتيجى وأرصدتها فى المنطقة.
ألداد شافيط وأودى ديكل وعينات كورتس
باحثون فى معهد دراسات الأمن القومى