الورطة مع الدولار - حازم الببلاوي - بوابة الشروق
الخميس 10 أبريل 2025 1:58 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

الورطة مع الدولار

نشر فى : الجمعة 24 أبريل 2009 - 6:08 م | آخر تحديث : الجمعة 24 أبريل 2009 - 6:08 م

 
تعالت الأصوات للمطالبة بتعديل النظام النقدى الدولى، والاستغناء إن أمكن عن الدولار كعملة الاحتياط الرئيسى فى المعاملات الدولية. فهل الدولار فى ورطة؟ أم أننا جميعا مع الدولار فى ورطة؟

المتتبع لتطور دور الدولار خلال الخمسين أو الستين سنة الأخيرة يكتشف أننا إزاء قصة مثيرة يصعب فيها تحديد الجانى من الضحية، كما أن بها من الغواية بقدر ما فيها من الاستغلال.

وقد حاولت أن أسطر مقالا حول الموضوع لمعرفة أين نحن الآن مما حدث، ووجدت أن الأمر قد يحتاج إلى كتاب وليس إلى مقال. وكلما شرعت فى سرد هذه القصة وجدت أننى أكتب صفحات وصفحات دون أن تكتمل الرواية.

ونظرا لتجربتى الطويلة مع الصحافة فإننى أعرف أن هناك حدودا للمساحة المتاحة للنشر. لذلك فقد قررت أن أعرض القصة فى شكل نقاط دون تفصيل، وربما أعود فى مقال لاحق لاستخلاص بعض الدروس. وفيما يلى أهم عناصر هذه الرواية:

تحتاج المعاملات الاقتصادية الدولية شأنها شأن العلاقات الاقتصادية الداخلية إلى وجود شكل من أشكال النقود لتسهيل المعاملات وزيادة كفاءتها. وقد عرف العالم منذ فترات طويلة أشكالا مقبولة من النقود وخاصة من الذهب والفضة.

بدأ الدولار يلعب دورا متزايدا فى العلاقات الدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وكان الإسترلينى خلال القرن السابق على الحربين الأولى والثانية هو العملة الأكثر رواجا فى التعامل الدولى، كما سيطرت انجلترا بشكل كبير على التجارة العالمية.

وكان الإسترلينى قابلا للتحويل إلى ذهب، كما كانت معظم العملات ترتبط بشكل أو آخر بالذهب. ولذلك فقد قيل إن العالم كان يسير على «قاعدة الذهب».

اضطرت انجلترا للتخلى عن قاعدة الذهب عند قيام الحرب العالمية الأولى ثم عادت إليها لفترة قصيرة بعد انتهاء تلك الحرب، قبل التخلى عنها نهائيا مع الأزمة العالمية فى الثلاثينيات. ومع ذلك ظل الإسترلينى وانجلترا وسوق لندن مراكز للعلاقات التجارية الدولية.

مع نهاية الحرب العالمية الثانية خرجت معظم الدول الصناعية محطمة اقتصاديا نتيجة التدمير والخراب المترتب على الحرب، وتحمل الكثير منها بالديون وفقدان العديد من استثماراتها فى الخارج.

على عكس دول العالم الأخرى عرفت الولايات المتحدة الأمريكية عند نهاية الحرب العالمية الثانية أزهى عصورها الاقتصادية. فأراضيها لم تصب بطلقة واحدة، فضلا عن أن اقتصاد الحرب قد ساعد على زيادة طاقتها الإنتاجية. كذلك أصبحت الولايات المتحدة دائنة لمعظم دول العالم المشاركة فى الحرب.

كانت الولايات المتحدة عند نهاية الحرب هى الدولة الوحيدة التى تأخذ بقاعدة الذهب، فالدولار كان قابلا للتحويل إلى ذهب، لغير المواطنين خارج الولايات المتحدة الأمريكية.

بلغ الناتج الإجمالى الأمريكى عند نهاية الحرب أقل قليلا من نصف الإنتاج العالمى، وكانت الولايات المتحدة تتمتع فى ذلك الوقت بفائض كبير فى ميزانها التجارى مع العالم، فهى تصدر للخارج بأكثر مما تستورد.

مع نهاية الحرب والحاجة إلى إعادة تعمير أوروبا واليابان، كان هناك طلب على المنتجات الأمريكية من كل الأنواع ومن معظم الدول: طلب على المواد الأولية، وعلى سلع الاستهلاك وعلى الآلات والأدوات. وبذلك عرف العالم طلبا غير محدود على السلع الأمريكية وبالتالى على الدولار، مما أدى إلى ظهور ما عرف فى الخمسينيات «بأزمة نقص الدولار» Dollar Shortage.

نتيجة لذلك تمتع الدولار بنوع من القبول العام فى معظم الدول، ليس فقط بالنسبة للدول المحتاجة للاستيراد من الولايات المتحدة، بل أيضا من غيرها، لأن الجميع يدرك أن الحصول على الدولار يمكن من الاستيراد من أى مكان فى العالم. وبذلك تحقق للدولار الشرط الأول لمفهوم النقود. فالنقود هى ما يتمتع بالقبول العام فى المعاملات.

لا يكفى أن تتمتع العملة «بالقبول العام» حتى تقوم بدور النقود الدولية، بل لابد وأن تكون هذه العملة «متاحة» أيضا للمتعاملين حتى يمكن التعامل بها.

لا تستطيع الدول الأخرى الحصول على الدولارات مجانا لاستخدامها كنقود دولية، وإنما عليها أن تكتسبها بمقابل يقدم لحائزها. ونظرا لأن معظم الدول كانت تعانى من عجز فى موازينها التجارية مع أمريكا، فقد كانت غير قادرة على اكتساب الدولارات عن طريق التجارة مع الولايات المتحدة وهى الدولة المصدرة للدولار.


جاء الحل عن طريق فتح أسواق معظم دول العالم أمام الاستثمار الأمريكى. فهنا تصدر الولايات المتحدة إلى الخارج رءوس أموال لإقامة استثمارات فى الدول الأجنبية، سواء بالاستثمار فى مصادر المواد الأولية أو إقامة بعض الصناعات الاستخراجية أو إقامة قواعد عسكرية نتيجة للحرب الباردة.

وقد فاقت أعباء هذا الإنفاق الاستثمارى والعسكرى الأمريكى فى الخارج حجم الفائض الذى كانت تحققه أمريكا فى ميزانها التجارى. وبذلك بدأت تخرج كميات كبيرة من الدولارات الأمريكية للدول الأخرى (من خلال ميزان العمليات الرأسمالية) مما ساعد على استخدامها للأغراض النقدية.

قامت الحرب الكورية فى عام 1950 ولم يكن قد مضى على انتهاء الحرب العالمية أكثر من خمس سنوات، فحرصت الولايات المتحدة على تكوين مخزون استراتيجى من معظم المواد الأولية، خوفا من أن تتطور هذه الحرب إلى حرب عالمية جديدة. وأدى ذلك إلى زيادة كبيرة فى الواردات الأمريكية فى ذلك الوقت من العالم الخارجى، وبالتالى توفير الدولارات لمزيد من الدول الأجنبية.

تم الاتفاق قبل نهاية الحرب العالمية الثانية على وضع نظام نقدى ومالى دولى يوفر الاستقرار النقدى والمالى فى اتفاقية بريتون وودز عام 1944. وقد اتفق على أن تأخذ الدول بنظام أسعار الصرف الثابت، بأن تربط عملاتها بوزن من الذهب. ونظرا لأن الولايات المتحدة الأمريكية كانت تسير على قاعدة الذهب. فقد ربطت معظم الدول عملاتها بالدولار. وكان يطلق عليه حينذاك «الدولار الذهبى» لأنه كان قابلا للتحويل إلى ذهب. وبذلك تقنن على المستوى الدولى أن الدولار هو أساس النظام النقدى.

ازداد تورط الولايات المتحدة الأمريكية فى الحرب الفيتنامية فى الستينيات، وازداد الإنفاق العسكرى وبالتالى التضخم مما هدد أسعار الصرف للدولار، فعمد الرئيس الأمريكى إلى تقييد تحويل الدولار إلى ذهب فى عام 1968 ثم منع تحويل الدولار كليا إلى ذهب فى عام 1971.

وبذلك لم يعد الدولار قابلا للتحويل إلى ذهب، وأصبح نظام النقد العالمى يقوم على أساس الدولار الورقى (غير قابل للتحويل).

فى منتصف الستينيات تنبه الرئيس الفرنسى ديجول إلى أن اعتماد العالم على الدولار كنقود دولية يعطى الولايات المتحدة الأمريكية ميزة هائلة فى إمكان الحصول على ما تريد من موارد العالم مقابل دولارات لا تستخدم للحصول على سلع أمريكية، وهى بذلك تحصل على موارد العالم الاقتصادية مقابل أوراق.

وهو ما يعرف بحقوق الإقطاعى Seigneurage Rights. ولذلك طالب ديجول بالعودة إلى «قاعدة الذهب»، وقام بتحويل جزء كبير من أرصدة فرنسا الدولارية إلى ذهب، ولكنه لم يبق بعدها طويلا فى السلطة حيث اضطر بعدها إلى الاستقالة.

مع استعادة أوروبا واليابان لقدراتها الاقتصادية تدريجيا وازدياد تورط أمريكا فى الإنفاق العسكرى، بدأ الميزان التجارى الأمريكى فى الضعف وبدأت تظهر بوادر العجز فى هذا الميزان التجارى منذ بداية السبعينيات. وازداد الوضع تأزما مع فورة النفط الأولى فى عام 1973، وبذلك عرف الميزان التجارى الأمريكى عجزا استمر قائما ومتزايدا من وقتها وحتى الآن.

بدأت فى السبعينيات موجة من التصنيع فى دول جنوب شرق آسيا، ووجدت هذه الدول فى السوق الأمريكية متسعا لتصريف منتجاتها دون أية قيود على الواردات فى أمريكا.

وفى نفس الوقت تقريبا ظهرت «الفوائض النفطية» مما ضاعف من عجز الميزان التجارى الأمريكى. ولم تكترث الولايات المتحدة كثيرا بزيادة هذه العجوزات نظرا لأن للفوائض التى تحققها صادرات هذه الدول ما تلبث أن يعاد استثمارها فى الأسواق المالية الأمريكية. فمعظم هذه الفوائض كانت تعود للتوظيف فى الأسواق المالية الأمريكية.

بدأت الصين فى التوسع فى الإنتاج الصناعى منذ منتصف الثمانينيات مع زيادة التصدير للسوق الأمريكية، كما بدأت الاستثمارات الأمريكية تتجه إلى الصين للإفادة من رخص اليد العاملة. وكان معظم ما تحققه الصين من فوائض نتيجة للتصدير لأمريكا أو لغيرها من الدول يعاد توظيفه فى الولايات المتحدة الأمريكية.

لم تجد الولايات المتحدة ضرورة لمعالجة العجز المتزايد فى الميزان التجارى بعد السبعينيات، نظرا إلى النمو الموازى فى الطلب العالمى على الدولار للاستخدام فى الأغراض النقدية، مما حال دون انعكاس هذا العجز على زيادة التضخم أو نقص الاستثمار المحلى فى أمريكا.
بدأت طبيعة الاقتصاد الأمريكى تتغير للتعايش مع عجز هائل فى الميزان التجارى، وبالتالى مع تآكل المدخرات المحلية. ولم تبال الولايات المتحدة بهذا الوضع الجديد، لأن ما ينقص من مدخرات محلية كان يعوض بالاستثمارات المالية من دول الفائض والتى تعود للتوظيف من جديد فى الأسواق المالية الأمريكية. وهكذا حقق المواطن الأمريكى زيادة كبيرة فى الاستهلاك دون تضحية بالاستثمار القومى.

نتيجة للتوسع المذهل فى الأصول المالية بالدولار نتيجة لاستخدام الدولار كعملة احتياط دولية وخاصة نتيجة للتراكم الكبير فى العجز فى الموازين التجارية لأمريكا، توسع إصدار الأصول المالية فى الأسواق المالية العالمية على ما هو معروف.

فى إطار هذا التطور الطويل لم يقتصر الدولار على أن يصبح عملة احتياط دولية، وإنما أصبح كذلك عملة الاستثمارات والتوظيف المالى الدولى. وأصبحت السوق المالية الأمريكية أكبر الأسواق جذبا للمدخرات الخارجية.

باختصار أهم عناصر قصة الدولار، وهى قصة عملة تطورت من عملة وطنية إلى عملة دولية ثم إلى شكل من أشكال الثروة المالية العالمية. وقد بدأ الدولار رحلته مع العالم باعتباره عملة قوية، شدت انتباه العالم، فاستغلت الولايات المتحدة هذه الرغبة المشبوبة من جانب دول العالم للحصول على الدولار.

واستخدمتها لتمويل إنفاقها العسكرى واستثماراتها الأجنبية، ثم تزايدت الغواية فتخلت أمريكا عن تقاليدها القديمة فى الادخار المحلى مفضلة الاعتماد على مدخرات الآخرين منذ بداية السبعينيات.

وتحولت أمريكا من دولة فائض تجارى ومصدرة لرءوس الأموال، إلى دولة عجز تجارى ومستوردة لرءوس الأموال. واستمرأ العالم العيش فى أجواء الاختلال بين «دول فائض» و«دول عجز»، وأصبح الاختلال فى موازين المدفوعات أمرا مقبولا فى وقت تمول فيه أكبر دول العجز (أمريكا) نقص مدخراتها المحلية باستثمارات الآخرين.

وفى كل هذا تداعت الأحداث تحت ضغط الظروف، ومع تفاوت موازين القوى تنوعت حسابات الكسب والخسارة بين مختلف اللاعبين، وانتهى المشهد بأزمة مالية عالمية تمسك بتلابيب الاقتصاد العالمى وورطة مع الدولار. ولكن الدولار لم يصل إلى مكانته بين يوم وليلة وإنما نتيجة تطور طويل، وبالمثل فلن يكون رحيله وظهور بديل أمر سريع. والله أعلم.

حازم الببلاوي  مستشار صندوق النقد العربي في أبوظبي ، ووكيل الأمين العام للأمم المتحدة الأسبق ، حاصل على ليسانس الحقوق من جامعة القاهرة مع مرتبة الشرف ، كما حصل على العديد من الجوائز والأوسمة من حكومات وهيئات عالمية ومحلية مختلفة ، وهو صاحب العديد من المؤلفات باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية في مجالات التنمية والتعاون الاقتصادي ، بالإضافة إلى عدد كبيرمن الأوراق المُقدمة إلى مؤتمرات إقليمية ودولية.
التعليقات