ليس مقياس العنف ما يجرى فى الخارج.. إنما مقياس العنف هو ما يجرى فى الداخل
وبهذا المعنى فإنه يكاد يكون من المستحيل القول من متحدث رسمى أو صحفى فى أى بلد بأن بلدا آخر يحكمه العنف. لا يستطيع متحدث داخلى فى بلد مثل أوكرانيا ــــ وهذا مجرد مثال لا أكثر – أن يقول إن أمريكا هى أكثر البلدان عنفا بمقاييس العنف الداخلى. كما لا يستطيع متحدث داخلى فى بلد مثل الولايات المتحدة ان يقول ان اوكرانيا هى أكثر البلدان عنفا. وينطبق هذا بوجه خاص على بلدان المنطقة العربية، لكنه ينطبق أكثر على بلد واسع وكبير من حيث جغرافيته ومن حيث عدد سكانه، مثل أمريكا.
فماذا يكون الحال حين يقول ناطق صحفى أو رسمى أمريكى عن بلد آخر غير أمريكا انه بلد يحكمه العنف او ان العنف يسيطر عليه؟
فى هذه الحالة ينطبق على أمريكا ما ينطبق على غيرها. أنها لا تستطيع ان تحكم على بلد آخر بأن العنف يحكمه. وقد سمحت أمريكا لنفسها لفترة طويلة استغرقت سنوات حكم الثورة الايرانية بأن تصدر أحكاما بأن العنف يحكم ايران. وظلت أمريكا فى حالة تشبث بأن العنف يحكم ايران، بل إنها تشبثت بأن على الدول الصديقة لأمريكا – سواء كانت فى أوروبا أو أفريقيا أو غيرهما – ان تبقى على حالة تأكيد بأن الحال هو كذلك فى ايران، وإلا فان أمريكا تبقى غير صديقة لهذا البلد على الاقل.
•••
أخيرا وجدت أميركا نفسها فى حالة اضطرار – سواء كان اضطرارا موضوعيا أو غير موضوعى ــ بأن تدخل فى محادثات سلمية مع ايران استمرت لعدة أشهر قبل ان تنتهى إلى اتفاق لم يوقع بعد ولكنه على أى الاحوال اتفاق ينبئ بمرحلة تالية من العلاقات الاميركيةــ الايرانية تعيد مسار هذه العلاقات إلى ماضى ما قبل الثورة الايرانية، بل تتجاوزها. هذا على الرغم من ان ايران نفسها لاتزال تصدر بيانات وأحكاما بأن الولايات المتحدة لا تزال دولة إمبريالية وانها تتعامل مع دول العالم على انها إما أن تخضع لنفوذ أمريكا أو فإنها تعتبر دولة معادية. وعلى أى الاحوال فإنه يبدو أن الاتفاق بين أمريكا وايران سيوقع رسميا وتعلن تفصيلاته ويبدأ فى اظهار مرحلة جديدة من العلاقات الامريكيةــ الايرانية تتسم بالإيجابية سياسيا ودبلوماسيا واقتصاديا وربما حتى ثقافيا.
وإلى أن يتحقق هذا لن يكون بالإمكان الاعلان من جانب أى الاطراف الرسمية او غير الرسمية عن موقف من هذه العلاقات الثنائية بين أمريكا وايران يحمل اوصافا إيجابية او سلبية ازاء هذه العلاقات. انما سيبقى واضحا ان ما سبق أن قلناه، وهو أن مقياس العنف هو ما يجرى فى الداخل وليس ما يطلق من الخارج. ويتعين علينا هنا أن نضيف ان العنف موجود فى داخل أمريكا وموجود داخل إيران. سبب ذلك ان الداخل الأمريكى – شأنه مثل الداخل الايرانى – يعكس صراعات مستمرة لها طابع سياسى أو اقتصادى، أو طابع ثقافى يرجع إلى اختلاف الثقافات الداخلية فى هذا البلد أو ذاك. إن البلدين اللذين نتحدث عنهما هنا يتسمان بقدر من الصراعات الداخلية والثقافية بنوع خاص يجعل إحداهما – وهى أمريكا – من أكثر بلدان العالم فى مقدار الصراعات الداخلية. وعلى الرغم من استمرار الثورة الإيرانية لنحو أربعين عاما فإن هذا لا ينفى حقيقة وجود صراعات داخلية فيها تتعلق بالثورة أو بالثقافات السائدة داخل البلد.
أما حين تفاجئنا إحدى الدولتين بوصف ما يجرى فى الأخرى بأنه صراع داخلى فإنه يتعين علينا أن نحاول تقدير الظروف التى يطلق فيها هذا القول. وعندئذ نكتشف أن إطلاق مثل هذه الاوصاف من أيهما عن الاخرى يعود إلى ظروف ما قبل الاتفاق الاخير بينهما الذى انتهت اليه محادثات وزيرا الخارجية الامريكى والايرانى. وهنا ينبغى أن نتنبه إلى أن البلدين لن يتخلصا من السلوك العدائى بينهما الا بعد انقضاء زمن طويل، وربما بعد اقتراب النظامين السائدين فيهما إلى بعضهما بعضا. فهل هذا ممكن؟
•••
قلنا إن البلدين لن يتخلصا من السلوك العدائى بينهما الا بعد انقضاء زمن طويل وينبغى ان نضيف إلى هذا أن البلدين –أميركا وايران – يحملان من أوجه الاختلاف أكثر كثيرا مما يحملان من أوجه التماثل، خاصة فى تكوينهما العرقى والثقافى. وتوقع التقارب بينهما تقف دونه حوائل كثيرة وضخمة. إلا ان المصالح التى تفرض عليهما التقارب والتفاهم لا تتصل بالعلاقات بينهما قدر ما تتصل بالمصالح بين هذين البلدين. ولن يكون بإمكاننا الحديث عن التقارب والتفاهم بين أمريكا وايران الا فى ضوء المصالح البترولية التى تجمع بينهما وتفرق بينهما فى الوقت ذاته. إنها أكثر المصالح بروزا وأهمية. ومعنى هذا أن المصالح البترولية ستلعب أدوارا متناقضة بين أمركا وايران. وهذه الادوار المتناقضة هى التى خلقت تقاربا بينهما جعل من الممكن ان يصل البلدان إلى نقطة الاتفاق الاخير بينهما. وهى التى ستخلق خطوط التعاون بين الدولتين فى مواجهة العالم الخارجى.
كيف سيكون التعاون بين الدولتين –أمريكا وإيران – فى المستقبل وفى ضوء الاتفاق الذى وقعاه معا أخيرا؟
•••
نحن بإزاء دولتين نفطيتين يتسمان بكم كبير فى إنتاج هذه السلعة. ونحن بإزاء دولة كبرى تسير فى طريق الانحسار لقوتها الاقتصادية والعسكرية بالمقارنة للدول الأخرى، الامر الذى لا يبدو حتى الآن انه يؤثر على القوة العسكرية لهذه الدولة. ونحن – فى الوقت نفسه ــ بإزاء دولة ذات قوة عسكرية واقتصادية كبيرة فى منطقة وجودها، فضلا عن منطقة تأثيرها.
لهذا فإن الشرق الأوسط سيكون ساحة صراع خارجى أكثر منه صراعا داخليا فى السنوات بعد انحسار الصراع الداخلى فى المنطقة.