لم تعد الديمقراطية نقيضا للرأسمالية. ولم تعد الديمقراطية مطلبا عالميا. فى الوقت نفسه فإن الديمقراطية تراجعت والرأسمالية تقدمت. النظم الحاكمة تعمل ضد الفقراء.
فى الوقت نفسه فإن الفقراء يزدادون عددا وكذلك الأغنياء يزدادون عددا مع ارتفاع الزيادة السكانية فى العالم.
قد تبدو العبارات السابقة متناقضة للوهلة الاولى، ولكنها لا تلبث ان تؤكد صحتها على الرغم من هذا التناقض. ولكن لابد ان نحاول ان نكتشف أى هذه الجمل القصيرة هى الاكثر رواجا فى العالم والأكثر تصديقا من جانب الملايين الذين يتابعونها.
بوجه عام لن يكون باستطاعتنا ان نتابع هذه العبارات باعتبارها حقائق. بل الأحرى انها ستبقى فى أذهاننا مصدرا للارهاق الفكرى او حتى الرقمى. ولهذا لابد ان نحاول قصر التفكير والتأمل على بعض هذه الحقائق تاركين الكثرة منها بعيدا عن أذهاننا. وربما يكون من الضرورى ان نحاول ان نقصر تفكيرنا على فترة زمنية قصيرة ونبتعد عن الزمن الطويل الممتد بين بداية الثراء البشرى والحال الذى وصل اليه فى زماننا الحالى. ولنقل ان الفترة الزمنية التى شهدت نهاية القرن العشرين وامتداد القرن الحادى والعشرين إلى عامه الخامس عشر، أى العام الحالى، هى فترة كافية لاصدار مثل الاحكام التى أصدرناها بشأن نمو الرأسمالية.
•••
والحقيقة التى تشهد بها هذه الفترة القصيرة، انما الهائلة التأثير، هى ان هذه الفترة المكونة من خمسة عشر عاما تؤكد ان التوجه العسكرى، وما يرافقه من توجه حربى، انما يشن هجوما ضاريا على فقراء العالم ــ حتى فقراء أمريكا الذين يعد فقرهم نسبيا اذا شوهد فى ضوء الفقر الافريقى على سبيل المثال الذى يعد فقرا مطلقا. وهناك مزاعم قوية تتردد فى انحاء العالم بأن فترة الاعوام التى بدأت مع بداية هذه القرن إنما تشهد – بالإضافة إلى تزايد الثراء العالمى – تزايد أعداد الفقراء فى العالم، بل وتزايد فقر الفقراء بصورة لم يسبق لها مثيل. ويوصف تزايد الثراء العالمى فى الفترة الراهنة بأنه «ارتفاع معدلات الغنى العالمى بصورة مذهلة». وأما الفقر فإنه يترك بعيدا بدون أوصاف أو تعبيرات محددة.
والملاحظ انه كلما ازدادت معدلات الغنى ومعدلات الفقر تراجع الاهتمام بالديمقراطية وأصبح الدفاع عن الديمقراطية محصورا فى نطاق ضيق فى مواقع عالمية ضئيلة. ويبدو ذلك صحيحا بشكل خاص فى أكثر بلدان العالم ثراء. وهناك زعم قوى يتردد فى العالم كله بأن الولايات المتحدة هى مركز الهيمنة العالمية التى يطلق عليها بعضهم مركز الامبريالية العالمية. وهى بهذا المعنى مركز صناعة الحرب فى العالم، وهى فى الوقت نفسه مركز المعلومات العسكرية (الحربية) ومركز توجيه الحروب حيثما كانت فى العالم.
•••
وعلى الرغم من ان قوة الولايات المتحدة المالية تراجعت بالمقارنة بمراكز اوروبية فإن الولايات المتحدة لا تزال تؤدى دورا هائلا فى تثبيت قدراتها العسكرية بينما لا تزال اوروبا معنية بمقدار ثراء اثريائها ونسبية هذا الثراء إلى مستويات المعيشة الادنى. لقد استطاعت الولايات المتحدة – من خلال نفوذ طبقتها البالغة الثراء – أن تواصل دورها البارز فى العالم كدولة غنية. كيف؟ لقد بدأت ادارة الرئيس الاميركى بوش مع بداية هذا القرن ما أطلقت عليه اسم «الحرب على الارهاب» ولم يكن هذا فى الحقيقة الا تسمية زائفة لما يسمى الان «حرب الارهاب». ولا تزال الولايات المتحدة تلعب الدور الأكبر فى هذه الحرب الارهابية التى تعاظم فيها دور الارهاب أكثر مما كان فى أى وقت مضى. فمن البداية لم تكن الحرب على الارهاب سوى حجة وذريعة لتنفيذ سياسة مناهضة للديمقراطية ومؤيدة لسياسة خارجية عسكرية. ولم يلبث ان ظهر مع تغير الرئيس الاميركى انه لا فارق سياسيا بين الجمهوريين والديمقراطيين فى هذا الصدد. ولهذا تباعدت سياسات الحزبين الاميركيين الديمقراطى والجمهورى عن دعم الديمقراطية فى العالم الثالث، بل فى العالم ككل.
ولقد اتفقت الحرب الارهابية التى مولتها وسلحتها الولايات المتحدة فى انحاء العالم مع القضايا التى أثارتها الولايات المتحدة منذ بداية هذا القرن. ولهذا الغرض اسست الولايات المتحدة «وزارة الامن الداخلى» (2002) لتؤدى دورها منذ ذلك الحين فى انفاق ملايين الدولارات على توزيع الاسلحة على عصابات الحرب الارهابية. وفى الوقت نفسه اتسع كثيرا نطاق العمليات العسكرية للمنظمات الارهابية حتى داخل الولايات المتحدة نفسها. وقد بلغ تقدير عدد القتلى يوميا فى مدن الولايات المتحدة ذاتها إلى ثلاثة أشخاص يوميا. ولا يزال هذا الرقم فى ازدياد. وقد قتل البوليس الاميركى منذ بداية هذا العام ما لا يقل عن ثلاثمائة شخص. والمتوقع ان يرتفع الرقم هذا إلى ألف ومائة شخص فى نهاية العام الحالى. وقد لاحظت مصادر اميركية أكاديمية وصحفية ان «انهيار الديمقراطية البورجوازية فى الولايات المتحدة قد تسارع وتزايد منذ صعود باراك اوباما إلى السلطة فى عام 2008». ومنذ ذلك الحين ارتفعت ارقام الضحايا فى داخل الولايات المتحدة كما فى خارجها وبمساعدتها.
•••
ولم يعد من المتصور الحديث عن الحقوق الديمقراطية وعن حكم القانون خارج إطار الدراسات الاكاديمية سواء فى اميركا أو فى دول اوروبا المتقدمة منذ بداية القرن الحادى والعشرين. ان أعداد المساجين الاميركيين داخل الولايات المتحدة قد بلغت أكثر من 2,3 مليون شخص وارتفعت نفقاتهم داخل السجون إلى اكثر من 60 مليون دولار سنويا. وقد ترافق هذا بصورة لا يمكن تجاهلها مع تفجر أعداد العسكريين الاميركيين الذين يتولون مهام أمنية. ومن هذه المهام الامنية اهتمام الولايات المتحدة الفائق منذ عام 2008 بارسال قوات مسلحة واسعة النطاق إلى شرق آسيا لمراقبة الصين. وهو أمر يتناقض كلية مع العلاقات الدبلوماسية مع الصين بشكل خاص، وكثيرون من المراقبين الاميركيين يتوقعون صداما عسكريا مع الصين فى المستقبل القريب (...).
كتب المعلق الاميركى توم كارتر قبل وقت قصير (22 أبريل 2015) «ان أمريكا فى حالة حرب دائمة. ولا يكاد يكون هناك فى أى مكان من العالم صراع لا يمكن تعقبه كليا أو جزئيا إلى الامبريالية الاميركية» ويبدو انه محق تماما.