فى وقت يئن فيه الشعب المصرى من ويلات الفقر وانخفاض معدلات الدخول، مقارنة بارتفاع الأسعار، ويتحمل فيه غالبية مواطنى الدولة المصرية تبعات السياسة الاقتصادية المتبعة وتحرير سعر الصرف، وبالتالى انخفاض قيمة الجنيه، وصدور العديد من القرارات برفع التعريفة الجمركية لمجموعة من السلع، وقرارات أخرى بزيادة أسعار الأدوية، وقرارات بزيادة أسعار السلع والمواد التموينية، وللأسف لم يجارَ تلك الزيادات زيادات قد تساعد فى تحمل كل هذه الضربات الاقتصادية، أو تسعى لجعل نوع هناك من التوازن أو شبه التوازن بين زيادة الأسعار ومعدلات الدخل الخاص بالمواطن المصرى، فى ظل كل هذه الظروف السيئة هناك اثنى عشر سجنا جديدا تم إنشاؤها فى خلال مدة تقل عن خمس سنوات، وكأن هذه المنشآت قد تكون مهربا للمواطنين من الأحوال والظروف المعيشية التى تزداد سوءا يوما تلو الآخر، أو أن هناك فائضا فى الموازنة العامة للدولة يوجه لإنشاء هذه السجون.
فى عالم موازٍ تسعى العديد من الدول إلى التطوير العقابى الذى مؤداه تقليص وجود العقوبات السالبة للحرية، وعدم اللجوء إليها إلا فى أضيق نطاق، وفى ظل أصعب الحالات، وقد بدأت مجموعة من البلدان الأوروبية، والتى أهمها فى هذا المستوى السويد، استبدال عقوبة السجن بعقوبات مغايرة قد تكون أصلح للفرد وللمجتمع من زاوية الإصلاح المجتمعى أو الإصلاح الفردى لشخصية المجرم، ومن أهم تلك البدائل إلزام المجرم بأداء عمل مجتمعى معين «وبالتالى يكون عنصرا مفيدا وفعالا، وكذلك مشاركا للمجتمع وغير منبوذ»، ومنها كذلك تحديد إقامة المحكوم عليه فى نطاق جغرافى محدد يمكن فى حدوده ممارسة أعماله والتواجد فى محيط اجتماعاته العادية فى ظل رقابة تختلف من دولة لأخرى ومن مستوى لآخر.
لكن هذا التطور المهم لم يلفت انتباه القائمين على ذلك الأمر بمصر، على الرغم من وجود العديد من الرسائل العلمية داخل الجامعات المصرية فى هذا الشأن، وعلى الرغم من وجود المركز القومى للدراسات الاجتماعية والجنائية، والذى يوجد به نخبة من الباحثين المهتمين بهذا الأمر، لم تزل الماكينة التشريعية المصرية لا تجد خطابا غير التشدد العقابى، وهو الأمر الذى يزيد من عدد السجناء المتواجدين داخل أسوار السجون، وبشكل أكثر تخصيصا تجد الغلظة العقابية فى مصر قد ازدادت بخصوص القضايا ذات الشأن العام أو المرتبطة بأحداث سياسية، فيما بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير لسنة 2011، وهو ما ترتب عليه زيادة عددية فى أعداد السجناء.
***
إذا ما تطرقنا إلى تكلفة ذلك الوضع من الناحية الاقتصادية فقط، فإننا نجد أنه: على مستوى الفرد (السجين) قد بات لدينا زيادة رقمية فى عدد العاطلين عن العمل، وبات هذا الشخص يمثل عبئا اقتصاديا على عاتق أسرته من خلال كونهم مجبرين على توفير أدنى الاحتياجات الأساسية للسجين، أو بمعنى إجمالى «تكلفة الزيارات»، وإذا ما تطرقنا إلى حال معظم هذه العائلات تجد أنها قد فقدت من الأساس العائل الرئيسى لها «المسجون» ومن ثم صارت الأسرة فى احتياج لمد يد العون والمساعدة لها فى ظل غياب عائلها، وهو الأمر الذى يرتب العديد من الديون على عاتق هذه الأسرة، أو ما يصاحب ذلك من آثار اجتماعية مثل التسرب من التعليم على أقل تقدير، أو يعود على بعض أفراد هذه الأسر بالأمراض المترتبة على سوء التغذية وانعدام الموارد الاقتصادية.
أما من ناحية الدولة وهو الأمر الأهم، فكم تتكلف الدولة من ذلك منذ بداية بناء السجون «أرض وكلفة بناء»، فلو أخذنا مثالا وهو سجن جمصة أو ليمان جمصة وهو من أول مجموعة السجون المنشأة حديثا فقد تم بناؤه على مساحة 42 ألف متر، وتم حساب كلفة التشييد بمبلغ 750 مليون جنيه مصرى حسب تصريح وزارة الداخلية، ثم تكلفة حراستها، ثم تكلفة الإعاشة الخاصة بالمسجونين. ففى عام 2015 كشفت مصادر بوزارة المالية عن زيادة موازنة مصلحة السجون خلال العام المالى الحالى 2015ــ2016 بنحو 272 مليون جنيه، لمواجهة الزيادة فى أعداد السجناء فى مصر خلال السنوات الأخيرة، وأن موازنة مصلحة السجون تبلغ فى العام الحالى نحو مليار و127 مليون جنيه، مقابل نحو 855 مليون جنيه فى العام المالى الماضى، منها 598 مليون جنيه أجورا للعاملين بالمصلحة.
هذا هو الرقم الإجمالى التى تتحمله الموازنة العامة للدولة نتيجة التشدد فى السياسات العقابية، فبدلا من أن يتم تحويل أو رصد هذه المبالغ إلى التعليم أو الصحة على الأقل لمراعاة النسب الدستورية فيها، فإنها توجه إلى السجون، وهو ما يعنى ضياعا كليا لهذه المبالغ دونما أى إفادة محصلة منه سواء على المستوى الفردى أو الجماعى أو المؤسسى. ومن الطبيعى أن يتم توجيه معظم هذه المبالغ لما يسمى بالإعاشة أو الغذاء الخاص بالمسجونين، ومن الملفت للنظر أن الأسر تتحمل المزيد من هذه الزاوية حيث إنها تقوم بتزويد السجين بالمواد الغذائية خلال الزيارات، أو بوضع مبالغ نقدية لها داخل السجن للإنفاق منها على الاحتياجات الشخصية، وبالتالى تصبح الكلفة المعيشية مكررة مرتين على نفقة الدولة وهو فى الغالب طعام لا يغنى ولا يسمن من جوع، والثانى على نفقة الأسرة والتى تتحمله وهى مجبرة فى معظم الأحوال. فهل واجهت الدولة نفسها بهذه الحسابات البسيطة أو الأسئلة المكررة، ولماذا لا تأخذ السلطة التشريعية بالنماذج العقابية الحديثة، ولما أيضا التوسع فى بناء السجون بشكل عام فى ظل الظروف الاقتصادية الحالية التى لا يخفى ضعفها وانهيارها على أحد.
***
من هنا فإننى أرى أنه على المسئولين فى المنظومة الحاكمة بشكل كلى (تشريعى ــ تنفيذى ــ قضائى) طرح الأمر على موائد النقاش، أو على أقل تقدير الرجوع إلى الدراسات المتراصة على أرفف مكتبات الجامعات والمراكز البحثية، وهو الأمر الذى لابد أن يكون مخرجه الأخير أو محصلته الختامية البدء فى التحرر من السياسات العقابية الموجودة فى ظل المدونات القانونية الجزائية ومحاولة علاجها، على نحو يكون فيه العقاب على أسوأ تقدير متناسبا مع الجريمة، وعدم التزيد فى العقوبات السالبة للحرية، والتوجه فى الناحية العقابية على أقل مستوى وهو الاستفادة من تواجد هذا الكم البشرى داخل الأسوار مجرد رقم يشكل عبئا اقتصاديا على عاتق أسرته قبل الدولة.