الديمقراطية تحتاج للعدالة الاجتماعية.. والتنمية أيضا - وائل جمال - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:19 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الديمقراطية تحتاج للعدالة الاجتماعية.. والتنمية أيضا

نشر فى : الثلاثاء 24 مايو 2011 - 9:37 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 24 مايو 2011 - 5:55 م
الجميع صار يتحدث عن العدالة الاجتماعية. وضعتها ثورة مصر على أجندة الكل، قوميين وإسلاميين ويساريين. حتى البرامج السياسية لأقصى أحزاب اليمين الليبرالية، التى يقودها رجال أعمال، صارت تحمل هذه الكلمة التى كانت محرمة ومن مخلفات الماضى البائدة قبل أشهر قليلة، اللهم إلا فى خطابات مبارك الممجوجة ومانشيتات صحفه، التى كانت دائما تؤكد لنا «انحيازه الكامل لمحدودى الدخل». طبعا بعد أن تتهمهم وتعايرهم بأنهم «عبء على الوطن والنمو الاقتصادى» بعددهم المتزايد واستهلاكهم «الكبير» للخبز والشاى والسكر وخلافه.

يثبت هذا فى حد ذاته الطبيعة الاجتماعية للثورة المصرية، كانتفاضة ضد عدم المساواة الاقتصادية، والتى ينكرها كثيرون عليها محاولين تحجيمها فى أقفاص ثورة الشباب وثورة الكرامة، أو حتى ثورة الفيسبوك. ولاعجب أن تكون عدم المساواة الاقتصادية الناتجة عن إطلاق يد السوق الحرة ورجال الأعمال فى مقادير الاقتصاد والسلطة وعيش الناس بلا رقيب أو حسيب، دافعا أساسيا لانتفاض الملايين، فى مجتمع وصلت فيه الفوارق بين الدخول، وفى القطاع الحكومى، بين أقصى دخل وأدنى دخل إلى ألف مثل، بحسب وزير المالية د.سمير رضوان.

والحقيقة أن الليبرالية الاقتصادية، خاصة فى نسختها التى سادت العالم فى العقود الأخيرة ومنها مصر، كانت ترى فى العدالة الاجتماعية، بما تعنيه من تبعات توزيعية لثمار النمو الاقتصادى، عائقا أمام الازدهار والاستغلال الأمثل للموارد. وسادت أفكار تقول إن تحرير الاقتصاد من أغلال التوزيع هو الذى ينتج الرخاء للمجتمع ككل فى النهاية. تقول هذه النظرية إن حرية رجال الأعمال فى الاستثمار هى المدخل لكل شىء. فهذا الاستثمار، الذى يعبر عن طريق بوصلة السوق عن أفضل تخصيص للموارد، يعنى خلق الوظائف وبالتالى تحسين دخول الفقراء، ومن تراكم الأرباح تجيء الاستثمارات الجديدة وهلما جرا. لكن الأزمة الاقتصادية العنيفة وعدم المساواة التى صارت ظاهرة تسم العالم كله، المتقدم منه والمتأخر، هزت نظرية تساقط ثمار النمو هذه من جذورها. وظهرت لنا نسخة محسنة، سمعنا حديثا عنها، لم يتعد التنظير، فى خطاب بعض وزراء حكومة نظيف: بناء شبكات الأمان الاجتماعى، وتعميق ما يسمى بالدور الاجتماعى للشركات. لكن هذه النسخة، التى تعاود الظهور لنا فى برامج العديد من الأحزاب الليبرالية الجديدة فى مصر، تحتفظ بنفس المنطلق الرئيسى: الحرية الأساسية هى حرية الاستثمار، وإن هذه المرة فى نظام لا يزور أصواتنا فى صندوق الانتخاب ويسمح بحرية الأحزاب. فهل يكفى هذا لتحقيق العدالة الاجتماعية التى يصبو إليها الشعب؟

الحقيقة أن الذين ينطلقون من أولوية الحرية الاقتصادية فى الاستثمار على ماعداها يجب أن يحلوا الكثير من المعضلات النظرية والعملية قبل أن يكونوا قادرين على ذلك.

من أهم هذه المعضلات أن السياسات التوزيعية العميقة (التى تقتضى فى الأغلب تعديلات كبيرة فى السياسة الضريبية وفى دور الدولة لضمان حد أدنى من التعليم والصحة والخدمات وتوفير الوظائف للفقراء)، والتى تحتاجها مصر الآن، متعارضة مع منطلق أساسى لدى هؤلاء يقول إن هذه السياسات تعوق كفاءة الاقتصاد بتقليل الحوافز والمنافسة. وهى أفكار الآن فى تراجع هائل. فالطوفان الذى أغرق السوق العالمية فى السنتين الأخيرتين جعل صندوق النقد الدولى نفسه يعيد النظر فى هذا التوجه. وتقول ورقة بحثية للصندوق صادرة فى 8 أبريل الماضى تحت عنوان «عدم المساواة والنمو غير المستدام وجهان لعملة واحدة» إن النمو هو الذى صار مشروطا بالمزيد بالمساواة وليس العكس. «تقليص فجوة عدم المساواة فى أمريكا اللاتينية والأسواق الناشئة فى آسيا للنصف، بحسب حساباتنا يضاعف الفترة التى تدوها موجة النمو». بل إن الورقة تمضى لتقول إن هذا ممكن وعملى وتم فى عدد من الدول محذرين من أن الجهود الورقية الهزيلة لمواجهة عدم المساواة هى التى تدمر فرص الفقراء والحافز الاقتصادى لديهم. يعنى أنك لو تبنيت سياسة لاتعمل بجد على تقليص الفجوة بين الأغنياء والفقراء فإن ذلك سيضر الفقراء أكثر. ومن ثم يعود على الاقتصاد بمزيد من الأزمات والكساد.

كانت تطورات العقود الأخيرة قد أدت لظهور ما يسمى بتيار «المساواتية» Egalitarianism، وهو تيار يربط بين الحرية وبين المساواة على العكس من الليبراليين الجدد وأنصار السوق الحرة الذين يكتفون بحرية الانتخاب فى الصندوق، إذا اضطروا إلى ذلك. (فبعض هؤلاء فى مصر لا يمانع على الاطلاق فى الاستثمار فى دول شمولية عسكرية كباكستان وكوريا الشمالية والجزائر طالما أنها توفر هوامش ربح محترمة).

ويمثل أمارتيا سن، الاقتصادى الهندى الحائز على جائزة نوبل، هذا التوجه بمفهوم للعدالة الاجتماعية يقول بالعكس: تكافؤ الفرص بعدالة التوزيع هو المنطلق لتنمية عادلة ونمو مستدام وتحقيق الحرية السياسية. ينفى سن، الذى غيرت أفكاره وأفكار تياره فى منظمات كبرنامج الأمم المتحدة للتنمية UNDP لتطور مؤشرات أوسع تقيس المساواة ونوعية حياة البشر، ولا تكتفى بالنمو فى الناتج المحلى وعجز الموازنة..الخ، كمقياس لصحة الاقتصاد.

العدالة الاجتماعية لاتتعارض مع الحرية. العدالة الاجتماعية التى تخلق تمكينا للناس، بالتعليم والصحة والوظائف المنتجة، التى تخرجهم من دائرة العوز والفقر، هى شرط لصحة الحريات السياسية وألا تتحول الديمقراطية إلى حقنا فى الاختيار بين رئيس الشركة س أو من يمثله ورئيس الشركة ص ومن يمثله، وهى الأزمة التى تواجه أغلب ديمقراطيات العالم المتقدم حاليا وعلى رأسها الولايات المتحدة.

والحرية السياسية التى يمارسها أناس غير متساوين فى الفرص وفى النصيب العادل من ثروة وموارد المجتمع، حرية وهمية. لذا فالعدالة الاجتماعية، التى تعدل الاعوجاج الهائل فى توزيع الثروة هى شرط لاغنى عنه لتعديل الاعوجاج فى السلطة السياسية. المصريون لن يكونوا أحرارا بحق فى صندوق الانتخاب، ولا غيره من مسارات السياسة، إلا إذا تحولت الحرية الاقتصادية من حرية للاستثمار، ولوعلى حساب الجميع، إلى حرية عموم المنتجين فى إدارة موارد المجتمع لصالحهم هم. المساواة والعدالة الاجتماعية شرط الحرية والديمقراطية.

وائل جمال كاتب صحفي
التعليقات