لا للتعامل العسكرى مع مسألة سدّ النهضة - إبراهيم عوض - بوابة الشروق
الإثنين 30 ديسمبر 2024 8:06 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

لا للتعامل العسكرى مع مسألة سدّ النهضة

نشر فى : السبت 24 يوليه 2021 - 6:30 م | آخر تحديث : السبت 24 يوليه 2021 - 6:30 م

الوصول إلى اتفاقية ملزمة حول ملء خزان سدّ النهضة وتشغيله هو هدف مصر من المفاوضات الفنية والسياسية الجارية لسنوات طويلة مع إثيوبيا والسودان. لم يثر أحد الشك فى مشروعية هذا الهدف فى جلسة مجلس الأمن الدولى المنعقدة يوم 8 يوليو الجارى. من وراء الاتفاقية الملزمة تبغى مصر الحفاظ على ما يصلها من ماء النيل سنويا بمقتضى اتفاقيتها مع السودان المبرمة فى سنة 1959، وهى الاتفاقية التى لا تعتبرها إثيوبيا ملزمة لها. هذا المقال يرجع لبعض ما جاء فى مقال آخر لكاتبه، تناول تسوية الخلاف حول سدّ النهضة، نشرته «الشروق» الغراء يوم الأحد 20 أكتوبر سنة 2019.
مقال اليوم هو عن المنهج الذى اتخذته مصر فى التعامل مع مسألة سدّ النهضة وما يمكن أن تضيفه إليه لكى تصل إلى تحقيق هدفها المنشود والمشروع. والمقال اجتهاد، مثل الاجتهادات العديدة، فى الصحافة المكتوبة والمسموعة والمرئية وفى وسائط التواصل الاجتماعى، التى تصدر عن الباحثين والكتاب، على ضوء ما توفر من معلومات موثوق بها، وهى ليست كثيرة، عن تطور المفاوضات وعن آثار سدّ النهضة على وصول المياه إلى مصر.
•••
جلسة مجلس الأمن المذكورة كشفت عن أن أعضاءه الدائمين وغير الدائمين لا يتفقون مع المنهج المصرى الذى اعتبر أن سد الهضة، وفى غيبة اتفاقية ملزمة بشأن الملء والتشغيل، يهدد السلم والأمن الدوليين، لأنه يهدد وجود مصر، وهو الذى استدعى تلويحا مستترا منها باللجوء إلى بديل به «تحمى وتصون حقها الأصيل فى الحياة».
أقلام وأصوات كثيرة استنكرت مواقف أعضاء مجلس الأمن، من «الغرب» و«الشرق» ومن الدول المتقدمة والنامية، واعتبرتها تستهين بمصالح مصر وحقها فى الوجود. هذه الأقلام والأصوات تقدمت بتحليلات محترمة تنشد تحقيق المصلحة الوطنية. غير أن جلسة مجلس الأمن ومواقف أعضائه فرصة ينبغى أن نستفيد بها وأن تحثنا على النظر فى مجمل المنهج المصرى فى التعامل مع مسألة وصول مياه نهر النيل إلينا. لا يكفى مطلقا أن نستنكر مواقف الدول الأعضاء فى مجلس الأمن وأن نستمر فى مهاجمة إثيوبيا لتعنتها.
المنهج المصرى فى التعامل مع وصول مياه نهر النيل بالكمية الكافية إلى مصر لا يقتصر على التفاوض بشأن سد النهضة وإعلان المبادئ الثلاثى الصادر فى الخرطوم فى سنة 2015، بل هو يمتد إلى ما يخص حوكمة نهر النيل برمته، وكذلك إلى القواعد الحاكمة للاستخدامات غير الملاحية للأنهار الدولية بشكل عام. نتناول بالتحليل هذه العناصر على التوالى ثم نتصدّى لكيفية التعامل من الآن فصاعدا مع الموقف الإثيوبى، وهو تعامل تدعو بعض الأقلام والأصوات إلى أن يكون عسكريا.
ما زال كاتب هذا المقال يعتبر أن اشتراك مصر فى اعتماد إعلان المبادئ فى محله. إعلان المبادئ يقرّ بحق إثيوبيا فى التنمية، وهذا فى حد ذاته عظيم الأهمية ليس فقط بالنسبة للعلاقات المصرية ــ الإثيوبية بل وكذلك لوضع مصر فى شرق القارة الإفريقية، حيث يتردد، بين الفينة والأخرى، أن مصر لا تعنيها إلا مصلحتها وأن تنمية دول القارة وانتشالها من التخلف لا يهمانها. شرق القارة بل القارة الإفريقية كلها هى البيئة المحيطة التى تندرج فى إطارها علاقات مصر بإثيوبيا. نقطتان يأخذهما البعض على إعلان المبادئ. الأولى هى أنه لم يذكر الحقوق التاريخية لمصر المستندة إلى اتفاقيتى سنة 1929 و1959 التى لم تكن إثيوبيا طرفا فى أى منهما. الاستناد إلى هاتين الاتفاقيتين بالذات هو ما تأخذه ليس إثيوبيا فقط بل أغلب دول حوض النيل على مصر. الحقوق التاريخية معالجة بشكل آخر فى إعلان المبادئ وفى مواقف مصر فى المفاوضات بما فى ذلك فى كلمة وزير الخارجية أمام مجلس الأمن. فى الإعلان ثلاثة مبادئ على الأقل لا يمكن تفسير وجودها فيه إلا إن كان هناك اعتراف بالحقوق التاريخية كما يثبتها انسياب مياه النيل منذ فجر التاريخ إلى مصر. المبدأ الأول هو التعاون فى تفهم الاحتياجات المائية لدول المنبع والمصب، والمبدأ الثانى هو عدم التسبب فى ضرر ذى شأن عند استخدام مياه النيل الأزرق، والثالث هو الاستخدام المنصف والمناسب للموارد المائية المشتركة. مع بعضها هذه المبادئ تكفل لمصر نصيبها من المياه المذكور فى اتفاقية سنة 1959، بل ينبغى أن تمكنها من أكثر منه. النقطة الثانية المأخوذة على إعلان المبادئ الثلاثى هى أنه نص على تسوية النزاعات الناشئة عن تفسيره أو تطبيقه عن طريق المشاورات والتفاوض، أو بالعرض على رؤساء الدول والحكومات، أو بطلب للوساطة أو التوفيق تتقدم به الدول الثلاث مجتمعة. مشكلة فى هذا الإعلان هى اسمه، وهو «اتفاقية إعلان المبادئ» والذى يتركك حائرا: هل أنت بصدد إعلان أو اتفاقية؟ الإعلان هو من صكوك القانون الدولى الرخو، أى إنه غير ملزم لمن يعتمدونه، وبالتالى فلا مجال للإلزام فى تسوية النزاعات الناشئة عنه سواء باللجوء إلى التحكيم أو القضاء الدولى. الرأى الأرجح أننا بصدد إعلان بالفعل، فهو لم يعرض على مجلس النواب المصرى للتصديق عليه كما يحدث للاتفاقيات الدولية الملزمة.
أما عن عملية التفاوض فى حد ذاتها، فلقد خاضتها مصر برغبة جادة للوصول إلى اتفاق. ولكن ثمة ملحوظتين يمكن إبداؤهما عليها. الأولى هى أن ممثلى مصر دخلوا مراحل المفاوضات المتتالية بأوراق غير كافية، وليس ذلك لتقصير منهم أو من الدولة فى وضعها الحالى. دول المنبع فى وضع قوى فى أى عملية للتفاوض مع دول المصب حول إدارة الموارد المائية لنهر دولى، والمثال على ذلك قوة تركيا فى شأن نهر الفرات. منذ عشرات السنين كان ينبغى أن ينصب جانب كبير من التحرك الإفريقى والدولى لمصر على إنشاء شبكة من المصالح المشتركة الاقتصادية والفنية والاجتماعية والسياسية مع دول حوض النيل، وعلى رأسها إثيوبيا، تستفيد منها كل هذه الدول، وكذلك مصر، ويجعل امتناع إثيوبيا عن الاتفاق مع مصر بشأن نهر النيل باهظ التكلفة عليها. الأنباء المتداولة مؤخرا تكشف عن أن مصر كانت متنبهةً إلى ضرورة بناء مصالح مشتركة، ولكن هل كانت هناك مشروعات محددة تشمل حوافز تغرى بالانتقال إلى التطبيق أم كان الأمر مجرد أفكار عامة؟ المعلومات ليست متوفرة. الملحوظة الثانية هى تساؤل: هل أفضل استراتيجية للتفاوض هى أن تقول إن موضوع هذا التفاوض يتعلق بوجودك نفسه من عدمه، وأنه مسألة حياة أو موت بالنسبة إليك؟ ألا تتركك هذه الاستراتيجية وظهرك للحائط، وألا تمنح هذه الاستراتيجية الطرف المقابل قوة عليك إذ يدرك أن المساحة التى تتحرك فيها صارت ضيقة للغاية؟ بشأن مياه النيل عامةً، هذه الاستراتيجية ليست جديدة وهى ترجع إلى فترة حكم الرئيس الاسيق حسنى مبارك. قبل انعقاد جلسة مجلس الأمن الأخيرة صرح وزير الرى المصرى أن مصر تخطط لاستدامة الموارد المائية فيها حتى سنة 2050 مستخدمةً فى ذلك مزيجا من الإجراءات. هذا موقف يعبر عن ثقة فى النفس، لو كان هو الأساس الذى استندت إليه الاستراتيجية التفاوضية المصرية لأدخل الاطمئنان على المفاوض المصرى وعزز موقفه، وحرم المفاوض الإثيوبى المقابل من ورقة هامة منحت له.
•••
نصل إلى حوكمة نهر النيل برمته، والقواعد الحاكمة للاستخدامات غير الملاحية للأنهار الدولية، وهى مرتبطة ببعضها البعض. مبادرة حوض النيل، التى انطلقت فى سنة 1999 برعاية البنك الدولى، وصلت بعد سنوات عشر من التفاوض إلى الاتفاقية الإطارية الشاملة لإدارة الموارد المائية لنهر النيل، ولما فتحت الاتفاقية للتوقيع فى سنة 2010، امتنعت مصر عن التوقيع عليها ثم انسحبت من المبادرة تماما. الاتفاقية اقتبست من المبادئ التى تنص عليها اتفاقية قانون الاستخدامات غير الملاحية للمجارى المائية الدولية لسنة 1997. من بين المبادئ المقتبسة عدم التسبب «فى ضرر ذى شأن يؤثر فى الأمن المائى لأى من دول حوض النيل الأخرى». مصر ومعها السودان اعترضت على هذه الصياغة للمبدأ وأرادت الدولتان أن تكون صيغة المبدأ «ألا يؤثر سلبا فى الأمن المائى وفى الاستخدامات والحقوق الحالية لأى من دول حوض النيل الأخرى». هذه بالطبع غيرة على المصالح المصرية، ولكن على ضوء ما قبلت به مصر فى إعلان المبادئ فى سنة 2015، وهو قبول فى محله كما سبق بيانه، فهل كان ثمة مبرر لعدم الانضمام إلى الاتفاقية والانسحاب من المبادرة فى سنة 2010، خاصةً وأن الاتفاقية تنص على التحكيم فى تسوية المنازعات الناشئة عنها، وهذا نص فى صالح مصر؟ وألم يكن من شأن وجود مصر فى المبادرة أن تنشط بين دول الحوض التسع الأخرى وأن تؤثر فيها فيدعم هذا موقفها فى التفاوض مع إثيوبيا؟ والغريب بعد ذلك أن مصر لم تنضم إلى اتفاقية قانون الاستخدامات غير الملاحية للمجارى المائية الدولية وهى التى تنص على مبادئ تحد من سلطات دول المنبع، وفيها على الأقل مبدآن فى مصلحة دول المصب هما المبدآن الثانى والثالث المذكوران أعلاه.
•••
أما عن إضافة العمل العسكرى إلى المنهج المصرى، من الان فصاعدا، باعتباره حلا أو محركا لمفاوضات جادة تفضى إلى اتفاقية ملزمة بشأن ملء خزان السدّ وتشغيله، فينبغى استبعاده تماما. العمل العسكرى، أو التهديد به، سيجعل معظم إفريقيا إن لم يكن كلها تقف فى وجهنا. الأقاليم هى مصدر لقوة الدول متوسطة القوة، فهل تريد مصر، بدلا من أن تنمّى قوتها المستمدة من إفريقيا، أن تحرم نفسها تماما منها؟ أول نتيجة لاستخدام القوة العسكرية هى أنه سيكون على مصر أن تسقط من حساباتها تماما التطلع إلى شغل مقعد دائم عن القارة فى مجلس الأمن فى حالة التوصل إلى تعديل ميثاق الأمم المتحدة. أما عن أن العمل العسكرى سيدفع إثيوبيا إلى التفاوض، أو أنه سيؤدى بمجلس الأمن إلى التدخل لدفع إثيوبيا إلى التفاوض الفعّال، فمردود عليهما. دفع إثيوبيا إلى التفاوض بهذا الشكل لا يكفى له تسديد ضربة للسدّ. هو يستدعى عملا عسكريا ممتدا واحتلالا لمنطقة السد يقايض الجلاء عنها بالاتفاقية التى تبغيها مصر. علاوةً على أن هذا سيزيد مواجهة القارة لنا فمن الذى سيسمح به؟.
على ضوء مواقف يوم 8 يوليو، فبدلا من أن يتدخل مجلس الأمن لدفع إثيوبيا للتفاوض فهو سيفرض وقف إطلاق النار فورا والانسحاب من منطقة السدّ إن كانت قد احتلت. هل نحن فى وارد مواجهة مجلس الأمن والإجراءات التى قد يفرضها؟ أما الدول التى تزود مصر بالسلاح فستطلب منها عدم استخدامه فى عمليات مسلحة فى إثيوبيا، وربما هددت بعدم بيع سلاح جديد لها أو تزويدها بقطع الغيار والذخيرة.
وحده التفاوض، ويا حبذا لو كان بدعوة مشتركة من رئيس الاتحاد الإفريقى والأمين العام للأمم المتحدة، كما نص على ذلك مشروع القرار التونسى المقدم إلى مجلس الأمن، هو السبيل الذى ينبغى أن تسلكه مصر.
هذا التفاوض لا بدّ أن يستند إلى استراتيجية سياسية ودبلوماسية متكاملة توظف الموارد المصرية الداخلية والخارجية، المادية والرمزية، التوظيف الأمثل الذى يؤدى إلى تحقيق الهدف المنشود.
تحقيق هذا الهدف مازال ممكنا.
أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة

إبراهيم عوض أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة
التعليقات