وسط تهافت الدعوات الدولية، رسمية كانت أو شعبية، لتحرير عالمنا البائس والمضطرب من كابوس الأسلحة النووية، أحيت اليابان، فى السادس من أغسطس الجارى الذكرى الـ75 لمأساة أول عدوان نووى عرفه البشر. بيد أن مسيرة انتشار البرامج النووية العسكرية حول العالم منذ قرابة عقود خمسة خلت تشكل بدورها عمر نظام منع الانتشار النووى، تشى بأن النظام، الذى يرتكن على رباعية معاهدة حظر الانتشار النووى لسنة 1968، والتى حولتها الولايات المتحدة إلى نظام عالمى دائم إبان مؤتمر المراجعة لعام 1995، وكذا البروتوكول الإضافى الملحق بها لسنة 1997، وما ينبثق عنها من معاهدات فرعية بالتنسيق مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية لإخلاء مناطق وأقاليم بعينها من الأسلحة النووية، علاوة على المعاهدات الثنائية المبرمة بين واشنطن وموسكو لضبط التسلح النووى، قد أخفق، إلى حد كبير، فى بلوغ غايته المتمثلة فى إنقاذ البشرية من براثن «الديستوبيا النووية» المتجسدة فى استمرار انتشار وتطورالأسلحة النووية حول العالم، مع تنامى قابليتها وجهوزيتها للاستخدام الفعلى.
معيبا ومثخنا بنقاط الضعف وجوانب القصور، ولد النظام المرتكزعلى مبدأ احتكار دول بعينها للسلاح النووى مع احتفاظها بحق تطويره كيفما شاءت، فى الوقت الذى لا تدخر وسعا فى منع غيرها، وبشكل انتقائى أيضا، من هكذا حقوق، بل وإذلال من تسول له نفسه تحدى هذا الوضع الجائر من غير حلفائها. وبوجهه القبيح أطل الطابع التمييزى لمعاهدة منع الانتشار النووى، التى تميز بين دول تمكنت من امتلاك تلك الأسلحة قبل بداية يناير عام 1967 لتنتزع الحق فى أن تكون دولا نووية معترفا بها، وهى الدول الخمس دائمة العضوية بمجلس الأمن الدولى، وبين بقية دول العالم التى لم يتسن لها تحقيق نفس الإنجاز قبل ذات التاريخ، ومن ثم تحرم من حيازة السلاح الفتاك.
كذلك، لا يفرض النظام الدولى لمنع الانتشار النووى حظرا شاملا وصارما للتوسع النووى على المستوى الرأسى، إذ لا يحرم الدول الخمس من استبقاء ترساناتها النووية وتطويرها بإنتاج أجيال أحدث وأكثر تدميرا، وأنظمة إيصال أبعد مدى وأدق توجيها وأقدر على حمل العديد من الرءوس النووية، مكتفيا بالعمل فقط لمنع الانتشار على المستوى الأفقى، من خلال الحيلولة دون زيادة عدد الدول المالكة للسلاح النووى عبر إيصاد أبواب الإنتاج أو الاقتناء أو التطوير أمام الدول غير النووية. ونتيجة لافتقاد نظام منع الانتشار لآلية تحمل الدول النووية المعلنة على احترام التزاماتها بعدم تطوير أسلحتها النووية، أومساعدة أية دولة غير نووية على حيازة أسلحة مماثلة، تعاظم انتشار تلك الأسلحة اللعينة عالميا على الصعيدين الأفقى والرأسى.
فأفقيا، وبينما أكدت معاهدة NPT صراحة حقّ أى مجموعة من الدول فى إبرام معاهدات لإخلاء أقاليمها من الأسلحة النووية، بما يعزز نظام عدم الانتشار النووى، حتى أبرمت خمس معاهدات لإنشاء خمس مناطق خالية من الأسلحة النووية فى أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبى 1967، وجنوب المحيط الهادئ 1985، وجنوب شرق آسيا 1995، وأفريقيا 1996، وآسيا الوسطى 2006، بتنسيق مع نظام الضمانات التابع للوكالة الدولية للطاقة الذرية، إلا أن ذلك لم يحل دون ظهور قوى نووية جديدة، حيث برزت ظاهرة «الدول النووية غير المعلنة» التى انضمت تباعا إلى النادى النووى بعدما تمكنت من التحايل على نظام منع الانتشار النووى واستطاعت تصنيع أو امتلاك أسلحة نووية، بدعم أو تواطؤ من الدول النووية الخمس المعلنة، حتى بتنا أمام خمس دول إضافية تمتلك أسلحة نووية هى إسرائيل وجنوب أفريقيا (أعلنت تفكيك برنامجها النووى العسكرى قبل قرابة عقدين) والهند وباكستان و كوريا الشمالية.
أما رأسيا، فلم تتوان الدول النووية التسع عن تطوير ترساناتها النووية على المستويين الكمى والنوعى، فكميا، وبحسب معهد ستوكهولم الدولى لأبحاث السلام، تمتلك تلك الدول ما يربو على 15 ألف رأس نووى، 1800 منها فى حالة تأهب قصوى دائمة، تمتلك الصين وحدها منها حوالى 320 رأسا تتطلع إلى رفعها لألفين، عبر مواصلة تطوير ما يسمى بـ «الثالوث النووى» المكون من صواريخ برية وبحرية جديدة وطائرات قادرة على حمل الرءوس النووية. ونوعيا، وردا على تهديدات أمريكية بإحكام الهيمنة النووية الذكية على الأرض والفضاء، كشف الرئيس الروسى بوتين، مؤخرا عن قرب اقتناء بلاده أسلحة نووية هجومية لا مثيل لها، تشمل غواصات مسيّرة وصواريخ كروز (تسيركون) تفوق سرعتها سرعة الصوت بخمس مرات ويمكن نصبها على سطح السفن، علاوة على طائرات نووية مسيرة (بوسيدون) يمكن تركيبها على غواصات.
بيد أن ما يبعث على الأسى حقا فى نظام منع الانتشار النووى، هو عدم احتوائه على أى نص صريح وملزم لحظر استخدام الأسلحة النووية، كونه يفتقد لآلية رادعة تجبر الدول النووية على التقيد بمنع استخدام أسلحتها النووية، أو اتخاذ أية تدابير عقابية حيالها فور إقدامها على هذا الخرق. ورغم إصدار محكمة العدل الدولية رأيا استشاريا بتحريم استخدام الأسلحة النووية باعتبارها أسلحة دمار شامل، تبقى أهمية هذا الرأى حبيسة الرمزية السياسية التى لا ترقى إلى مستوى النصوص القانونية الملزمة التى يستتبع انتهاكها إجراءات عقابية دولية صارمة، الأمر الذى يبقى الباب مواربا أمام إمكانية تكرار مأساة هيروشيما وناجازاكى، التى غدا العالم قاب قوسين أو أدنى منها مرتين، تجلت أولاهما إبان أزمة الصواريخ الكوبية 1962، بينما لاحت ثانيتهما خلال حرب أكتوبر 1973، ليبقى شبح «الديستوبيا النووية» متربصا بعالمنا، وبوطأة أشد فتكا وكارثية، مع تعاظم الآثار التدميرية للأسلحة النووية اليوم بمراحل عما كانت عليه فيما مضى.
وعبثا حاولت الدول الكبرى إصلاح جوانب القصور بمعاهدة حظر الانتشار النووى عبر بروتوكولها الإضافى الهادف إلى إحكام رقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية على البرامج النووية للدول غير النووية الأعضاء فى الاتفاقية، خصوصا بعدما تراءى للجميع كم الثغرات التى تعترى نظام التفتيش الذى أقرته الاتفاقية، ما سمح لبعض الدول الأعضاء بتطوير قدرات نووية. غير أن البروتوكول سرعان ما غدا حلقة جديدة فى مسلسل التدابير الدولية الرامية إلى تكريس حالة الاحتكار النووى، حيث تجنب المساس بالدول النووية غير الملتزمة بمعاهدة حظر الانتشار النووى، بينما أمعن فى تشديد الخناق على الدول غير النووية الملتزمة بتلك المعاهدة.
ولم تكن مساعى واشنطن وموسكو لضبط التسلح النووى بأفضل حالا، حيث تواجه المعاهدات الثنائية التى أبرماها لتقليص ترسانتيهما النووية مصاعب شتى، يتصدرها أزمة الثقة المتبادلة والمزمنة بينهما، فضلا عن سعى كل طرف للى عنق تلك المعاهدات لخدمة لمصالحه ومآربه الإستراتيجية مع محاصرة الطرف الآخر استراتيجيا. وبينما ترفض الصين بدورها، الانضمام إلى معاهدات ضبط التسلح النووى الثنائى بين واشنطن وموسكو، متذرعة بأن قدراتها النووية التى تناهز الـ 300 رأس نووى لا يمكن أن تقارن بإمكانات القوتين النوويتين العظميين اللتين تمتلكان وحدهما زهاء 14 ألف رأس نووى، تشكل أكثر من 90 % من ترسانة العالم النووية، لم تتورع واشنطن عن الانسحاب مطلع أغسطس 2019، من معاهدة القوى النووية متوسطة المدى التى أبرمتها مع روسيا عام 1987، لحظر نشر صواريخ قصيرة ومتوسطة المدى فى أوروبا. وقبل أيام، استبعدت موسكو التوصل إلى اتفاق مع واشنطن بخصوص تجديد العمل بمعاهدة ستارت الجديدة التى أبرمت عام 2010 وتنتهى صلاحيتها مطلع 2021، جراء إصرار الأمريكيين على ضرورة إدماج الصين فيها.
أما اليابان، التى تنص المادة التاسعة من دستورها الموضوع بمعرفة الاحتلال الأمريكى بعد هزيمتها فى الحرب العالمية الثانية، على رفض طوكيو الحرب أو استخدام القوة لحل الخلافات الدولية، بما يمنعها من امتلاك أية قوة عسكرية هجومية عدوانية، لتنحصر مهمة الجيش اليابانى فى الدفاع عن البلاد من داخل حدودها فقط، فقد بأت فى التخلى التدريجى عن هذا النهج على وقع تعاظم التهديدات المنبعثة من الصين وكوريا الشمالية بالتزامن مع اهتزاز ثقة اليابان فى فعالية وديمومة الحماية النووية الأمريكية. وفى كتابها المعنون «إعادة تسليح اليابان: سياسة القوة العسكرية»، الصادر بأبريل الماضى، استعرضت شيلا سميث الباحثة بمجلس العلاقات الخارجية الأمريكية، تطور السياسة الدفاعية اليابانية من بداية الحرب الباردة إلى أيامنا هذه، راصدة العوامل التى دفعت طوكيو للتفكير فى تغيير سياستها الدفاعية وتطوير قدراتها العسكرية منذ تولى رئيس الوزراء شينزو آبى الحكم عام 2012، ومطالبته كتلة حزبه البرلمانية بإعادة صياغة المادة التاسعة من الدستور، بما يتيح الحفاظ على أمن البلاد عبر تطوير جيشها وتوسيع دوره. وقد كان، فبموازاة مشاركة القوات اليابانية بعمليات حفظ السلام الأممية، وانخراطها فى أنشطة عسكرية مع واشنطن وعواصم آسيوية أخرى بالمحيط الهندى وبحر الصين الجنوبى، شهد الانفاق العسكرى اليابانى طفرة لافتة تتماشى فى سياق بلورة استراتيجية دفاعية وطنية تتيح امتلاك جيش قادر على حماية البلاد دون الاعتماد على قوى خارجية، ومؤهل للتعامل مع البيئة الأمنية المتغيرة لشرق آسيا وغرب المحيط الهادى، والتى اعترتها تغيرات مقلقة ومتسارعة، خصوصا مع تنامى ترسانة كوريا الشمالية من أسلحة الدمار الشامل وأدوات إيصالها، واستفحال التطلعات الاستراتيجية للصين إثر تعاظم قدراتها العسكرية النوعية على جميع الصعد.
وبينما يحذر الخبير بمعهد «ميدلبيرى» للدراسات الدولية جيفرى لويس، من أن يفضى سباق التسلح النووى العالمى إلى إبادة الحضارة الإنسانية برمتها، أسوة ببطل رواية الإنجليزية مارى شيللى الأشهر «الدكتور فرانكشتاين – 1818»، ذلك العالِم المتهورالذى تفانى فى إنتاج مسخ بشرى ما لبث أن تحول إلى وحش مدمر، عجزعن التخلص منه أو النجاة من بطشه، يذهب الفيلسوف الأمريكى جون هولوى، إلى أن «الدكتور فرانكشتاين» يجسد نموذج القوة الغاشمة الذى يصطنعه البشر بتهافتهم العلمى مغترين بقدرتهم الوهمية على تطويعه لخدمة تطلعاتهم الجامحة، لكن سرعان ما يصدمهم الإخفاق المروع فى ترويض أو تقويض الخطر الداهم الذى يهدد بقاءهم، وهوالأمر الذى يتجسد جليا فى تشبث الإنسان الأهوج بانجذاب مضلل نحو هلاك محقق فى أتون الأسلحة النووية.