تمهيد: عن حركية الزمن:
(يتعاظم الاختلاف فى الشعور بالزمن بين الإحساس الجماعى للإنسان فى مجتمع متقدم، وللإنسان الآخر فى مجتمعات الجنوب. عادة، عند المتقدمين يتحرك البشر وينتجون أسرع من تحرك عقارب الساعة، فيشعر الإنسان هناك بتقلص الزمن Time contraction، أما عن إنسان عالم الجنوب فإنه لا يُعير المواقيت اهتماما وتكون حركته (وكذلك إنتاجيته) أبطأ من حركة الزمن فى ساعة يده. إنه يصل إلى غايته (أو إلى ميعاده) بعد فوات الزمن المحدد، ثم يتساءل: «لماذا يمر الزمن أسرع مما ينبغى؟». ذلك ما يسمى تمدد أو تراخى الزمن *Time dilation).
(*مأخوذ عن «الأبعاد النفسية للنظرية النسبية»، فى: إدارة المعرفة ــ رؤية مستقبلية ــ دار المعارف ــ 1998).
وهكذا، تأُخُر وصول إنسان مجتمعات الجنوب إلى غايته يعنى تخلفه عن حركية الزمن، وبالتالى الرجوع إلى الوراء، فتنشأ «الرجوعية».
• • •
تنعكس أسباب وأعراض ونتائج «الرجوعية» (أى التخلف عن حركية الزمن) فى مظاهر عديدة، تتعلق جميعها بوضعية الشأن العام، فيما يلى إشارة إلى بعضها.
أ) رجوع المنظومية إلى الوراء:
تعرف المنظومة بأنها مجموعة من الأجزاء التى لها فيما بينها روابط، بحيث تبدو هذه الأجزاء كوحدة واحدة Unity، وذلك بفعل تنظيم لعلاقاتها ببعضها. نسقيا، تكون كل منظومة جزءا من منظومة (أو منظومات) أعلى، ويمكن أن تحتوى هى نفسها على منظومات أدنى.
وعليه، فالمنظومية تمثل الوجود الطبيعى، لكل الكيانات المجتمعية، وللشأن الحياتى فى جميع أبعاده. وسواء المنظومة صغرى أم كبرى، فلكل المنظومات، مهما تباينت نوعياتها، خمس مهام (أو وظائف) عامة، تتمثل فيما يلى:
1ــ الوظيفة «السياسية»، وتختص بتحديد الهدف والأهداف الجزئية.
2ــ وظيفة «الاستخبار»، وتُعنى باستجلاب المعلومات، واكتشاف وتوقع الفرص، والعقبات، والتحديات، والتهديدات.
3ــ وظيفة «التشغيل»، وتتضمن تخصيص الموارد، ومتابعة العمل.
4ــ وظيفة «التنسيق» بين أجزاء المنظومة.
5ــ متابعة قيام المنظومات الأدنى بالوظائف الأربعة السابقة.
وتظل القوامة المنظومية متمتعة بالقدرة على المساهمة فى تطوير الشأن العام، طالما تستمر منظومات المجتمع (أى كياناته ومؤسساته، من الأفراد إلى قمة الدولة) فى الحفاظ على وجودياتها، وفاعلياتها، وممارسة تطورها الذاتى، بالتجدد والإبداع.
من جانب آخر، إذا ما تعرضت المنظومة لخلل، فإن استمرارية الخلل، دون علاج، تعنى وجود شواش فى العلاقات المنظومية. مع تواصل استمرار الشواش تمرض المنظومة وتسود «اللامنظومية». ومع استفحال اللامنظومية تتدهور قدرات المنظومة على ممارسة مهامها (الخمسة)، مما يُضعف مخرجاتها ويُهدر قيمتها.
بمعنى آخر، مع تفاقم اللامنظومية ترجع المنظومة إلى الوراء (سواء هى إنسان، أو جماعة مدنية، أو مؤسسة، أو دولة). حينئذ، يتغلغل التشابك الرجوعى إلى الوراء فى الأوضاع الحياتية. ومع استمرار ذلك تتلاشى عموم فرص التقدم المجتمعى.
عندها، تتأرجح أحوال المجتمع ما بين العشوائية والعشوءة (أى العشوائية المقصودة)، فيتدهور «الشأن العام» وتتهاوى أركانه. ومن ثم، تهيمن المصالح الخاصة، وينتكس التقدم، ويصبح الحاضر أسوأ من الماضى، بينما الزمن يمضى.
ب) استفحال المرضيات المجتمعية المزمنة:
تتضمن المرضيات المزمنة، فى عموم مجتمعات الجنوب، الفقر والجهل والمرض. علاج هذه الحالات يكون مرهونا بالرغبة المنظومية على إنهاء حالة «الانغلاق المجتمعى» (والتى تترعرع فيها المرضيات المزمنة)، والتحول إلى الانفتاح على المستقبليات. من هنا تأتى الحاجة للولوج إلى المعرفة، وإلى رفع منسوبها، وتنشيط حركيتها.
وعليه، يحتاج التغلب على المرضيات المزمنة إلى تحقيق قدر من التلازم بين حركية المعرفة مع حركية الزمن. وأما تَعَرْقُل الولوج إلى المعرفة، وبالتالى غياب التلازم بين حركية المعرفة وحركية الزمن، فمعناه استدامة دوامات المرضيات المزمنة. عندها، يتواصل الغرق فى المكان، ويتهاوى «الشأن العام»، بينما الزمن يجرى.
فى هذا الصدد، توجد نماذج لاجتهادات ناجحة فى القضاء على المرضيات المزمنة، مثل ما جرى، أو يجرى، فى سنغافورة وماليزيا وكوبا والبرازيل.
ج) الاستكانة للتحديات:
عندما تتوافر الإرادة المجتمعية للخروج من حالة الانغلاق ينطلق المجتمع (منظوميا) إلى ممارسة التقدم الذاتى.
من أهم أدوات هذه الممارسة تأتى أنشطة الاستخبار (المنظومى)، والحركيات المعرفية، بخصوص «استشراف التحديات»، والترتيب للتعامل معها، سواء بالاستيعاب، أو التصدى، أو التعبئة.. إلخ.
وفى المقابل، عندما تتدنى المنظومية وتتضاءل الحركيات المعرفية، تغيب القدرات على توقع التحديات، والتى تتراكم وتتعملق. عندها، بمرور الزمن، يؤدى تفاقم التحديات إلى غلق المستقبليات.
ومع انغلاق المستقبليات تنحصر إمكانات الكيانات المجتمعية فى إعادة تدوير أسباب ضعفها، مثل سوء اختيار القيادات، والاتباعية، والخضوع للفساد وللمصالح الخاصة.
وبمضى الوقت تتدهور ــ أكثر وأكثر ــ أوضاع المجالات المجتمعية الحيوية، مثل الاقتصاد، والأمن، والعدالة، فيتعرض الناس إلى تزايد الانتهاكات.
عندئذ، تنشأ وتتفاقم ظواهر على غرار الهجرة إلى الخارج، والاغتراب فى الداخل.
فى هكذا مسار، يُفتقد الحس بحركية الزمن، حيث يضعُف «الشأن العام»، وتتحول المستقبليات إلى ضبابيات.
د) الاستخدام التنفيسى للفيسبوك:
بينما للوسائط الاجتماعية، خاصة الفيسبوك، مميزات كبرى فى التواصل بين الناس، إلا أنه فيما يتعلق بالشأن العام، وبالذات فى بلدان الجنوب، يحتاج الأمر إلى تمحيص.
الحقيقة أن بلدان الجنوب، فى عمومها، تعج بمشكلات وإشكاليات حياتية متنوعة يمكن رصدها ومتابعتها من خلال صفحات الفيسبوك. الفائدة الأكيدة للفيسبوك هنا تتعلق بنقل وتبادل المعلومات، والأسئلة، والرؤى، والإجابات.
من جانب آخر، عندما يُستخدم الفيسبوك فى ممارسة النقد بخصوص مشكلات مجتمعية، فى مجالات عامة، مثل التعليم والإدارة والاقتصاد والسياسة والأمن.. إلخ، فإنه قد يظل مفيدا بالنسبة لتبادل وجهات النظر، أما بخصوص المواجهة، والتوصل إلى حلول، فالأمر يختلف.
الإشكالية هنا أنه عند استمرار النقد ــ الفردى ــ على الفيسبوك، برغم عدم صدور تفاعل إيجابى من السلطات بشأن المشكلات المطروحة، تتحول المواجهة إلى مجرد «كلام فى المكان». ذلك أن الزمن يمر بينما الكلام يظل ساكنا فى مكانه على صفحات الفيسبوك.
استمرارية هذه الظاهرة لا تعنى أكثر من وجود رؤى فردية SOLO بخصوص موضوعات قد تكون على درجة عالية من الأهمية المجتمعية. هنا، قد تتعملق الإشكالية عند استخدام الفيسبوك كمنصة لإصدار ما يشبه بيانات سياسية «فردية».
لهكذا إشكالية أربعة أوجه. أولا، ندرة الاستجابة من جانب الجهات المسئولة لهكذا تناولات فردية لمشكلات مجتمعية. ثانيا، أن الأبعاد المجتمعية للمشكلات تحتاج لتعاملات جماعية (من كيانات العمل الأهلى و/ أو مجموعات الخبراء و/ أو الأحزاب السياسية)؛ حيث يكون للأفراد أدوارهم فى فرق عمل، تماما كأدوار العازفين ضمن أوركسترا موسيقى. ثالثا، أن تواصل استمرار الأفراد فى تناولاتهم الفردية على الفيسبوك برغم عدم وجود استجابات إنما قد يعنى، من الناحية العملية، التهرب من تحمل مسئولية المواجهة المنطقية من خلال التفاعل الجماعى عبر فرق عمل، وقد يعنى أيضا التستر خلف بوستات الفيسبوك من أجل إقناع زائف للذات بأداء الواجب (تجاه المشكلة أو تجاه المجتمع). أما الوجه الرابع للإشكالية فيختص بما يمكن وجوده من تقاعس وجمود، و/ أو قصور، و/ أو مصالح، من جانب الأجهزة الحكومية، بخصوص بحث المشكلات والتفاعل الإيجابى معها.
وهكذا، تتمثل الإشكالية فى كثرة البيانات الفردية (أى الـ SOLO) سياسية الشكل، مع غيبة أوركسترات المعزوفات الجماعية، والتى يمكن أن تكون أكثر تكاملا، ووضوحا، وتأثيرا، فى الحفاظ على «الشأن العام». وعليه، يتحرك الزمن بينما يظل الشأن العام فى ركود.
• • •
إجمالا، يمكن القول بأن مظاهر الرجوعية، التى ذُكرت أعلاه، والتى هى بطبيعتها معاكسة لحركية الزمن، تجعل من الشأن العام «خرابة»، يغرف منها المرتزقة، سواء من داخل البلاد أو من خارجها.
معالجة هكذا وضع «مزمن» تستدعى الكشف المنهجى لتضاريس الشأن العام، والتعرف على نواقصه.
خبير صناعة الأدوية ورئيس هيئة الرقابة الدوائية السابق
الاقتباس
يحتاج التغلب على المرضيات المزمنة إلى تحقيق قدر من التلازم بين حركية المعرفة مع حركية الزمن. وأما تَعَرْقُل الولوج إلى المعرفة، وبالتالى غياب التلازم بين حركية المعرفة وحركية الزمن، فمعناه استدامة دوامات المرضيات المزمنة. عندها، يتواصل الغرق فى المكان، ويتهاوى «الشأن العام»، بينما الزمن يجرى.