خرجت الصحافة فى يوم الخميس 22 سبتمبر بعناوين عن فاجعة جديدة وقعت على بعد مئات الأمتار من سواحل محافظة كفر الشيخ. الفاجعة اعتبرت تارة «كارثة إنسانية على سواحل مصر» وتارة أخرى عملية اغتيال ارتكبها «حلم الهجرة». التقارير الصحفية المنشورة عن هذه الفاجعة أشارت إلى أن القتلى تعدوا الأربعين والغرقى فاقوا المائة وأنهم من جنسيات مختلفة، ففضلا عن المصريين، كان من بينهم سوريون وسودانيون، وصوماليون، وإيرتريون وأن الزورق الذى غرق بهم كان يحمل أفرادا أكبر عددا بكثير عن حمولته المفترضة فضلا عن أنه كان أصلا زورقا متهالكا.
غير أن قارئ هذه التقارير يجد أيضا إشارات إلى أن الضحايا كانوا فى «محاولة جديدة للهجرة غير الشرعية»، وإلى أنه «تم التحفظ على الناجين لاتخاذ الإجراءات القانونية ضدهم لقيامهم بالهجرة غير الشرعية»، وإلى أنه «تم إرسال مشروع قانون بشأن مكافحة الهجرة غير الشرعية وتهريب المهاجرين إلى مجلس النوّاب»، وهو ما يفهم منه سنّ الأساس القانونى لمكافحة الهجرة غير الشرعية وتهريب المهاجرين باعتبارهما جريمتين.
فى مناسبة سابقة، أشير فى هذه المساحة إلى أن من يطّلع على مشروع القانون يكتشف أنه ينصب على مكافحة تهريب المهاجرين وليس على الهجرة المسماة «بغير الشرعية»، وهو خيرا يفعل بذلك. ليس مستحبّا تكرار ما ذكر فى مناسبة سابقة ولكن الفاجعة الجديدة، وهى لن تكون الأخيرة، فرصة لتناول ثلاثة جوانب فى المأساة التى يكشف عنها الغرق المتكرر للمهاجرين فى البحر المتوسط وبالقرب من سواحله.
***
المراقب يتساءل عن الأسباب التى تدعو الدولة التى كانت أول من صدّق على «الاتفاقية الدولية لحماية جميع العمال المهاجرين وأفراد أسرهم»، وهى مصر، إلى الإصرار فى قوانينها وسياساتها ومؤسساتها على استخدام مصطلحى «الهجرة غير الشرعية» و«المهاجرين غير الشرعيين» للدلالة على أولئك المهاجرين الذين لم يؤذن لهم «بالدخول والإقامة ومزاولة نشاط مقابل أجر فى دولة العمل بموجب قانون تلك الدولة» حسب ما يرد فى نص الاتفاقية. تصرّ الدولة على أن تلوك بهذا المصطلح حتى فى قانون لا يتعلّق بهذه الهجرة أساسا وإنما بتهريب المهاجرين كما أشير إليه أعلاه.
هؤلاء المهاجرون فى نظر الاتفاقية «يعتبرون غير حائزين للوثائق أو فى وضع غير نظامى»، ولذلك فلقد اصطلح على تسميتهم «بالمهاجرين غير النظاميين». يلاحظ أن الاتفاقية اقتصرت على النظر إلى هؤلاء المهاجرين من منظور الدول المستقبلة والتى لم تأذن لهم بدخولها أو ممارسة نشاط فيها، وهى تدعو إلى أن تعتبرهم هذه الدول «فى وضع غير نظامى» وليس «غير شرعيين»، لأن المشرع الدولى اعتبر أن «غير شرعيين» مصطلح فيه تجريم لهؤلاء المهاجرين ولعملية هجرتهم، والاتفاقية تنص بوضوح على أن هذا النمط من الهجرة، أى الهجرة غير النظامية، ليس جريمة. الأغلبية العظمى من نفس الدول المستقبلة التى تتعرّض لأن يدخلها مهاجرون أو يقيمون أو يزاولون نشاطا فيها بغير إذن منها أصبحت تأخذ بهذا المصطلح.
المشرِّع الدولى لم يلتفت أصلا إلى الظاهرة من منظور دول المنشأ. لم يعتبر المشرع الدولى أن دولة ما يمكن أن تعتبر مواطنيها «مهاجرين غير شرعيين»، ناهيك عن مواطنين لدول أخرى، قد يمكن أن تحاسبهم على دخولهم إقليمها بغير إذن، ولكن كيف يمكن لها أن تحاسبهم على مغادرتها بعد ذلك بدون إذن أيضا وهم الذين لا يفترض فيهم الوجود فى إقليمها أصلا؟ بالمناسبة، لا توجد دولة منشأ واحدة سواء كانت المكسيك، أو الفلبين، أو الهند، أو السنغال، أو المغرب، أو تونس أو غيرها تطلق مصطلح «المهاجرين غير الشرعيين» على مواطنيها.
***
تفسيران ممكنان للإصرار على استخدام المصطلح. الأول هو أن الدولة تريد أن تكون أى حركة للمجتمع أو للأفراد بتصريح منها وأنه بخلاف ذلك تكون أى حركة جريمة. فى صحيفة من الصحف، ومع التقرير عن فاجعة سواحل كفر الشيخ، نبأ عن إحباط محاولتين«للهجرة غير الشرعية» فى محافظتى مطروح والبحيرة. لاحظ مصطلح «إحباط» وكأنك بصدد استباق جناية سترتكب! كان يمكن للجهة التى نقلت الصحيفة الخبر عنها أن تقول أنها أنقذت مشروع مهاجرين من براثن المهربين أو حتى أنها أحبطت محاولة لتهريب المهاجرين لأن تهريب المهاجرين جريمة بالفعل! هل يمكن أن يوجد تفسير آخر للتحفظ على ناجين من الموت غرقا والأدهى من ذلك اتخاذ إجراءات قانونية ضدهم؟
التفسير الثانى الذى يهتدى إليه المراقب إصرار الدولة على استخدام المصطلح يتعلق بالمواطنين تحديدا. ركوب الصعب وتعريض النفوس للهلاك تطلعا إلى عيشة أفضل يكشفان عن صعوبة الحياة فى البلاد وعن تقصير الدولة فى حق المواطنين، وهو ما لا تقبل الدولة بالكشف عنه أبدا وتحرص على إخفائه، وكأنما يمكن إخفاء الحقيقة إلى ما شاء الله! يبدو هذا سببا جوهريا لحرص الدولة على تجريم هذا النمط من الهجرة وغضبها على من يمارسونه. تفعل الدولة فى مصر وفى غيرها خيرا بأن تكافح مهربى المهاجرين والمتاجرين فى البشر الذين يروح الآلاف ضحايا لهم سنويا، ولكن الخير سيكون أوقع ونتائجه أعمّ لو أن الدولة عنيت بالسياسات الاقتصادية والاجتماعية المنتجة والعادلة التى توفر فرصا لعمل لائق بالبشر وترفع مستوى المعيشة للمواطنين.
***
هكذا نصل إلى الجانب الثانى الذى تدعو المأساة إلى تناوله بالتحليل. الدولة بتمسكها بالمنهج الأمنى، باعتباره سيحفظ لها صورة بهية ويخفى ما يشوهها، تبدد فرصا هائلة للحصول على معلومات تساعدها على رسم السياسات الكفيلة فعلا بأن تضطلع هى بوظائفها بكفاءة. بدلا من «التحفظ على الناجين من الموت واتخاذ الإجراءات القانونية ضدهم»، كان من الأجدى، فى هذه الحالة وفى كل الحالات الشبيهة، جمع بيانات من الناجين عن أعمارهم، وحالاتهم العائلية، وأسرهم، ومؤهلاتهم الدراسية، ومهنهم، وخبراتهم السابقة فى العمل، وعن أسواق العمل المحلية فى المناطق التى يعيشون فيها بما تشمله من طلب على العمل وأجور ودخول وغيرها من شروط العمل وظروفه. والأهم من ذلك، بعد جمع البيانات إتاحتها لصنّاع القرار الاقتصادى والاجتماعى، والتشغيلى تحديدا، وتوفيرها للباحثين لكى يجتهدوا فى تحليل العلل فى أسواق العمل واقتراح بدائل السياسات كل من منظوره.
الحاصل هو أن الدولة لا تجمع البيانات السكانية والاقتصادية والاجتماعية ولا هى تسمح لمؤسسات البحث والباحثين بأن يجمعوها ويحللوها لكى تستفيد بها السياسات العامة، تلك التى لا يضطلع بها غير الدولة نفسها! الدولة تحرم نفسها من أسباب تقدم ولو نسبى فيما ثبت تعذره عليها. حتى النعامة تدفن رأسها فى الرمال ولكنها ترفعها بعد ذلك!
***
الجانب الثالث الذى تكشف عنه الفاجعة هو أن أسباب مقامرة الناس بحياتهم عديدة فى منطقتينا العربية والإفريقية القريبة منّا، فى سوريا وفى القرن الإفريقى، وهى تتعدّى الأسباب الاقتصادية المباشرة وحدها. بخلاف المصريين، ضحايا زورق كفر الشيخ من سوريا، والصومال، والسودان، وإريتريا، أى أن أسبابهم تتراوح درجات بين الحرب الأهلية، وانهيار الدولة، وفشلها، والحكم الاستبدادى. هذه الأسباب تتفاعل فى إقليم كل من هذه الدول ولكن نتائجها تصدّر إلى غيرها من الدول فى داخل مناطقها ثم إلى أبعد منها. فى كل هذه الحالات يبدو جليا أن الحكم الاستبدادى، وهو أولى الدرجات، هو الآفة التى تصيب الدول فتفشل فى أداء وظائفها ثم تنهار وتنشب فيها حرب أهلية أو تتفتت، ما يؤدى إلى أن يصدرّ عنها مواطنوها، لاجئين أو مهاجرين، سعيا عن حياة كريمة فى دول يتوسمون فيها الرخاء أو هى على الأقل ما زالت سليمة. جل المهاجرين واللاجئين الهاربين من الاستبداد ونتائجه، ضحايا المهربين والمتاجرين فى البشر على زوارقهم المتهالكة، من أصحاب الدخل المنخفض إن لم يكونوا ممن صاروا فقراء. ليس الأغنياء من يعانون من الاستبداد وتبعاته وإنما هم الفقراء ومنخفضى مستوى الدخل، ولذلك فإن هؤلاء أول المستفيدين من الديمقراطية، وإن كان ثمة إصرار فى بعض الدوائر على إشاعة غير ذلك.
ليس حلم الهجرة الذى اغتال ركاب الزورق أمام سواحل كفر الشيخ. الحلم بحياة كريمة لا سبيل لهم إلى بلوغها فى أوطانهم هو الذى أودى بهم إلى المقامرة بحياتهم.