العمل الجامعى بين التبشير والترهيب وسمعة الدولة! - أحمد عبدربه - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 8:29 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

العمل الجامعى بين التبشير والترهيب وسمعة الدولة!

نشر فى : السبت 24 سبتمبر 2022 - 8:00 م | آخر تحديث : السبت 24 سبتمبر 2022 - 8:00 م
أثار منطوق أحد أحكام القضاء الإدارى فى مصر أخيرا بخصوص تأييد عزل إحدى أساتذة الجامعة الكثير من الجدل فى الأوساط الجامعية، وكذلك الكثير من النقاشات على مواقع التواصل الاجتماعى حول مفاهيم الحريات الأكاديمية والحريات الشخصية المتعلقة بأساتذة الجامعة وباحثيها وباحثاتها، وكذلك بمفاهيم أخرى مرتبطة مثل طبيعة العمل الأكاديمى والمساحة الفاصلة بين الحياة الخاصة والحياة العامة، فضلا عن مفهوم جديد شديدة العمومية مثل مفهوم «سمعة الدولة»... إلخ.
تعود القضية إلى عام ٢٠١٨ حينما قامت جامعة قناة السويس بفصل الأستاذة الجامعية بكلية التربية منى البرنس بعد تحقيقات استغرقت أكثر من عام بسبب ما نسب إليها من فيديوهات رقص نشرتها الأستاذة المذكورة على صفحتها على موقع التواصل الاجتماعى «فيس بوك»، فضلا عن مخالفات أخرى متعلقة بمحتوى مقرراتها الأكاديمية وما نسب إليها من مجموعة آراء اعتبرتها الجامعة منافية للأديان السماوية وسب للذات الإلهية، ورغم أن الأستاذة الجامعية قد نفت الإساءة للذات الإلهية، كما أكدت أن فيديوهاتها الراقصة تتعلق بحياتها الشخصية ولا تتعارض مع دورها كأستاذة داخل قاعات المحاضرات، إلا أن الجامعة قررت عزلها!
وبعد تقاضٍ استمر نحو ٤ سنوات، انتهى بإصدار حكم نهائى من المحكمة الإدارية العليا منذ أيام قليلة بتأييد الحكم الصادر من محكمة القضاء الإدارى بعزل الأستاذة المذكورة ورفض الطعن الذى تقدمت به الأخيرة!
وطالما أن الحكم الأخير هو حكم نهائى وبات، فيكون من واجبى هنا احترام سلطة القضاء وفى نفس الوقت يكون دورى باعتبارى أستاذا جامعيا وباحثا وكاتبا هو تناول منطوق الحكم وحيثياته دون أن يتعارض هذا مع ذاك، ذلك أن اشتباكى فى هذه السطور لا يقتصر على قضية الدكتورة المذكورة، ولكنه يمتد إلى قضية أوسع تتعلق بالحريات الأكاديمية والشخصية وتأثيرها على تطور العلم فى بلادنا.
• • •
من المستقر عليه فى الأعراف الأكاديمية أن هناك فصلا تاما بين المساحة العامة والمساحة الخاصة طالما أن الأخيرة لا تؤثر على الأولى! فعلى سبيل المثال، ما ينشر على صفحات التواصل الاجتماعى الخاصة بالأستاذة أو الأستاذ الجامعى من آراء أو مواقف من قضايا عامة أو صور شخصية أو فيديوهات خاصة لا يجب أبدأ أن يحاسب عليه داخل الجامعة طالما أن ذلك لم يخالف القانون أو الدستور أولا ولم يؤثر على دوره فيما يتعلق بأبحاثه، أو طلابه، أو بأدواره الإدارية، أو القيادية ثانيا! وإذا كان هناك مخالفة قانونية تم ارتكابها خارج الإطار الأكاديمى فإن المحاسبة تكون بالأساس محاسبة قانونية من جهات التحقيق المختصة لا محاسبة إدارية من الجامعة! أما إذا كانت هذه المخالفات المنسوبة إلى الأستاذة الجامعية أو الأستاذ الجامعى تمت خارج إطار الجامعة، ولكن لها تبعات مباشرة على أدواره داخل الجامعة، فهنا تتداخل التحقيقات القانونية مع التحقيقات الإدارية!
فعلى سبيل المثال، إذا ما تم اتهام أستاذ الجامعة بالتحرش بإحدى طالباته أو إحدى زميلاته، فحتى لو كان هذا التحرش تم خارج حدود الجامعة، فتبقى الأخيرة ــ ضمن جهات أخرى غير أكاديمية ــ مختصة بالتحقيق والمحاسبة، وهكذا لو تعلق الأمر بفساد إدارى أو أكاديمى سواء تمت الوقائع داخل الحرم الجامعى أو خارجه!
وفى الحالة المذكورة، فإن الأستاذة الجامعية لم تعرض فيديوهاتها الراقصة على الطلبة فى قاعات المحاضرات، ولم يثبت عليها أبدا أنها تحرشت أو ابتزت أو حتى دعت الطلاب والطالبات إلى مشاركتها الرقص، كما أن نشرها لصور بلبس البحر «المايوه» أمر خاص بها فهى لم تذهب إلى الجامعة بهذا الزى ومن ثم وسواء اتفقنا أو اختلفنا مع السلوك أو اللبس فطالما أن ذلك تم فى المساحة الخاصة ولم يتعارض مع القانون أو الدستور، فإن محاسبتها عليه داخل الجامعة هو أمر غير مفهوم ويتعارض مع حرياتها وحقوقها الدستورية، ويعد تدخلا من قبل جهة عملها فى حياتها الخاصة!
• • •
أما الحديث عن أن تلك التصرفات والاختيارات الخاصة بها تضر بسمعة الدولة فهذا أمر جديد على مسمعى ولم يسبق لى أبدا أن شاهدت واقعة مماثلة يتم اتهام أستاذ جامعى فيها بالإساءة لسمعة الدولة بسبب تصرفات متعلقة بمساحته الخاصة! والحقيقة أن مفهوم «سمعة الدولة» على عموميته وغموضه فى الكثير من الأحيان إلا أنه يمكن تفهم أن أمورا مثل انتشار الفساد، أو انتهاكات حقوق الإنسان، أو غياب الديموقراطية، أو انتشار سلوكيات منحرفة مثل التحرش الجنسى أو الاغتصاب أو النصب على السياح هى من الأمور التى قد تؤثر بالفعل على «سمعة الدولة»! أما أن يكون فيديو راقص أو زى خاص بصاحبه أو صاحبته يضر بسمعة الدولة، فهذا أمر مستغرب بالفعل!
فمن حيث المبدأ، أستاذة أو أستاذ الجامعة لا يمثل الدولة على أى مستوى رسمى، فهو ليس مسئولا رسميا بالدولة كأن يكون وزيرا مثلا، كما أنه لا يمثل الدولة رسميا أمام أى محافل دولية سياسية أو دبلوماسية، كأن يكون سفيرا أو مبعوثا رسميا لإحدى الدول أو المنظمات الدولية! ومن ناحية أخرى فتصرفات أستاذ الجامعة فى حياته الخاصة ــ بل وحتى فى حياته العامة ــ إن أساءت لأحد، فهى لا تسىء إلا له على المستوى الفردى لأنه لا يمثل إلا نفسه! ولا يمكن أبدا تصديق أن فيديو راقصا أو زى بحر خاصا بأستاذة جامعية سيلحق ضررا بسمعة مصر فى الخارج بأى حال من الأحوال!
أما المحور الثانى المتعلق بالقضية المذكورة فهو تأييد حكم عزل الأستاذة المذكورة بسبب ما وصف أنه إساءة للذات الإلهية ونشر البلبلة بين الطلاب والطالبات والقول إن حرية الاعتقاد مكفولة طالما ظلت «حبيسة فى النفس» وهى الجملة الأكثر غرابة وتناقضا على الإطلاق فى الحكم المذكور! فمن ناحية أولى، فقد نفت الأستاذة الجامعية فى أكثر من مرة أنها أساءت للذات الإلهية، وقد كررت النفى فى التحقيقات الرسمية الخاصة بالجامعة، ومن ناحية ثانية، فإن آراء الأستاذ الجامعى أو الأستاذة الجامعية داخل قاعات الدرس مهما كانت لا يمكن أبدا اعتبارها دعوة للبلبلة أو التأثير على أفكار الطلاب والطالبات، لأن العمل الأكاديمى ليس عملا تبشيريا يراد به الدعوة إلى اعتناق فكرة أو الكفر بأخرى، ولكنه عمل نقدى إبداعى بالأساس يعلم الطلاب والطالبات كيفية التفكير والنقد والتفنيد لا كيفية الحفظ والتلقين ومن ثم الاعتقاد أو عدم الاعتقاد فى فكرة ما سواء كانت تتمتع بقدسية فى المجتمع أم لا!
فعلى سبيل المثال، لا يحق للأستاذة أو الأستاذ الجامعى أن يسب الأديان أو المعتقدات أو أن يقوم بالتمييز بين الطلاب والطالبات بناء على العرق، أو اللون، أو الدين، أو الجنس، أو الحالة الاجتماعية، وإن فعل، فيكون عرضة للمساءلة! أما أن يقوم الأستاذ الجامعى بالتعبير عن رأيه بشكل أكاديمى، أو أن يقوم بتدريس نص ينقد رجال الدين أو بعض النصوص الدينية أو يتعرض بشكل درامى أو أدبى لقصة دينية أو رمز دينى، فهذا من صميم العمل الأكاديمى، لأن الغرض هنا هو عرض مساحات مختلفة من الاجتهادات العلمية والطرق البحثية على الطلاب والطالبات وما يحدثه ذلك من تطوير مهاراتهم البحثية والنقدية ولا يجوز بأى حال من الأحوال أن يتم اعتبار ذلك بلبلة لعقولهم أو محاولة لتغيير معتقداتهم، فالطلاب والطالبات أحرار فى تقبل النصوص أو نقدها أو رفضها، ولكنهم ليسوا أحرارا فى رفض المعرفة المتعلقة بها أو إجبار الأستاذة أو الأستاذ الجامعى أن يتوقف عن تدريسها، لأن الأخير إن فعل هذا فسيكون هذا بعينه هو التقصير فى حق العلم وفى حق الطلاب والطالبات!
فى الكثير من الدول الغربية التى يدين معظم سكانها بالمسيحية مثلا، توجد كليات لاهوتية تقوم بالتعرض للنصوص الدينية بشكل علمانى «غير دينى» وبأساليب علمية منهاجية، وقد يتطلب ذلك الاشتباك الأدبى أو المجازى أو الفعلى مع كتابات تنقد بعض النصوص أو المعتقدات المسيحية أو تشتبك معها، فهل يعنى ذلك ضرورة غلق هذه الكليات أو عزل أساتذتها تحت دعوى بلبلة عقول الطلاب والطالبات؟!
• • •
إذا أردنا احترام العلم فى بلادنا، فلابد من احترام البحث العلمى وما يتطلبه الأخير من مهارات أكاديمية متنوعة من مثل النقد والمقارنة والتحليل والتفسير وما يتطلبه ذلك كله من توفير بيئة آمنة لأستاذة وأستاذ الجامعة للقيام بمهامه دون خوف أو ترهيب، فقاعات وفصول التدريس فى الجامعة لا ينبغى التعامل معها على أنها معسكرات للحفظ والتلقين أو مؤسسات تعبئة لنشر أفكار بعينها أو رفض أخرى، كما يجب الحفاظ على طبيعتها العلمانية، وإلا فلنقيل أساتذة الجامعات ونستعين عوضا عنهم بالقادة الأمنيين والسياسيين والمشايخ ورجال الدين!
أحمد عبدربه أستاذ مشارك العلاقات الدولية، والمدير المشارك لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة دنفر