من حق قوى التقدم في أمريكا أن تحتفل باعتلاء باراك حسين أوباما رأس السلطة في الولايات المتحدة، لأن في ذلك انتصار لقيمة المساواة بين البشر بغض النظر عن اللون أو الأصل.
والحقيقة أن اللون الأسود للرئيس أوباما ليس إلا تعبيراً شكلياً وتلخيصاً رمزياً لتطلعات جماعات أمريكية مهمشة سياسياً واقتصادياً عانت أشد المعاناة من حكم اليمين المحافظ الذي وصل إلى حافة الجنون حين اختار جورج بوش ليكون عنواناً لبرنامجه.
صحيح أن وصول أوباما إلى الرئاسة لن يعني بالضرورة الخلاص من التهميش والاستغلال والظلم في أمريكا، لكنه يعني بالتأكيد أن ملايين الامريكيين عازمين على النضال من أجل بناء مجتمع جديد، وأن هؤلاء مستعدين لدفع ثمن التقدم، والدليل على ذلك أن مئات الالاف من الشباب تطوعوا في حملة أوباما، فكتبوا ملايين الرسائل على الإنترنت وعلى الفيس بوك، وطرقوا أبواب الملايين من الناس في عقر دارهم لكي يناقشوهم ويقنعوهم بجدوى التصويت للمرشح الديمقراطي.
من حق قوى التقدم في أمريكا أن تطلق صيحات النصر في يوم تنصيب أوباما. ومن حق التقدميين في مصر أن يشعروا بالغيرة بعد مشاهدة حفل التنصيب، من حقهم يذهبوا للنوم وهم سكارى بالحلم، ومن حقهم أن يشاهدوا في الحلم حفل تنصيب حسين أوباما المصري، لكي يستيقظوا اليوم التالي مفعمين بالامل ومشبعين بطاقة روحية صلبة تعينهم على العمل من أجل الخلاص من الظلم والاستغلال والتهميش في وادي النيل. لكي يكتمل الحلم يجب أن يتجسد في صور حية.
أليس الحلم رؤية؟ فما هي صورة أوباما المصري؟ حتما هو لا يشبه حسين فهمي، ولا يشبه أحمد عز الممثل، فالجمال الغربي هنا ليس له محل من الاعراب. ربما يشبه أحمد زكي بملامحه السمراء. لكن السمار الشديد هنا ليس في الحقيقة تعبيراً رمزياً عن القطيعة مع الماضي، لأن نصف رؤسائنا - محمد نجيب وأنور السادات - كانوا من السود.
أفتش في ذهني عن أحد الوجوه المعروفة فتزداد حيرتي. هل اختار خالد الصاوي؟ له وجه معبر جداً لكن ملامحه صارمة، ناهيك عن أنه قام بتمثيل دور عبد الناصر، والرئيس الذي أحلم به لا يشبه عبد الناصر في شيء تقريباً، فأنا لا أحلم بمستبد عادل جديد. ماذا عن وجهي أحمد حلمي أو أشرف عبد الباقي؟ ماشي، قد يشبه هؤلاء بوجوههم المصرية العادية جداً وابتساماتهم العذبة وسخريتهم اللذيذة غير الجارحة.
أوباما المصري هو ابن أحد الجماعات المظلومة سياسياً. فمن هي الجماعات المهمشة سياسياً في مصر؟ هي في الحقيقة كثيرة، كل الجماعات المصرية ما دون البيرقراطية العليا (خاصة جناحها العسكري) ورجال الأعمال المرتبطين بها والذين يتم افساح المجال لهم بشكل متزايد.
والدليل على ذلك أن كل التخمينات الخاصة بشخصية الرئيس الجديد لنظام يوليو تدور حول مرشحين اثنين يمثلان الجماعتين السائدتين سياسياً في مصر اليوم.. الأول هو ضابط من الجيش غير معروف حتى الآن، والثاني معروف، هو رجل أعمال ابن ضابط كبير.. أقصد جمال مبارك.
أوباما المصري سيكون ابن أحد الجماعات المظلومة اقتصادياً، ابن لجماعة الشغالين العرقانيين الذين لا يحصلون على عائد عادل مقابل القيمة التي ينتجونها، سواء كانوا أطباء أو مدرسين أو مهندسين أو عمال أو فلاحين أو فنانين أو ضباط شرفاء. أوباما المصري لن يكون بالطبع مضارباً في البورصة، ولن يكون حتماً مجتهداً ونشيطاً في تسقيع الأراضي وبيعها.
باختصار لن يكون من أصحاب الدخول الريعية، الدخول التي تأتي دون عمل منتج للقيمة. أوباما المصري هو أيضاً ابن أحد الجماعات المظلومة جغرافياً، فهو ابن لمنطقة شعبية أو مواطن ولد في أحد مدن الصعيد النائية، أو ابن مخلص لسيناء التي لم تعد بشكل كامل إلى حضن الوطن الأم حتى هذه اللحظة. هو ابن لأحد الأقليات الدينية كالمسيحيين مثلاً أو ابن لأحد الأقليات الثقافية كالنوبيين أوالبدو. أوباما المصري ربما يكون سيدة، تعيد للمرأة المصرية مجدها القديم الذي تجلي في اسطورة الالهة ايزيس كما تجسد في اعتلاء الملكة نفرتيتي عرش أقدم دولة في التاريخ.
أوباما المصري سيكون ابن مخلص لأحد الجماعات المظلومة، لكنه اخلاصه لن يقتصر على الجماعة الصغيرة التي حكم عليه القدر أن يكون ابنا لها. هو بالطبع لن يخون جماعته، فمن ليس له خير في أهله وجيرانه وزملائه في العمل وأصدقائه ليس له خير في أي جماعة أكبر. في الحقيقة سيكون انتمائه لجماعته الصغيرة مدخله للاحساس والتعاطف مع كل الجماعات الصغيرة المهمشة التي تتضافر لكي تمثل الأغلبية الساحقة لشعب مصر. أوباما المصري مرشح كل المظلومين وهو رمز لتحالفهم من أجل انتزاع السلطة السياسية من الطغاة والمستبدين والمستغلين.
لا سياسة بدون حلم. السياسة المصرية عقيمة اليوم لأن القائمين عليها مكتئبون، فاقدون للامل، قابلون بالوضع القائم المزري بحجة الواقعية. ولكن لا سياسة أيضاً بدون عمل شاق وخلاق. إذا كان لقوى التقدم في أمريكا أن ترفع رأسها اليوم فذلك لأنها عملت باخلاص لبناء تحالف تقدمي وجد في باراك أوباما عنواناً له.
فما الذي يمنع المصريين من بناء تحالف التقدم؟ أشياء كثيرة يكفي أن نذكر منها اليوم فكرة عقيمة وهي انتظار "المشروع القومي" الذي سيلتف الشعب كله حوله. المشروع القومي الوحيد الذي يمكن أتخيله اليوم هو محصلة جمع مشروعات الجماعات المشكلة لمصر، والتي تخلتف احتياجاتها عن بعضها البعض ولكن لا تتناقض بالضرورة. من مشروع الحصول على أجر عادل ومنزل أدمي، إلى مشروع الحصول على تعليم جيد، إلى مشروع التحرر من التمييز والتفرقة على أساس الأصل الاجتماعي أو الدين أو الجنس، إلى مشروع دعم نضال الشعب الفلسطيني من أجل الحرية، إلى مشروع النضال ضد الامبريالية وقهر الشعوب إلى مشروع بناء نظام سياسي جديد حر وديمقراطي.
فلتتعدد ولتتنوع المشروعات "القومية"، وليجلس أصحابها أو من ينوب عنهم على مائدة مستديرة لكي يلخصوها في كتاب واحد. هكذا نبني التحالف الذي سيرفع حسين أوباما المصري إلى السلطة، هكذا سنحتفل يوماً في ميدان التحرير بتنصيب أول رئيس منتخب بشكل حر في تاريخ وادي النيل.