قبل أسبوعين، تمكنت الصين من مفاجأة المجتمع الدولى بالإعلان عن وساطة للسلام بين السعودية وإيران الخصمين الأبرز فى الشرق الأوسط، ورغم أن هذا السلام لم يتحقق بعد، لكن مجرد الإعلان عنه من بكين كان تعبيرا صريحا عن تغيرات واسعة فى الدبلوماسية الصينية فى الشرق الأوسط! ثم وبعد أيام قليلة من ذلك الإعلان الهام، قام الرئيس الصينى شى جين بينج بزيارة هامة إلى موسكو التقى خلالها بالرئيس الروسى فلاديمير بوتين استمرت لثلاثة أيام أعلن خلالها عن خطة طرحها الرئيس الصينى لوقف إطلاق النار ومن ثم عقد مباحثات سلام بين روسيا وأوكرانيا!
رحب الرئيس فلاديمير بوتين بطرح الرئيس الصينى مؤكدا على ثقته فى أن هذا الطرح ينبع من رغبة الصين فى الحفاظ على السلام والأمن والعدل، وإن كان ــ وحتى لحظة كتابة هذه السطور ــ لم يتم الإعلان بعد عن أى خطوات جدية فى هذا الإطار لا من حيث التوقيتات أو الموضوعات المطروحة للنقاش، وإن كان وفى نقاش أكاديمى ــ دبلوماسى عقد فى ولاية كولورادو الأسبوع الماضى، عبر بعض الدبلوماسيين الأمريكيين المتقاعدين، عن ثقتهم فى أن الطرح الصينى هو مجرد التفاف فى محاولة لمساعدة بوتين فى ورطته الأوكرانية للحفاظ على ماء وجه الأخير وإخراجه من المستنقع الأوكرانى بأقل الخسائر الممكنة!
فى نفس توقيت زيارة الرئيس الصينى لروسيا، كان رئيس الوزراء اليابانى كيشيدا فى المقابل يزور العاصمة الأوكرانية كييف داعما للصمود الأوكرانى فى وجه الاحتلال الروسى مدينا جرائم الحرب التى تورط فيها الجيش الروسى ومؤكدا على دعم اليابان لأوكرانيا من أجل إنهاء الحرب من خلال الانسحاب الكامل للقوات الروسية، حيث أكد كيشيدا خلال الزيارة على أن عدم الاستقرار فى شرق أوروبا يؤثر بدوره على الاستقرار فى شرق آسيا، داعيا إلى احترام المواثيق الدولية ولاسيما ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولى!
• • •
لا يبدو حتى اللحظة أن خطة وقف إطلاق النار التى أعلنت عنها الصين تلقى أى رواج فى الغرب فضلا عن أنها غير مقبولة من أوكرانيا، فقد عبر الرئيس الأوكرانى زيلينسكى عن رفضه للخطة الصينية مؤكدا أنها لا تنهى الحرب ولا تشترط انسحاب القوات الروسية، وإنما فقط تسعى إلى «تجميد» القتال من أجل استعداد أفضل للقوات الروسية للعودة مجددا والإجهاز الكامل على أوكرانيا، وهو الرأى الذى تؤيده عدة عواصم غربية!
الحقيقة، أنه ورغم أن الطرح الصينى حتى اللحظة لا يحظى بأى قبول خارج موسكو وبكين، إلا أنه خطوة أخرى صينية تؤكد على تحول الدبلوماسية الصينية من التركيز على الأدوات الاقتصادية إلى استخدام الأدوات السياسية بشكل أكثر كثافة من أجل لعب دور دولى أكثر نشاطا فى ظل نظام دولى يشهد تغييرات كبيرة لا يمكن إدراك مداها فى الأجل القصير، ولكن المؤكد أنها تعبر عن سعى الصين لتدشين دور أكبر لها متى تشكل النظام الدولى الجديد!
بالعودة إلى زيارة الرئيس الصينى إلى موسكو، فسنجد أن الزيارة استهدفت ثلاثة أهداف كبرى، الهدف الأول هو محاولة إخراج بوتين من عزلته الدولية وإظهار الدعم له ولنظامه ولسياسته من أجل دعمه معنويا قبل ماديا داخل روسيا!
فبكين تعلم أن سقوط بوتين جراء الورطة الأوكرانية لن يكون مجرد سقوط لزعيم، ولكنه قد يكون سقوطا لنظام كامل تحتاجه الصين إلى جوارها، حتى لو كان ضعيفا! وهذا ينقلنا إلى الهدف الثانى من هذه الزيارة، وهو أن الصين وإن كانت تعلم جيدا أن النظام الروسى أصبح ضعيفا بفعل العزلة الدولية والورطة العسكرية وما ترتب عليها من نتائج اقتصادية، إلا أنها ما زالت ترى أن لمصلحتها أن تبقى عليه ضعيفا تابعا أفضل من أن تخسره تماما، لأن خسارة روسيا لصالح الغرب (حال سقوط بوتين)، سيقوض من فرص فرض الصين لنفسها كقطب دولى فى النظام العالمى الجديد، وتمثل هذا الهدف فى توقيع سلسلة من الاتفاقات التجارية والصناعية بين الدولتين وكلها ستساعد بوتين بشكل أكبر بكثير من مساعدتها للصين على المستوى الاقتصادى والتجارى!
ثم يأتى الهدف الثالث والأخير والمتمثل فى سعى الصين إلى تأكيد هيمنتها على روسيا وهى هيمنة لها بعد تاريخى منذ الحرب الباردة حيث كان التنافس بل والتنافر بين الاتحاد السوفيتى والصين هو أحد أهم أسباب سقوط الكتلة الشرقية لصالح الغرب، بالإضافة إلى قيادتها لدول الجنوب فى أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية من خلال لعب دور وسيط السلام الدولى، وبغض النظر عن حقيقة الدور وعن نية بكين، وعن مدى نجاح هذا الدور، إلا أن مجرد طرحه بهذا الشكل يعبر عن رؤية الرئيس الصينى لدور الصين فى النظام العالمى المتمسح فى قواعد النظام الدولى ومواثيق الأمم المتحدة حتى وإن لم يكن هناك إيمان حقيقى بها!
• • •
خلال هذه الزيارة أيضا ورغم أنها لم تعلن عن أى دعم عسكرى إلى روسيا، إلا أن الزيارة أظهرت حرص الصين على توجيه انتقادات صريحة لسياسة حلف الشمال الأطلسى (الناتو)، وهو ما دعا العديد من المعلقين الغربيين إلى التأكيد على محاولة الرئيس الصينى أن يدعم بوتين سياسيا واقتصاديا من ناحية، وعلى إبقاء مساحة آمنة من تورط الأخير عسكريا فى أوكرانيا من ناحية ثانية كون أن الصين ما زالت حريصة على مصالحها الاقتصادية فى أوروبا ولا تريد التضحية بها من أجل بوتين!
لا يبدو الأمر سهلا فى تحقيق تلك المعادلات الصعبة فى السياسة الخارجية الصينية، ليس فقط بسبب أن الظروف الاقتصادية الصينية فى عالم ما بعد كوفيد غير مستقرة وأن معدلات النمو بعيدة عن معدلاتها المخطط لها، ولكن أيضا لأن سياسة التوازنات التى يسعى الرئيس الصينى إلى تحقيقها تتطلب ميزانا شديد الدقة وقد تقوده أخيرا إلى اختيارات صعبة ولكنها إجبارية بين لعب دور نشط سياسيا يسعى إلى تكوين كتلة داعمة من الدول الآسيوية ودول أوروبا الشرقية ودول الجنوب من خلال تغيير قواعد النظام الدولى سياسيا واقتصاديا وقيميا، وفى نفس الوقت يسعى للحفاظ على المصالح الاقتصادية والتجارية الصينية فى الغرب، والأخير بكل تأكيد حتى وإن كان يمر بضائقة اقتصادية مؤلمة إلا أنه لن يبتلع بسهولة الطعم الصينى!
لكن يبقى السؤال، إذا ما كانت أهداف السياسة الخارجية الصينية معقدة وأساليب تحقيقها أكثر تعقيدا، فما هو الرد الغربى عموما والأمريكى خصوصا على هذه المحاولات الصينية النشطة؟ وهل يكون الحل للمعادلة المعقدة فى السياسة الخارجية الصينية هو فى سكوت الغرب أو عدم تمكنه من استراتيجية موحدة على المسرح الدولى؟
مدير برنامج التعاون الدبلوماسى الأمريكى اليابانى، وأستاذ مساعد العلاقات الدولية بجامعة دنفر