عندما سقط فاروق خرج عبدالناصر من الظل إلى مقدمة المشهد كأنه إجابة على سؤال طرحه الشاعر كامل الشناوى «أين الرجل؟»
أجهضت حركة «الضباط الأحرار» محاولات الملك لتنفيذ «انقلاب أبيض» يفرض به «ديكتاتورية عسكرية» يسيطر بها على الأمور
إحسان عبدالقدوس كتب قبل 23 يوليو «دولة الفشل».. والشناوى دعا الجيش إلى التدخل فى قصيدة ختمها بـ«غضبة من عزمك الجبار تمحو كل باطل»
قبل ثورة يوليو برزت على المشهد قوى جديدة تدعو للتغيير فى بنية النظام الطبقى المجحف
شعبية النحاس تآكلت بعد توقيع اتفاقية 1936 وإلغاؤها أخرج المارد من القمم وأجهز على ما تبقى من النظام القديم
أين الرجل؟.. هكذا كتب «كامل الشناوى» صبيحة يوم (٢٣) يوليو (١٩٥٢) فى صحيفة «الأخبار».
نفذت بصيرة الشاعر إلى خفايا ما وراء الغيوم الكثيفة، كأنه كان يعرف أن حركة الدبابات سوف تُحاصر قصر عابدين، أو أن بيانا سوف يصدر باسم «الضباط الأحرار» من الإذاعة المصرية، فى اللحظة التى يطالع فيها القراء ما كتب.
إلهام الأدب ــ فى تلك الحالة ــ بتوقيت النشر لا بتوقع نهاية النظام.
كان كل شىء فى مصر يُشير إلى ذلك التوقع.
لم تكن فى طاقة الطبقة السياسية الحاكمة أن تضطلع بمسئولية طلب الجلاء، الذى تصاعدت نداءاته بأثر مبادئ حق تقرير المصير، التى سادت الخطاب العالمى بعد الحرب العالمية الثانية.
برزت على المشهد السياسى المضطرب قوى جديدة، تدعو للتغيير فى بنية النظام الطبقى المجحف بالأغلبية الساحقة من المصريين، ووصلت رياح التغيير إلى قلب «الوفد» حزب الأغلبية الشعبية التقليدى ونشأت من بين صفوفه «الطليعة الوفدية» الأميل إلى اليسار برعاية زعيمه «مصطفى النحاس»، لكن القوى القديمة ظلت لها الكلمة العليا.
كان «النحاس» زعيما وطنيا حاز شعبية كبيرة تعرضت للتآكل الفادح بعد توقيعه اتفاقية (١٩٣٦)، التى أفضت ــ رغم مثالبها ــ إلى دخول جيل جديد من أبناء الطبقة الوسطى والمزارعين وصغار الموظفين الكلية الحربية، من بينهم «جمال عبدالناصر» ورفاقه.
فى اللحظة، التى ألغى فيها «النحاس» الاتفاقية بأكتوبر (١٩٥١) «باسم الشعب» انتهت صفحة كاملة من التاريخ المصرى قبل أن تتحرك دبابة واحدة صبيحة (٢٣) يوليو.
بتوصيف شيخ المؤرخين المعاصرين الدكتور «يونان لبيب رزق»، فإن إلغاء الاتفاقية «أخرج المارد من القمقم، الذى أجهز على ما بقى من النظام القديم، ولم يكن بوسع أحد أن يُعيده حتى الوفد نفسه».
انفسح المجال واسعا أمام القوى الوطنية الشابة لحمل السلاح فى منطقة قناة السويس، وكان الضباط الأحرار فى قلب المشهد التاريخى.
ساعدوا بقدر ما استطاعوا على تدريب الفدائيين، وشاركوا بأنفسهم بقدر ما هو متاح فى قتال قوات الاحتلال واستهداف معسكراتها.
تسجل مذكرات «كمال الدين رفعت»، أحد أبرز وجوه «يوليو»، تجربة الفدائيين ودور «الضباط الأحرار» تنظيما وتدريبا وتسليحا.
كان ذلك تطورا جوهريا فى النظرة العامة للقضية الوطنية، بعد أن بدا اليأس كاملا من أى جلاء لقوات الاحتلال بالتفاوض.
تجاوزت العمليات الفدائية أى أعمال فردية سابقة شهدتها شوارع القاهرة من مهاجمة أفراد قوات الاحتلال، والاستيلاء على ما لديهم من أسلحة وذخائر.
حسب شهادته: «شاركت فى عمليات الفدائيين بمنطقة القناة بعد إلغاء المعاهدة، وكان ذلك بمعرفة رئاسة التنظيم» ــ قاصدا «جمال عبدالناصر»، الذى ربطته به علاقة وثيقة منذ مطلع شبابه حتى النهاية.
«دربنا طلبة متطوعين بمنطقة طريق القاهرة ــ الفيوم، وتولينا قيادة بعض العمليات فى الإسماعيلية والقصاصين والتل الكبير ضد المعسكرات البريطانية.. وكانت رئاسة التنظيم تمدنا بما نحتاجه من سلاح وذخيرة».
«بعد حريق القاهرة قُبض على أفراد التنظيم الفدائى وصودرت أسلحته».
توقفت العمليات الفدائية بسبب تلك الاعتقالات، لكن بعد شهور قليلة كان الرد مدويا بما جرى يوم (٢٣) يوليو.
كان عام (١٩٥١) مشحونا بإشارات النهاية.
كتب «إحسان عبدالقدوس» فى «روزاليوسف» ــ (٨) مايو ــ مقالا عنوانه «دولة الفشل».
جاء فيه بالحرف الواحد: «إننا فى مصر نؤمن بالفشل ونعبد الفاشلين.. الفشل فى كل مكان.. وأمام كل خطوة ووراء كل زعيم، وفى حنايا كل ملف وفى ظلام كل درج وفى طيات كل صوت.. والفاشلون هم الذين يحكمون مصر، وهم الذين يسوقونها من فشل إلى فشل ثم إلى فشل جديد».
أخطر ما فى هذا المقال ما كتبه عن وزير الحربية، فهو «فاشل.. فشل حتى فى الاحتفاظ باختصاصه وترك الجيش يخرج من بين يدى الحكومة والشعب، ليكون هيئة كهنوتية لها أسرارها، ولها سلطانها، ولها استقلالها، ولها قائد فاشل».
كان ذلك تلميحا إلى أن هناك شيئا ما قد يحدث من داخل الجيش لإنهاء دولة الفشل.
وكتب «خالد محمد خالد» فى نفس المجلة يوم (٢١) أغسطس مقالا عنوانه: «صاحب الجلالة الشعب»:
«إذا كان فى مصر أحد جدير بأن تخشاه الحكومة وتجامله فهو نحن.. لأننا أصحاب البلد الذين نولى ونعزل.. ونضع ونرفع.. ونعز ونذل، وإذا جردتنا ظروف طارئة من سلطتنا يوما أو بعض يوم، فمردها المحتوم إلينا.. وإلينا وحدنا، فى يوم ترونه بعيدا ونراه قريبا».
وقد كان حريق القاهرة فى (٢٦) يناير (١٩٥٢) إنذارا أخيرا بما هو آتٍ.
فى اليوم السابق تصدى ضباط وجنود الشرطة فى الإسماعيلية بأسلحة بدائية لقوات الاحتلال البريطانية رافضين تسليم مواقعهم.
أفضت الواقعة بما حملته من استهانة بريطانية وما عبرت عنه من شجاعة مقاومة إلى إضراب عام فى العاصمة لـ«بلوكات النظام».
تداعت الأحداث بعده إلى حرائق فى قلبها.
أفلت النظام العام وسادت الفوضى وعمليات النهب والتخريب.
فرضت الطوارئ ونزل الجيش ــ لأول مرة فى التاريخ المصرى الحديث ــ لاستعادة السيطرة وفرض الهدوء على المدينة المروعة.
حتى الآن لا توجد إجابة لها صفة الفصل على سؤال: من حرق القاهرة؟
اعتقل زعيم «مصر الفتاة» «أحمد حسين» بتهمة تدبير الحريق، ووجهت التهمة إلى آخرين دون أن تثبت على أحد بعينه.
بنى «أحمد حسين» صيته على حملة فى جريدة حزبه نشرت صورا لمواطنين بؤساء تحت عنوان: «رعاياك يا مولاى».
ربما يتحمل جانبا فى مسئولية ما حدث يوم (٢٦) يناير، لكن الأقرب إلى الحقيقة أن مخزون الغضب وجد انفجاره فى إضراب «بلوكات النظام» ــ كأنه عود ثقاب ألقى على أرض مشبعة بالوقود.
بقدر تعدد الإجابات تتبدى حقيقة رئيسية أن النظام الملكى لم يعد قادرا على البقاء، ولا مقنعا بقدرته على تلبية احتياجات المصريين فى عصور جديدة.
إثر حريق القاهرة شاعت فى الأجواء العامة قصيدتان.
أولاهما ــ للشاعر «إسماعيل الحبروك»:
«سأنام حتى لا أرى.. وطنى يُباع ويُشترى»
«سأنام عن عهد القتال.. حلم تحقق فى القنال
أضحى الجهاد جريمة.. فلتسجدوا للاحتلال!!»
«برصاصهم صنعوا السلام.. فقل على مصر السلام»
وثانيتهما ــ للشاعر «مأمون الشناوى» دعا فيها الجيش بلا مواربة إلى إطاحة النظام الملكى:
«أنت إن تنصره ــ يا حارس ــ كنت المندحر
أنت إن تخذله ــ يا حارس ــ كنت المنتصر!»
«أترى يبقى طويلا جالسا فوق الرماح
لن يطول الليل.. بل لا بد أن يأتى الصباح»
وكانت ذروة دعوته لتدخل الجيش:
«غضبة من عزمك الجبار تمحو كل باطل».
عندما كتب «مأمون الشناوى» قصيدته التحريضية على قلب الملك فكر «الضباط الأحرار» باستغلال نزول الجيش إلى الشوارع للقيام بانقلاب عسكرى، لكن «عبدالناصر» مال إلى كسب بعض الوقت، حتى يستكمل هذا العمل فرص نجاحه.
لم تكن إطاحة النظام الملكى حدثا مفاجئا قفز من خارج سياق الحوادث، أو بعمل سرى محض جرى فى الظلام.
كان كل شىء فوق المسرح السياسى يُنذر بنهاية قريبة لم يكن بمقدور أحد أن يتكهن طبيعتها وصورتها وما بعدها.
فى هذه الأحوال المضطربة علا طلب التغيير بأثر تطورين جوهريين:
أولهما ــ تداعيات ما بعد الهزيمة العسكرية فى حرب فلسطين، التى أفضت إلى مراجعات غاضبة لمستويات الكفاءة العسكرية وأهلية الملك «فاروق» للحكم، وتساؤلات حادة عن مدى مسئولية الفساد المتفشى حوله فى الهزيمة، ونشوء دولة معادية على الحدود تهدف ــ فيما تهدف ــ إلى عزل مصر عن محيطها العربى.
كانت الحملة الصحفية على «الأسلحة الفاسدة» فى حرب فلسطين، التى كتبها «إحسان عبدالقدوس» على صفحات «روزاليوسف»، واحدة من علامات النهاية.
فقد عكست أزمة ثقة متفاقمة فى نزاهة الحكم وقدرته على تحمل أمانة المسئولية.
وفق التحقيقات، التى أجريت بعد ثورة «يوليو»، فإنه قد تدفقت على مصر أسلحة وذخائر من مخلفات الحرب العالمية الثانية تلف بعضها بسوء التخزين لسنوات طويلة، ووجدت من هو مستعد أن يشتريها بأسعار مبالغ فيها ونسب عمولات عالية من رجال ومصالح حول الملك دون علمه.
وثانيهما ــ حقائق ما بعد الحرب العالمية الثانية، فقد اختلفت موازين القوى الدولية، وبدا العالم كله فى حالة سيولة، انتظارا لنظام عالمى جديد.
ارتفعت نداءات التحرر الوطنى وحق تقرير المصير فى أرجاء العالم، وكان ذلك ملهما للحركة الوطنية المصرية، للبحث عن طريق جديد وتبنى أفكار جديدة.
وكان «الضباط الأحرار» جزءا من طاقة الغضب على كل ما هو تقليدى متهالك وموروث سقيم من أفكار وسياسات ومواقف.
خرجت «يوليو» من داخل الحركة الوطنية الشابة بأفكارها وأحلامها وإحباطاتها، والروح الراديكالية التى سادتها فى طلب الجلاء والتغيير ــ من داخل السياق لا من خارجه.
يصعب تلخيص ما جرى يوم (٢٣) يوليو فى حركة الدبابات أمام قصر عابدين، واستيلاء «الضباط الأحرار» على قيادة الجيش وإذاعة البيان رقم (١) فى صباح ذلك اليوم.
لم يكن ممكنا للتحرك العسكرى فى (٢٣) يوليو أن ينجح وينال دعما شعبيا كبيرا لو أن «الوفد» حافظ على مكانته، ولم تتدهور أحواله على النحو الذى انطوت به صفحته مع سقوط النظام الملكى.
فى أجواء النهاية قاد القصر حملات ممنهجة ضد «الوفد» وجرت محاولات اغتيال لزعيمه «مصطفى النحاس» وتولت صحيفة «أخبار اليوم» بإيعاز ملكى حملات التشهير.
بعد (٢٣) يوليو أمعنت نفس الصحيفة فى التشهير بالملك ولياليه ومباذله، وخلطت على نحو مفرط بين الحقائق والشائعات ــ كما كتب رئيس تحريرها «مصطفى أمين».
بالمفارقة فإن كُتابا صحفيين من نفس الجيل عارضوا النظام الملكى فى عز قوته، لكنهم بعد سقوطه حاولوا أن يروا بأكبر قدر ممكن من التوثيق والموضوعية قصته، وكيف وصل إلى النهاية ــ كما كتب «أحمد بهاء الدين» بحس فنان وعقل مؤرخ و«محمد عودة»، بما توافر لديه من وثائق وشهادات وقدرة على التأريخ.
بمناسبة مرور خمسين سنة على ثورة يوليو طرح «محمد حسنين هيكل» سؤالا جوهريا، تضمنه كتابه «سقوط نظام»: «لماذا كانت ثورة يوليو ١٩٥٢ لازمة؟».
أتاحت له مجموعات الوثائق البريطانية ومذكرات أبطال المرحلة أن يُعيد بناء القصة من جديد بأكبر قدر ممكن من التحرى والتدقيق.
الأكثر إثارة فى ذلك الكتاب الموثق أنه تطرق موسعا إلى خفايا ما كان يحدث فى القصر الملكى، مسجلة على شرائط بصوت وكيل الديوان الملكى «حسن يوسف»، الذى عمل فى مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة «الأهرام»، خلال رئاسة «هيكل» مسئولا عن وحدة التاريخ الحديث.
كانت تلك شهادة مسجلة كـ«وديعة تُنشر بعد عدد من السنين»، حسب اتفاق بين الرجلين فى حضور «عبدالفتاح عمرو»، وهو واحد من أقرب أصدقاء «فاروق» وسفيره فوق العادة فى لندن.
قدر «هيكل» أن مرور خمسين سنة على ثورة «يوليو» تكفى وتزيد للبوح ببعض ما تضمنته الشهادة المسجلة، لكنه ترك الأصل المسجل بصوت وكيل الديوان الملكى للأجيال القادمة، قبل أن تلتهمه ــ ربما ــ حرائق برقاش.
كما كان فى حوزته تسجيلات أخرى حصل عليها بعد ثورة «يوليو»، تنال من أسرة «النحاس»، رفض رئيس الحكومة وقتها «محمود فهمى النقراشى» استخدام مادتها للتشهير الشخصى.
فى الأيام الأولى للثورة أودع «مصطفى أمين» التسجيلات الممنوعة عند «جمال عبدالناصر»، الذى قال: «لن أفعل ما رفضه النقراشى».
بعد عقود طويلة قال «هيكل»، الذى حصل عليها: «لن أترك التسجيلات بعدى وسوف أحرقها».
تنطوى القصة على مفارقة أخلاقية ثانية، حيث وصلت إلى «هيكل» مذكرات خطية لـ«مصطفى أمين» نفسه تدخل فى أموره الشخصية، رفض الإفصاح عنها وأوصى بحرقها.
فى مجموعات الوثائق والشهادات المختلفة تبدت حقيقة واحدة أن النظام الملكى يتهاوى، ولم يبق غير أن يتقدم أحد لإزاحته.
فكر ــ ذات مرة ــ كاتب السيناريو «محفوظ عبدالرحمن» أن يكتب قصة الأيام الأخيرة للملك من (١٨) حتى (٢٦) يوليو حيث تتفاعل مشاعر وتضطرب أوضاع وتتغير دول، فى مسلسل تلفزيونى طويل مستندا إلى ما تضمنه كتاب «سقوط نظام» من روايات موثقة.
حادث «هيكل» فى مشروعه، ولم يكن ممانعا.
من دواعى الدراما فى تلك الفترة المتقلبة، أن الملك «فاروق» فكر فى «انقلاب أبيض» يعلن بعده «ديكتاتورية عسكرية» تحكم بمراسيم لها قوة القانون وتأجيل أى انتخابات برلمانية إلى أجل غير مسمى ــ كما تكشف البرقيات البريطانية.
أجهضت حركة «الضباط الأحرار» تفكيره وسبقته قبل أن تذهب به إلى المنفى.
فى لحظة تصدع النظام الملكى تبدت قدرات «عبدالناصر» على إدارة المواقف الحرجة.
أطاح الحكومة ولم يكن يستهدف ذلك فى البداية عندما رآها تترنح أمامه.
وأطاح الملك الذى لم يكن مخططا مسبقا عندما رآه يتهاوى أمام نظره.
هناك قصة ــ أوردها «هيكل» فى كتابه «سقوط نظام» ــ تكشف طبيعة الموقف فى لحظة انهياره والحسابات المتغيرة، وكيف أديرت وحجم الدور الذى لعبه «عبدالناصر».
فى اللحظات الأولى للحركة قبل أن تعلن بيانها الأول سأل رئيس الوزراء «نجيب الهلالى»، الذى تمكن من الوصول هاتفيا إلى الصحفى الشاب المتواجد فى مقر القيادة بغريزة الصحافة: «هل تستطيع سؤالهم إذا كانوا يريدون من الوزارة أن تستقيل؟».
التفت الصحفى الشاب إلى اللواء «نجيب» ناقلا السؤال فظهرت الحيرة على ملامحه من مفاجأة سؤال لم ينتظره، وتولى «عبدالناصر» الإجابة قائلا: «له حق.. الأفضل أن تستقيل الوزارة».
«حاولت أن أتدخل برأى لأول مرة فقلت ما معناه إن الهلالى رجل نزيه وقدير، وهو بالكاد عاد أمس الأول إلى رئاسة الوزارة بعد موقعة هائلة من أجل التطهير».
رد «عبدالناصر» بما مؤداه: «إن ذلك خارج الموضوع ــ قل له إن ذلك طلبنا، وقد وفر علينا أن نحرجه بأن نطلبه منه».
قلت للأستاذ «هيكل» والحوار يستفيض حول تلك القصة ودلالاتها: «إنها مؤسسة لما بعدها، كان يمكن ليوليو أن تأخذ مسارا آخر لولا ما أبداه من قدرة على اتخاذ القرار فى لحظته، فلم يكن هناك وقت للتفكير، والصباح يوشك أن يطل على بلد جرت فيه حركة عسكرية».
قال: «ما قصدته فى رواية تلك القصة أن أقول إنه رجل مختلف وقدراته على التصرف فى الأوقات الحرجة غير عادية، وأن ذلك قد تبدى منذ الساعات الأولى لظهوره على المسرح السياسى».
لم تكن الحركة مفاجئة تماما، فقد كان الجو العام يشى بأن شيئا داخل الجيش يمكن أن يحدث فـ«هناك سخط منتشر بالجيش، ومن المحتمل أن يفضى إلى عملية من نوع ما» ــ حسب برقية الوزير البريطانى المفوض فى القاهرة «مايكل كرسويل» إلى وزير خارجيته «أنتونى أيدين» يوم الأحد (٢٠) يوليو.
وجاء فى برقية بريطانية أخرى أرسلت إلى هيئة أركان الحرب الإمبراطورية فى لندن يوم الاثنين (٢١) يوليو: «المعلومات التى لدينا أن هناك توترا على نطاق واسع فى الوحدات العسكرية المصرية واحتمالات العصيان واردة».
كان نجاح الحركة فى صبيحة (٢٣) يوليو ملغما باحتمال تدخل القوات البريطانية، التى بلغت (١٢٠) ألف جندى فى معسكرات قناة السويس، لإجهاضها.
بدا كل احتمال مرتهنا بمدى الدعم الشعبى الذى تحوزه الحركة.
إذا ما كان قويا فإنه قوة ردع لأى احتمال تدخل.
هذا ما حدث بالضبط.
بحكم الوثائق البريطانية كانت هناك خطة جاهزة يطلق عليها «روديو» لاحتلال القاهرة والدلتا والإسكندرية لدى أى طارئ مفاجئ وجرى الاستعداد لتنفيذها.
اعتمدت تلك الخطة على القوة المجردة بلا أى غطاء قانونى بعد إلغاء اتفاقية (١٩٣٦).
بحكم نفس الوثائق فإن الملك «فاروق» طلب التدخل العسكرى البريطانى لإجهاض التمرد عليه على نحو ما فعله عمه الخديو «توفيق» عام (١٨٨٢)، لكنه لم يتلق إجابة.
بدا «فاروق» مذعورا ــ وفق برقية للسفير الأمريكى «جيفرسون كافرى»، الذى أخذ يهدئه دون جدوى.
لم تكن هناك أى معلومات لها قيمة عن توجهات الحركة، ولا من يمسكون بزمام الموقف فتبدت تناقضات فى الاستنتاجات والتصرفات.
بقوة الوثائق الدامغة فإن أى حديث عن صلة ما ربطت «الضباط الأحرار» بالاستخبارات الأمريكية محض كلام فارغ.
غابت بالكامل أى إشارات إلى «جمال عبدالناصر»، أو أى أحد آخر من مجلس القيادة باستثناء «أنور السادات» واللواء «نجيب»، الذى صدر البيان الأول باسمه.
جرت اتصالات لضبط ردات فعل البريطانيين، ولم يكن الأمريكيون فى وضع يسمح لهم بتقدير موقف على قاعدة معلومات واضحة.
وفق الوثائق الأمريكية والبريطانية لم تكن هناك أى معلومات ذات قيمة عن شخصية اللواء «نجيب» صبيحة (٢٣) يوليو، رغم أنه انتخب رئيسا لنادى الضباط فى مواجهة صريحة مع رجال الملك، ورشح مرتين وزيرا للحربية فى حكومتى «حسين سرى» و«نجيب الهلالى»، غير أن الملك لم يكن مستعدا لإسناد هذه المهمة إليه مبديا غضبه كل مرة من مجرد ذكر اسمه.
كانت انتخابات نادى «الضباط» فى ديسمبر (١٩٥١) اختبارا للقوة والتأثير فى صفوف الجيش من قبل «الضباط الأحرار»، وكان حل مجلس إدارته المنتخب إيذانا على مواجهة محتملة تقترب مواقيتها.
وكان تغيير الوزارات بعد حريق القاهرة فى (٢٦) يناير (١٩٥٢) حدثا متوقعا كل لحظة.
شهدت تلك الفترة إقالة وزارة «الوفد» برئاسة «مصطفى النحاس»، وتولى «على ماهر» رئاستها، ثم جاء الملك بـ«نجيب الهلالى» بعد شهر واحد قبل أن يقيله هو الآخر فى ظروف مريبة بصفقة مالية بلغت مليون جنيه، دفعها «أحمد عبود» وسجلتها برقيات السفارة البريطانية، ثم كلف «حسين سرى» بحكومة رابعة قبل أن يعود لـ«الهلالى»، لكن حكومته لم تتمكن من الاجتماع، فقد أطاحت «يوليو» باللعبة كلها.
جرى ذلك كله فى أقل من سبعة أشهر.
بدا أن كل شىء يؤذن بالمغيب قبل أن تحل النهاية وتطوى صفحة حكم أسرة «محمد على».
وصف «أحمد بهاء الدين» المشهد الأخير لـ«فاروق» بالتفصيل وختمه بالعبارة التالية:
«.. وتحركت المحروسة إلى عرض البحر.. والشمس تغرب.. وقال الذين سافروا معه.. إنه دخل مباشرة إلى حجرته.. وأخذ يبكى بكاء حارا، طويلا، مسموعا.. ندم على خطايا وآثام لا تغسلها مياه البحر ولا يطمسها ظلال الليل الذى أطبق على المركب».
كان هناك اتجاه قوى لدى عدد من ضباط القيادة لإعدام الملك، اعترض «عبدالناصر» وفى ذاكرته الحكمة التى انطوت عليها رواية «قصة مدينتين» لـ«تشارلز ديكنز» من أن الدم يجلب الدم.
ذات مرة قال «فاروق» على مائدة قمار: «إن ملك الكوتشينة هو الملك الوحيد الذى سيبقى»، وقد كان.
عندما سقط «فاروق»، خرج «جمال عبدالناصر» من الظل إلى مقدمة المشهد ــ كأنه إجابة على سؤال طرحه شاعر بإلهام الأدب صبيحة (٢٣) «يوليو»: أين الرجل؟