مظاليم العهد البائد - فاروق جويدة - بوابة الشروق
السبت 28 ديسمبر 2024 2:02 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مظاليم العهد البائد

نشر فى : الأحد 25 سبتمبر 2011 - 8:50 ص | آخر تحديث : الأحد 25 سبتمبر 2011 - 8:50 ص

فى حياة البشر تختلف الأدوار والأعمال والمسئوليات وان كانت جميعها فى نهاية المطاف تؤكد قيمة ومعنى الجهد البشرى.. وهنا لا يمكن أن تتساوى درجة المسئولية بين من يبنى جدارا ومن يشيد عقلا.. أو بين من يزرع أرضا بالألغام ومن يغرس فكرا يضىء عقول البشر.

 

من هنا يأتى العتاب على بعض فئات المجتمع فى مصر الذين اختاروا هذا الوقت العصيب ليعلنوا الاعتصام أو الإضراب أو التوقف عن العمل وأداء المسئولية.

 

والعتاب هنا يأتى فى سياق أن الوطن يعيش لحظة صعبة وأن ظروف الثورة ومتطلباتها تفرض علينا نوعا من السلوك يتناسب مع جلال الحدث وقيمة المسئولية.. كان أمرا عجيبا أن تشهد الساحة المصرية عددا من الاضرابات والخلافات والصراعات فى وقت واحد بين صفوف ما يسمى النخبة هذه المساحة من البشر التى تقع عليها مسئولية بناء أساسيات الحياة وثوابت الأمة.

 

فى وقت واحد اندفعت حشود النخبة فى قطاعات مهمة تعلن الاضراب أو العصيان أو الاعتصام أو التوقف عن العمل.. من بين هذه المجموعات من تحملوا مسئولية بناء عقل هذا الشعب سنوات طويلة.

 

مظاهرة صاخبة بين أساتذة الجامعات تتجه إلى مجلس الوزراء وأمامها أكثر من هدف وأكثر من قضية.. كان من أولويات أهدافها إقصاء جميع القيادات الجامعية التى جاء بها النظام السابق وإجراء انتخابات صحيحة بين أساتذة الجامعات لاختيار قيادات جديدة.. ومع هذه القضية أطلت قضية أخرى هى إعادة النظر فى مرتبات أساتذة الجامعات وتوفير الدخل المناسب لتحقيق حياة كريمة لأستاذ الجامعة.. كلا المطلبين حق مشروع فنحن أمام قيادات جامعية جاءت على أكتاف الحزب الوطنى المنحل ولجنة السياسات وعلاقات مشبوهة وأدوار افتقدت الشفافية.

 

وعلى جانب آخر نحن أمام مستويات فى الدخل والمرتبات لا تتناسب مع جلال المسئولية الجامعية فى تربية الأجيال.. ولكن كل هذه المطالب كان من الممكن أن تتم بلا مظاهرات أو مواكب للأساتذة الأجلاء.. كان من الممكن أن يذهب فريق من كبار الأساتذة ويبحث كل هذه القضايا مع المسئولين فى الحكومة أو المجلس العسكرى على أساس أن الحوار هو الأفضل أما وقفات الاعتراض والتظاهر فهى أبعد ما تكون عن روح الجامعة وأسلوب الرفض والاعتراض بين رموزها.

 

كانت هناك مفاجأة أخرى وهى إضراب المعلمين فى مراحل التعليم المختلفة فى اليوم الأول لبدء الدراسة وذهب التلاميذ إلى مدارسهم لينتشروا فى أحواش المدارس بينما يقف الأساتذة الأفاضل أمام الفصول يعلنون الإضراب عن أداء الواجب وكأن هذا هو الدرس الأول فى السلوكيات للأجيال القادمة.. كلنا يعلم أن الظروف الحياتية الصعبة تطارد المعلمين فى كل مراحل التعليم وهناك مئات الآلاف منهم يعملون بالحصة وغير معينين ويعملون بعقود مؤقتة ولكن هذا لا يبرر أبدا امتناعهم عن العمل لأنهم قبل أن يكونوا أساتذة علم فهم نموذج وقدوة.

 

كان من الممكن أن يعلنوا موقفهم فى مدة محددة قبل بدء اليوم الدراسى أو بعد انتهائه بحيث يدخل كل أستاذ إلى حصته ويؤديها على أكمل وجه ويتجمع المعلمون بعد ذلك فى ساحة المدرسة ويعلنون مطالبهم.. أن المطالب حق مشروع ولكن الإضراب عن العمل فى أداء مهمة إنسانية جليلة مثل التعليم أمر مرفوض.

 

ومن بين المفاجآت أيضا إضراب الأطباء أصحاب القلوب الرحيمة والمسئوليات المقدسة.. إنهم رسل الرحمة الذين نأنس بوجودهم فى كل مراحل حياتنا أطفالا وشبابا وشيوخا.. إن الطبيب ليس موظفا مهنيا إنه جزء من رحمة الخالق بعباده وحين يمتنع عن العمل ويرفض أن يقوم بدوره فإن الحياة تفقد شيئا كبيرا.. ماذا يفعل رجل عجوز ذهب إلى المستشفى ورفض الطبيب أن يكشف عليه أو يداوى جراحه لأنه أضرب عن العمل.. ماذا يفعل طفل صغير أصيب فى حادث وحمله والده إلى غرفة الإسعاف فى أى مستشفى ووجد المكان خاليا ودماء ابنه تنزف بين يديه.

 

إننا نعلم أن ظروف الأطباء صعبة للغاية حيث المرتبات الهزيلة ولكن ينبغى أن يقسم الأطباء أنفسهم إلى فريقين إذا كانوا يريدون الإضراب عن العمل.. فريق يضرب عن العمل وفريق آخر يؤدى مسئولياته ويستقبل المواطنين فى المستشفيات بحيث لا تترك خالية.. أما الإضراب الشامل بهذه الصورة فهو أمر لا يتناسب مع قدسية المهنة ودورها فى حياة الناس.. إن امتناع الطبيب عن أداء مسئولياته فى علاج المواطنين شىء لا يجوز مهما كانت أسباب ذلك.

 

على جانب آخر تشهد الساحة انقسامات غريبة فى ساحة القضاء حيث هيبة العدالة وقدسية الرسالة.. ولا أتصور أن يشهد القضاء مثل هذه الانقسامات ما بين المجلس الأعلى للقضاء ونادى القضاة خاصة إذا كان استقلال القضاء هو القضية المطروحة بين الجانبين.. أن الحرص على صورة قضائنا العظيم تتطلب من رموزه أن تتوحد كلمتهم ومواقفهم وإذا اختلفوا فإن الخلاف ينبغى الا يتجاوز حدود مكاتبهم وأروقتهم وبحيث لا يمتد إلى الفضائيات والصحف وأجهزة الإعلام.. لقد ثارت حساسيات كثيرة بين رموز القضاء المصرى فى الأيام الأخيرة وسط ظروف صعبة يمر بها الوطن ونحن أحوج ما نكون لوحدة قضائنا.

 

هناك معركة أخرى تجرى الآن فى نقابة الصحفيين بين فرسان الكلمة ولا شك أن المعركة التى تشارك فيها تيارات كثيرة سوف تحسم موقف الصحافة المصرية فى السنوات القادمة وسوف يكون لها أثر كبير فى موقف هذه النقابة وهى تمثل حصنا من حصون الحرية فى هذا الوطن.

 

إن تاريخ نقابة الصحفيين ودورها ورسالتها يفرض على أبنائها أن يحرصوا على اختيار أفضل النماذج وأكثرها قدرة على حماية هذه المهنة والدفاع عن رسالتها.

 

إن إضراب المعلمين والأطباء ومظاهرات أساتذة الجامعات وانقسامات القضاة والصحفيين كلها ظواهر إيجابية تعكس روح ومستقبل وطن جديد يؤمن بالحرية ولكن ظروف المجتمع تتطلب منا قدرا من الإحساس بالمسئولية فى هذه المرحلة الصعبة.

 

مازال أمامنا مشوار طويل حتى يعود الاستقرار والأمن إلى ربوع هذا الوطن.. إن أمامنا واقعا جديدا يتطلب من النخبة أن تعى دورها ومسئولياتها.

 

نحن أمام مسلسل طويل من المحاكمات وتصفية آثار ثلاثين عاما من الخراب الاقتصادى والسياسى والسلوكى وهذه الرحلة من إعادة البناء سوف تبدأ من دور المدرس بين تلاميذه وتنتهى فى قاعة المحاكمات حين يؤكد القضاء سيادة القانون وعدالة الأحكام.

 

نحن أمام خلل أمنى رهيب يتطلب منا قدرا كبيرا من الإحساس بالمسئولية لأن استقرار الأمن هو الخطوة الأولى نحو إعادة بناء الوطن.. ولا شك أن استعادة الأمن لن تكون بالمظاهرات والاعتصامات والصراعات بين فصائل المجتمع المختلفة.

 

نحن أمام فلول وأعوان نظام سابق لن يتنازلوا ببساطة عن مكاسب رهيبة حصلوا عليها فى ظل نظام مستبد افتقد العدالة والإحساس بالمسئولية وعلى كل الشرفاء فى هذا الوطن أن يحافظوا على ثورة انتشلتهم من براثن البطش والنهب والاستبداد.

 

نحن أمام مجتمع منح كل شىء لعدد من الأشخاص وحرم الأغلبية الساحقة من حقها فى حياة كريمة وإذا كان البعض يشعر بالظلم فإن هذا الظلم قد تفاوتت درجاته ما بين المطحونين والمهمشين من سكان العشوائيات وأصحاب المهن والوظائف الذين نسيهم قطار العدالة سنوات طويلة.

 

إن إضراب المدرسين ومطالبتهم بحقوقهم وزيادة أجورهم حق مشروع ولكن ينبغى أن يكون ذلك فى إطار من الحرص على أداء الرسالة النبيلة التى يقوم بها المعلمون.

 

وإذا كان الأطباء يطالبون بالمزيد من الرعاية فإن هذا شرط أساسى لابد أن يتوافر حتى يكونوا هم أنفسهم قادرين على رعاية الآخرين.. أما أساتذة الجامعات والقضاة والصحفيون فلا أتصور ونحن نعيش هذه المرحلة التى نعيد فيها ترتيب كل شىء أن يتخلى هؤلاء وهم رموز النخبة عن المسئولية وتلقى بهم الأحداث إلى صراعات ليس هذا وقتها على الإطلاق.

 

على الجانب الآخر إذا كنا نطالب النخبة بالحكمة والحوار الواعى فإن على الحكومة أن تفتح ملفات الظلم الذى وقع على فئات كثيرة من أبناء هذا المجتمع بحيث تضع خطة لتحقيق أكبر قدر من العدالة.

 

لا يعقل أبدا أن يكون مرتب المدرس المتعاقد بالحصة يتراوح بين 60 جنيها ومائتى جنيه شهريا.. ولا يعقل أن يكون بدل طبيعة العمل للطبيب 15 جنيها فى الشهر ولا يصل إجمالى دخله إلى 200 جنيه فى الشهر.

 

إن الحكومة قررت أن يكون الحد الأدنى للأجور 700 جنيه شهريا وهذا القرار لم يطبق حتى الآن على فئات كثيرة من بينهم أطباء ومعلمون فى المدارس والمستشفيات.

 

من الصعب أن نطالب الحكومة بلائحة موحدة للأجور فى الدولة لأن هناك تفاوتا رهيبا فى مستويات الدخول ولكن لا يعقل أبدا أن يكون هناك مواطن يحصل على مليون جنيه فى الشهر وطبيب أو مدرس يحصل على مائتى جنيه.. لا نطالب بالمساواة بين العاملين فى شركات البترول أو البنوك أو الجامعات الخاصة وبين العاملين فى الأجهزة الحكومية ولكن هناك ظلم فادح يقع على طوائف معينة من الشعب وهؤلاء فى حاجة إلى عمليات إنقاذ سريعة.

 

إن سنوات الظلم والظلام كانت لها ملايين الضحايا وإذا كنا نطالب المظلومين بالصبر فإننا نطالب المسئولين بالعدل.

فاروق جويدة شاعر وصحفي مصري
التعليقات