(7)
يرد بعد ذلك الحديث عن «دير أبوفانا» بمحافظة المنيا، والمسألة فيما ذكرت الصحف أن الدير ادعى ملكية أرض صحراوية خارج الزمام نحو ألفى فدان (صحيفة الجمهورية 5/8/2008 ص1)، وإنه شب النزاع حول هذه الأرض مع قبائل من العرب فى المنطقة، كل يدعى حيازتها كلها أو بعضها، وهيئات الدولة المختصة لم تكن اعترفت بملكية أى من الطرفين للأرض بعد، والجهة المختصة حكوميا بذلك هى الهيئة العامة لمشروعات التعمير والتنمية الزراعية، طبقا للقوانين المنظمة للأراضى الصحراوية خارج الزمام (خارج الزمام حسبما يعرفها القانون هى الأراضى التى لم تفرض عليها ضريبة عقارية بعد وتقع على بعد كيلومترين منها). وقد شب النزاع بين رجال الدير والأعراب وبلغ حد الاشتباك فى 31/5/2008. وأصيب نحو سبعة أفراد وقتل أحد الأعراب.
فتحركت المحافظة بحسبانها الجهة الإدارية المحلية المختصة، وجمعت اطراف الخصومة ومعهم ممثلو الهيئات الحكومية ذات الصلة بالموضوع، وتدخلت النيابة العامة بالنسبة للشق الجنائى من الأحداث، وجرى اجتماع مهم فى 18/6/2008 برئاسة المحافظ وحضره فضلا عن الأنبا ديمتريوس اسقف ملوى والوفد المرافق له وفضلا عن عدد من الاعراب، حضره ممثلون عن وزارة الداخلية ومباحث أمن الدولة والحزب الوطنى والمجلس الشعبى للمحافظة وهيئة التعمير والتنمية الزراعية وقطاع الآثار وهيئة المساحة والشهر العقارى وإدارة الأملاك.
أنا أقصد بذكر هذا التعداد التفصيلى بيان ماهية الدولة فى مصر، انها كل أولئك وأكثر كثيرا منهم، وهى ليست شخصا رئيسا كان أو محافظا أو وزيرا، ولكنها هيئات وإدارات ومصالح متخصصة كل منها فى نوع نشاط معين، وعندما تجد الحاجة يتحرك الجهاز المختص بنظرها حسب نوع النشاط الممارس، وفى صدد مسائل الأراضى الصحراوية، تتزاحم عليها احتياجات لجهات شتى حسب طبيعة قطعة أرض، ثمة حاجات للقوات المسلحة، وللآثار، وللمناجم والمحاجر، ثم يرد بعد ذلك موضوع التعمير والتنمية.
ويبدو مما اتيحت مطالعته مما كنت جمعته من صحافة الفترة ذاتها ومما اتيح نشره من خطابات متبادلة بين محافظة المنيا والأسقفية، يبدو أن الكنيسة والدير كانا يتعاملان مع الدولة بحسبانها كلا واحدا، ولم يكونوا يتعاملون مع كل جهة من جهات الحكومة حسب نوع الطلب الذى يطلبونه وحسب نوع تخصص الجهة الحكومية التى تنظر فيه، فمثلا اجتمع المجمع المقدس برئاسة الأنبا بيشوى (كان البطريرك فى طريقه لأمريكا للعلاج) وتوجه الجمع إلى رئيس الجمهورية رأسا ببيان يحمل ستة مطالب مجمعة، وهى الإفراج عن المحتجزين (يقصد الرهبان الذين اشتبكوا مع الأعراب)، والقبض على الجناة (يقصد الأعراب الذين اشتبكوا مع الرهبان)، واستظهار الصورة الحقيقية للواقعة واتفاق الجناة مسبقا وجمع تفاصيل الوقائع، وبناء سور للدير يشمل الآثار والمزرعة، وتعويض الدير عن التلفيات والمسروقات، والبيان موجه إلى رئيس الجمهورية لضمان «السلام الاجتماعى» (صحيفة الدستور 3/6/2008 ص1). فالبيان هنا يحمل مطالب مجمعة، منها ما يتعين عرضه على النيابة العامة بشأن الافراج والقبض والتحقيق، ومنها ما يتوجه إلى هيئة التعمير، ومنها ما يتوجه إلى المحافظة، ومنها ما يتوجه إلى الأشخاص المعتدين بشأن طلب التعويض.
ولكن بيان المجمع المقدس الممثل للكنيسة القبطية لم يتعامل مع الأمر بحسبانه من رعايا الدولة المصرية، فيتوجه بكل طلب إلى الجهة المختصة بنظره والبت فيه، انما تكلم إلى رأس الدولة مباشرة بجميع ما يطلب، كأن المجمع أو الكنيسة شخص «خارجى» عن الدولة فيتخاطب معها ممثلة فى رئيسها، وباعتبار ان علاقته بالهيئات المختلفة لا تكون الا من خلال الرئيس الأعلى، ويتأكد هذا المعنى بما بقيت تصر المطرانية عليه من طلب الاستجابة للمطالب الستة مجتمعة (صحيفة الدستور 14/6/2008 ص1)، وبعد اجتماع المحافظة فى 18/6/2008 السابق الإشارة إليه، شكل المحافظ لجنة لإزالة ما رأته الأجهزة من تعديات للدير على أرض لم يعترف له بعد بحيازتها وملكيتها، فذكر الأنبا ديمتريوس اسقف ملوى بأن البطريرك اصدر قرارا من أمريكا «بوقف تعامل الكنيسة ومطرانية ملوى مع اللواء أحمد ضياء الدين محافظ المنيا» (صحيفة المصرى اليوم 2/6/2008 ص1) وهكذا يرفض المواطن التعامل مع ممثل سلطة الدولة، بدلا من ان يلجأ إلى قضاء هذه الدولة فيما لا يرضيه من تصرفات المحافظ أو أى من الأجهزة الأخرى، وقد صاحب هذا التصريح اعتصام 75 من رهبان دير أبوفانا و60 من شباب القبط، ولما ترسمت حدود الدير ذكر الأنبا ديمتريوس انه يرفض التعامل مع المحافظ مع «عدم الاعتداد بقراراته» (المصرى اليوم 6/2008 ص1).
وبذات المنوال فى التعامل، يقرر البطريرك الموافقة من بعد على استئناف «مفاوضات أبوفانا» يذكر محامى المطرانية «كان الخروج بقرار بناء السور (للدير) وحماية الرهبان» (المصرى اليوم 13/8/2008 ص1) ثم «صعد رهبان دير أبوفانا بملوى محافظة المنيا موقفهم من مفاوضات التصالح وانهاء الأزمة، وذلك بعد يوم واحد من الإعلان عن إلغاء المؤتمر» (المصرى اليوم 16/8/2008 ص1)، وهكذا تتصل الكنيسة بأجهزة الدولة من خلال مؤتمر ومفاوضات، وقد جرى الاتصال بالبطريرك فى أمريكا لتقنين أرض الدير وبناء السور، وكانت المفاوضات وصلت إلى الإقرار بملكية الدير لما يزيد على خمسمائة فدان (المصرى اليوم 18 و19/8/2008 ص6 و3)، وجرى ما يسمى بوضع حدود الأرض لبناء السور على الدير بما يشمل المبانى والآثار والمزرعة (المرجع السابق 20/8/2008 ص3، والدستور 21/8/2008 ص14)، وانتهى الأمر بحصول الدير على 552 فدانا وموافقة المحافظ وتسليم الأعراب والبدء فى بناء السور.
ثم ظهرت بوادر ما كانت تسميه الصحف «أزمة أبوفانا» حول بناء السور، وقد كان ثمة سور من الحديد والسلك الشائك حول الدير وبعض أرضه، فأرادت المطرانية ان تستبدل به سورا حجريا يشمل الدير والأرض الزراعية، وأرسلت بذلك خطابا للمحافظة فى 4/7/2008، فلما تحددت الأرض رأت المحافظة ان يكون السور الحجرى الذى تطالب به المطرانية بارتفاع متر ونصف المتر، ولكن المطرانية اصرت على ان يكون ارتفاع السور أربعة أمتار (المصرى اليوم 1/9/2008 ص1).
وقد ذكر الأستاذ عيد لبيب، أحد رجال الأعمال وأحد المفاوضين فى هذه الفترة من الجانب القبطى وكان همزة وصل بين البطريرك فى مشفاه فى أمريكا وبين المفاوضين فى مصر، ذكر ما معناه انه كان يحرص على بناء السور على حسابه الشخصى ثم عدل عن ذلك وقال: «كنت فاكر السور يتكلف 200 أو 300 ألف فقط، لكن علمت انه سيكون بطول 12 كيلومترا وارتفاع 4 أمتار وعرض 50 سنتيمترا، وهو ما يكلف أكثر من 10 ملايين، ولو دفعت النفقات سأصبح فقيرا».
(صحيفة صوت الأمة 8/9/2008 ص2). من الواضح ان سورا بهذا الارتفاع فى منطقة صحراوية لا تجاورها مبان سكنية عالية أو منخفضة، لا يمنع التسلق فقط ولكنه يمنع الرؤية أيضا، وهو يشمل خمسمائة وخمسين فدانا خارج الزمام، ولم تجر العادة ان تحاط الأرض الزراعية بأسوار حجرية. ولكنه نوع من «الإفراط فى الحرص على الخصوصية»، نسميه كذلك متبعين طريقة أحمد لطفى السيد إمام مؤتمر سنة 1910 من وصفه التشدد القبطى فى مواجهة الجماعة الوطنية بأنه «إفراط فى التضامن» وكلا التعبيرين يفيد العزلة.
ثم يجىء الحديث فى اطار النظر القانونى، فنحن نعرف ان الدير يعتبر شخصا اعتباريا فى المفهوم القانونى، وهو تابع للبطريركية والكنيسة، وهى شخص اعتبارى وليس شخصا آدميا، والشخص الاعتبارى له ممثل قانونى وفقا لنظام تأسيسه يعبر عنه ويتصرف باسمه، وليس البطريرك ولا المطارنة ولا الرهبان ما يعتبرون به أشخاصاً يمارسون التصرفات فى الكنيسة وهيئاتها بوصفهم أصلاء عن أنفسهم وانما هم يمثلون الكنيسة أو إحدى هيئاتها، والشخص الاعتبارى بالمنطق القانونى يمارس تصرفاته القانونية فى اطار الغرض الذى أنشئ من أجله، وتنحسر شخصيته القانونية عن أى تصرف أو ممارسة أى حق أو التزام يكون بعيدا عن الغرض الذى انشئ من أجله، والكنيسة بهذا الوصف الاعتبارى للشخصية القانونية، يكون لها سائر التصرفات وتلقى الحقوق فى حدود الغرض العبادى والعقائدى والتعليمى والدعوى الذى تقوم عليه شخصيتها الاعتبارية، والقول إنه يجوز لها ان تملك أرضا زراعية كالقول إنه يجوز للأزهر أن يمتلك أرضا زراعية أو يقيم مصنعا للأسمنت، وكالقول إنه يجوز لوزارة الخارجية أن تمارس أعمال الاستثمار العقارى، أو أن شركة المحلة للغزل والنسيج تعمل فى نشاط المناجم والمحاجر.
(8)
أتوجه بهذا الحديث إلى من يقرؤه من جمهور المصريين، المسلمين والأقباط، وأضعه فى إطار الجماعة الوطنية الكافلة للمزج بين المصريين كافة، وأنا عندما أضع الأمر فى إطار الموقف من الدولة، إنما أضعه بحسبان أنها هى المؤسسة أو الهيئة الممثلة والمعبرة عن هذه الجماعة والموكول إليها إدارة شئونها، والدولة ليست رئيسها ولا فردا فيها، إنما هى كما ذكرت فى الصفحات السابقة هيئات وتشكيلات وهى تتكون مما يمكن أن نعتبره عينة شائعة فى المصريين، وأن أى مشكل يتعلق بالتكوين العضوى لها من المصريين جميعا، مسلمين وأقباطا وغيرهم، لابد أن يحل باستقامة ونزاهة من أجل المساواة التامة بين المصريين جميعا، ولن يحل أبدا بمعزل عن التعامل معه، وإن كان ثمة نقص فلنعمل على إكماله، وإن كان ثمة قصور فلنعمل على تفاديه، وإن كان ثمة فساد فلنعمل على إصلاحه، ولكن لا ننعزل عنه، ولا أقصد بذلك أشخاصا ولا نظاما سياسيا ولكن أقصد هيئاته ومؤسساته وأجهزته العضوية، بل لنعمل على إنقاذ هذه الهيئات والمؤسسات والتكوينات العضوية من براثن السيطرات الفردية والنظم غير الصالحة، ولا نوحد بينهم لأن أجهزة إدارة الدولة المصرية التى أقصدها هنا بهيئاتها الفنية وقوانينها السياسية ونظامها القضائى وخبراتها الفنية المتخصصة وشتى مجالات إدارة الشأن العام، إنها نتيجة جهود بناء مؤسسى وثقافى تراكمى عمره قرنان من الزمان.
إن تصريحات المسئولين عن الكنيسة القبطية بمصر فى الآونة الأخيرة، والتصريح بعدم الخضوع للقوانين وللقضاء المصرى إلا ما كان موافقا لما تراه الكنيسة رأى المسيحية فى كل حالة، إن من شأن ذلك على مدى زمن ما إن يخرج جماعة من المصريين من مجال الجماعة الوطنية العامة، كما أن الاستشهاد فى هذه التصريحات الانعزالية بفقه الشريعة الإسلامية، إن ذلك من شأنه أن يعيد نظام الملة إلى سابق عهده، وهو يخرج عن مفهوم المواطنة الذى نرفعه عبر أجيال مضت وتجىء ونقيمه على أسس نظرية وشرعية يقوم بها الاندماج الحياتى بين المصريين جميعا. لقد بذلنا الجهود ليتسع الفقه الإسلامى لاستيعاب مفهوم الجماعة الوطنية بالمساواة الكاملة بين مكوناتها، فإذا جاء اليوم فى تصريحات هؤلاء المسئولين ما يعيد نظام الملة، فعلينا أن نوضح للجميع أن ليس هذا فى صالحهم وإذا كانت الكنيسة القبطية، كما عبر عن ذلك بعض مسئوليها، تشتكى من نشاط بعثات التبشير الأمريكى بين اتباع الأرثوذكسية المصرية، فعليهم أن يدركوا من ذلك أن السياسة الأمريكية، إن بدا فيها ما يؤيد موقف الانعزال القبطى فى مصر، فهى إنما تريد من ذلك الأثر المفكك للجماعة الوطنية وليس محض الصالح القبطى، لأنهم بطريق آخر يعملون على خلخلة التماسك الأرثوذكسى القبطى بالتبشير بين أبنائه وليس هذا الموقف جديدا. وإن الرجوع إلى نشاط البعثات الأمريكية فى مصر منذ منتصف القرن التاسع عشر شاهد على ذلك (يراجع كتابى (عن المسلمين والأقباط فى إطار الجماعة الوطنية)، وإن أمن قبط مصر هو بين ذويهم فى مصر..
ألا هل بلغت اللهم فاشهد والحمد لله