فى اليوم الأول من المرحلة الأولى للانتخابات البرلمانية، تبدت الصدمة شديدة على كل من شجع على تبسيط السياسة واختزالها فى الاصطفاف وراء السلطة.
السبب فى الصدمة كان الانخفاض فى معدل المشاركة فى التصويت إلى مستوى غير مسبوق، سواء فيما قبل يناير أو بعده وبعد يونيو. انخفاض المشاركة والصدمة التى أحدثها كشفا عن أزمة تعتمل فى النظام السياسى فى وقت كان المنتظر أن تكتمل فيه ملامحه.
للمراقب أن يندهش من هذا الشعور بالصدمة. أليس المفترض أن تؤدى السياسات إلى نتائج؟ إن عزوف المواطنين عن ممارسة حقهم فى الانتخاب ما هو إلا نتيجة للسياسة المتبعة بشأن العملية السياسية، من جانب، وبشأن النظام الانتخابى، من جانب آخر. المقصود بالسياسة هو مجموع الاجراءات والتدابير المتخذة بغية تحقيق هدف محدد مسبقا. أما العملية السياسية فهى تقابل الأفكار والاتجاهات والتنظيمات والتفاعل بينها، حول إنتاج القيم المادية والمعنوية وتوزيعها، ثم التوفيق أو الفصل فيما بين هذه الأفكار والاتجاهات والتنظيمات.
الإجراءات والتدابير المتخذة نجحت نجاحا باهرا فى تصوير العملية السياسية على أنها اصطفاف وراء السلطة. لقد نال من صاغوا الإجراءات والتدابير، وكذلك مشجعوهم، ما أرادوه وهو إقناع المواطنين بأن السياسة فى عرفهم هى اصطفاف وراء السلطة. فلما اقتنع المواطنون بأن هذا مفهوم السياسة الذى تعتنقه السلطة عزفوا عن المشاركة فى العملية السياسية عموما وعن التصويت فى الانتخابات خصوصا. يبدو أنه غاب عمن صاغوا الإجراءات والتدابير وعمن احتفلوا بها أنه بعد النتائج توجد للسياسات آثار. العزوف عن التصويت هو من آثار نجاح الاجراءات والتدابير. هذا مما يذكِر بالنكتة الشهيرة القائلة بإن «العملية نجحت ولكن المريض مات»!
•••
الإجراءات والتدابير اتخذت شكل القوانين، وصحبتها حملات الترويج لفكر وحيد أوحد ومهاجمة أى رأى مخالف والتشهير بأصحابه، والاستهزاء المستمر بالأحزاب السياسية والتهجم على تلك منها التى تبدى اختلافا حقيقيا مع توجهات السلطة. كل ما سبق لم يكن فى واقع الأمر إلا تشويها ضمنيا ومقصودا لفكرة الاختلاف والتعددية التنظيمية. الاختلاف هو صلب السياسة وهو يثريها ويؤدى بها إلى النتائج والآثار المرجوة. بدون الاختلاف والتعدد لا تصبح العملية السياسية سياسية! ماذا كانت تنتظر السلطة؟ هل كانت تتوقع أن يشارك المواطنون فى عملية غير سياسية؟ المواطنون غير معنيين بمثل هذه العمليات.
من قانون التظاهر إلى قانون مكافحة الإرهاب مرورا بقانون الانتخابات كانت الأهداف واضحة وهى إبعاد الشباب، والشيوخ أيضا، من أصحاب الآراء مغايرة عن العملية السياسية، فضلا عن الحيلولة دون أن تنشأ أى قوة معارضة منظمة فى البرلمان أو خارجه. ولم يتوقف الأمر عند ذلك؛ شاع فى الشهرين الأخيرين الهجوم على الدستور بدعوى غير صحيحة وهى أنه لا يكفل لرئيس الجمهورية صلاحيات تمكنه من تحقيق المصلحة العامة، ثم باستنكار أن يكون للبرلمان حق البدء فى عملية تنتهى بعزل الشعب لرئيس الجمهورية. وتبارى المرشحون خاصة من السلطة ذوى الحظ الأوفر فى الفوز بمقاعد البرلمان، تباروا فى تأييد تعديل الدستور لإطلاق صلاحيات رئيس الجمهورية، ورفع القيود عن ممارسته لسلطاته، وإلغاء أى رقابة على هذه الممارسة. نفس هؤلاء المرشحين لم يتوانوا عن التنويه بأنهم سيوافقون بالجملة على مئات القوانين التى أصدرها كل من رئيس الجمهورية المؤقت ورئيس الجمهورية الدائم فى غيبة البرلمان، كما أنهم بتكرارهم أنهم سييسرون لرئيس الجمهورية تنفيذ مشروعه للبلاد، كانوا يعلنون ضمنا أنهم سيسنون التشريعات التى ترغب فيها السلطة التنفيذية. بعبارة أخرى، المرشحون المتوقع وصولهم إلى مقاعد البرلمان أعلنوا عن نيتهم التنازل عن استقلالهم بممارسة كل من الوظيفة الرقابية والتشريعية للبرلمان حتى من قبل الانتخابات. فماذا كان يتوقع القائمون على السلطة السياسية فى البلاد؟ أن يشارك المواطنون فى انتخاب برلمان لا يمارس وظائفه؟!
الأزمة هى أن يكف النظام السياسى عن أداء وظائفه. إن لم يؤد البرلمان وظيفتيه الرقابية والتشريعية، فمن هو الذى سيؤديهما. واجب الإسراع بتبديد وهم أن تستطيع الأجهزة المسماة بالرقابية ممارسة وظيفة الرقابة السياسية الضرورية فى أى نظام سياسى سليم التكوين وقابل للاستدامة. أما ما يؤخذ على الدستور من صلاحيات يمنحها للبرلمان فإن منطقه عجيب. ما هو المشين فى أن يستطيع البرلمان، بموافقة ثلثى ممثلى الشعب، بدء عملية تنتهى بعزل رئيس الجمهورية إن كان الرئيس المعنى قد أخل بأداء واجباته بمقتضى الدستور؟ أليس إخلال رئيس الجمهورية بأداء واجباته بعد عشر أو عشرين أو خمسين سنة احتمالا لا يمكن استبعاده؟ أليس فى هذه الصلاحية الممنوحة للبرلمان حماية للشعب؟ هذه الصلاحية ليست بدعة وهى موجودة فى أنظمة دستورية أخرى، فضلا عن أن ظرفها قد عرض لمصر منذ سنوات قليلة لا تتعدى عدد أصابع اليد.
•••
انخفاض المشاركة فى الجولة الأولى للانتخابات، كشف عن الأزمة ولكن لهذه الأزمة أعراضا أخرى سابقة على الانتخابات ومواكبة لها ولاحقة عليها. أسباب الأعراض كلها تكمن فى الفكر الوحيد الأوحد، وفى إنكار شرعية الاختلاف، وفى عملية اتخاذ القرار المترتبة عليهما. مسألة الانخفاض السريع فى احتياطى العملات الأجنبية، وعدم توفر هذه العملات للتجار والصناع، والتخفيض المستمر لسعر صرف الجنيه المصرى، وأخيرا «استقالة» محافظ البنك المركزى قبل شهر واحد فقط من انتهاء ولايته، من بين هذه الأعراض. ما هى أسباب الانخفاض السريع فى احتياطى العملات الأجنبية؟ لا يوجد نقاش عام بشأن ذلك، وكيف يمكن أن يوجد هذا النقاش إن كان أى افتراض أو رواية، غير الحكومى منهما، مرفوض الإدلاء بهما؟ الصحافة نشرت غداة «استقالة» محافظ البنك المركزى أن «الاستقالة» ربما رجعت إلى تصريحه بأن الإنفاق على حفر الفرع الجديد لقناة السويس من أسباب انخفاض احتياطى العملات الأجنبية. إن كان هذا صحيحا فمعناه أنه طلب من محافظ البنك المركزى تقديم استقالته أو أنه دفع إليها، وأنه إدراكا منه للتوزيع الفعلى للقوة فى النظام السياسى لم يتمسك باستقلاله فى أداء وظائفه، وأن الاستقالة هى فى حقيقة الأمر تدخل من السلطة التنفيذية فى شئون إدارة السياسة النقدية. على أن ما لا يقل أهمية عن ذلك، إن لم يزد، هو أن الاستقالة وما واكبها من تفسيرات لها كشفت عن النتائج الوخيمة لعملية اتخاذ القرار التى تستند إلى التقدير الواحد غير المستفيد من تقابل الآراء واختلافها ولا المستند إلى أى دراسات يعتد بها. قس على هذا قرارى الخوض فى بناء «عاصمة جديدة»، وزراعة مليون قفزت بقدرة قادر فى خلال أشهر قليلة إلى مليون ونصف ثم إلى أربعة ملايين فدان.
تغيير الحكومة بلا منطق للتغيير ولا هدف سياسى يبتغى من ورائه من بين أعراض أزمة النظام السياسى أيضا. لا يمكن لأى مواطن مهتم بالشأن العام أن يجد اختلافا بين سياسات كل من الحكومة السابقة والحالية. على أى حال، القائمون على السياسات الدفاعية والخارجية والأمنية والمالية وعلى التخطيط هم أنفسهم، ولا يتصور أحد أن تغيير الحكومة كان بسبب السياسات التعليمية أو الزراعية أو السكانية مثلا. الفارق الوحيد هو أن رئيس وزراء لا يكل عن الحركة وعن الظهور فى وسائط الاتصال استبدل به رئيس وزراء صامت تفتش عنه الأنظار لكى تراه. المسألة هى أنه إن لم تكن الحكومة السابقة قد استطاعت التصدى لمشكلات البلاد والاضطلاع بكفاءة بوظيفة رسم السياسات وتنفيذها، فما الذى يدعو إلى الاعتقاد بأن الحالية ستستطيع؟ وعدم الاستطاعة الممتد عرض خطير آخر لأزمة النظام السياسى.
•••
إن لم يفهم المواطنون السبب فى اتخاذ القرارات السياسية ولا عرفوا كيف تصنع هذه القرارات، ثم إن هم أبعدوا عمدا عن إمكانية التأثير فى العملية السياسية، وأخيرا إن هم تابعوا كيف يعلن المرشحون للمشاركة فى اتخاذ القرارات من على مقاعد البرلمان عن عزوفهم عن ممارسة حقوقهم التى أوكلها لهم الدستور نيابة عن الشعب، فكيف يحرص هؤلاء المواطنون على ممارسة حقوقهم الانتخابية؟
أزمة النظام السياسى من صنع السلطة وخصوم التعددية.
أما الشعب فهو رشيد. ليت السلطة تتواضع وتكون برشده.