مَنْ المسئول عن تأخر تحقق حلم الثورات العربية فى العيش الكريم والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية؟ مَنْ هو المسئول عن انهيار الأمن وتدهور أحوال الاقتصاد وغياب أى أفق للتطور السياسى السلمى فى كل بلدان الثورات العربية؟. طبعا من السهل أن نسارع بتحميل هذه المسئولية على عاتق الحكومات أو صانعى القرار عموما. ولكن النظرة المنصفة للأمور تدعونا إلى أن نعترف بأن المواطنين يتحملون بدورهم قدرا غير ضئيل من المسئولية، وأن الصعوبات التى تواجهها حكومات ما بعد الثورات العربية يعود قدر لا بأس بها منها إلى سلوك المواطنين المحكومين أنفسهم. وليس من المبالغة القول إن الثورات العربية قد أظهرت بعض أجمل الصفات فى هؤلاء المواطنين الذين ثاروا على أنظمة مستبدة وفاسدة، ولكن هذه الثورات قد أظهرت كذلك بعضا من أسوأ هذه الصفات. وعلى من يخاطبون الرأى العام أن يتحلوا بالشجاعة للمجاهرة بذلك، وبطبيعة الحال دون أن يعفوا أنفسهم من قسطهم من هذه المسئولية خصوصا فى استمرار سمات سلبية للثقافة السياسية العربية بعد هذه الثورات.
دعنا نبدأ بالصفات الجميلة التى كشفت عنها هذه الثورات وكانت محل إعجاب العالم كله. هناك أولا هذه الدرجة غير المسبوقة من الاهتمام بالشأن العام ومتابعة أحوال السياسة وتفاصيل النقاش حول بعض القضايا الدستورية والقانونية. ويصل الأمر إلى أن يتجادل بعض المواطنين البسطاء حول مواد الدستور المقترح فى مصر أو تونس، ويكشفون عن إحاطة بأرقام المواد المختلف عليها، ولا يخطئون فى تحديد مواقف القوى السياسية المختلفة من القضايا المتنازع عليها. أضف إلى ذلك هذا الموقف الجديد من الحكومات. اختفى الخوف المتوارث من قرون طويلة من الحكومة المستبدة وأجهزة الشرطة القمعية التى تستند إليها. يجاهر المواطنون برأيهم فى سياسات حكوماتهم ويعترضون على البعض منها ولا يخشون فى ذلك أن تسجل عليهم أجهزة الشرطة العلنية أو السرية ما يقولونه، بل هم لا يترددون فى الإعراب عن مطالبهم من هذه الحكومات أو ممثليها على الصعيد المحلى من خلال أعمال الاحتجاج الجماعى سواء بالمسيرات والمظاهرات أو بالتوقف عن العمل، بل وحين لا يجدى ذلك كله فى اجتذاب اهتمام المسئولين بمطالبهم، فهم لا يتورعون عن قطع الطرق وتعطيل المواصلات العامة بل وأحيانا احتجاز هؤلاء المسئولين فى مقار عملهم حتى يستجيبوا لمطالبهم. ويجب ألا نغفل فى هذا السياق أن الموجة الأولى من الثورات العربية التزمت بالسلمية وابتعدت عن العنف، وشهدت تماسكا وطنيا تجاوز كل الاختلافات الدينية والاجتماعية والنوعية وكانت تعبيرا راقيا عن وحدة وطنية حقيقية فى أبهى صورها.
لا يملك من شارك فى أحداث الثورة جنديا فى صفوفها إلا أن يشعر بغصة فى الحلق عند تذكر هذه المشاهد الرائعة للثورات العربية فى موجتها الأولى، ويتمنى لو استعاد المواطنون والمواطنات روح الشهور الثلاثة الأولى فى سنة 2011. ولكنه يعجب لما أثار القلق بعد ذلك. فى مقدمة دواعى القلق الاستهانة البالغة بحكم القانون خصوصا فى تفاصيله المتعلقة بالحياة اليومية. الأمثلة عديدة على ضرب القانون بعرض الحائط فى مصر فى البناء على الأراضى الزراعية، والبناء بدون رخصة وتعلية المبانى بما يتجاوز الارتفاعات المسموح بها وقيادة سيارات لا تحمل رخصة وفى احتلال لأرصفة ونهر الشوارع وحتى أرصفة الكبارى بالسيارات وبالمقاهى والمطاعم العشوائية مما لا يوجد له مثيل فى أى من بلاد العالم. لاحظ أيضا ولاحظى كذلك أن المستهترين بالقانون على هذا النحو هم ممن ينتمون إلى ما يعتبر بحكم مستويات التعليم والدخل ونوع العمل من أعضاء النخبة، ولكنها نخبة تضرب للمواطنين أسوأ الأمثلة فى موقفها من القانون. أضف إلى ذلك أيضا الأنشطة الإجرامية الصريحة من سرقة السيارات واختطاف مواطنين سعيا لفدية من أسرهم والتعدى على الملكية العامة والتى تصل إلى حد سرقة أجزاء دقيقة من الكبارى ومن أبراج الكهرباء.
كما أظهرت مواقف وأحداث كثيرة بعد الثورات العربية غياب روح العمل الجماعى بتقديم المصلحة الخاصة أيا كانت هذه المصلحة على المصلحة العامة. تشهد ذلك فى مطالب فئوية غير مبررة مثل الإصرار على تعيين أبناء العاملين فى إحدى المؤسسات فى نفس المؤسسة التى يعمل فيها أرباب أسرهم أو تعيين أبناء القرية أو الحى الذى توجد فيه هذه المؤسسة فيها أيا كانت مؤهلاتهم، كما تشهد ذلك فى خلافات الأحزاب السياسية، بل وظهر ذلك أيضا فى صفوف الشباب الذى قاد الثورات فى أيامها الأولى والذى عجز عن أن يواصل تماسكه فى عدد محدود من الحركات أو الكيانات السياسية، وهكذا تحولت المجموعات التى دعت إلى الثورة فى 25 يناير ولم يكن عددها يتجاوز بالكاد أصابع اليد الواحدة إلى أكثر من مائتى تحالف واتحاد بعد الثورة بأسابيع قليلة. ولا يوجد أى وجه للعجب أن معظمها قد اختفى. فقد كانت قوة هذه الحركات الأولى فى وحدتها وتمسكها بغاية تعلو على كل الاهتمامات الأنانية الفردية، وعندما انهارت وحدتها لم يعد لها وجود مؤثر. وكما تعمقت هذه الانقسامات داخل كل جماعة أو حزب مدفوعة بمصالح ضيقة، تعمقت أيضا داخل التحالفات السياسية الكبرى. داخل ما وصف بالمعسكر الإسلامى، كما ظهرت وسط ما يسمى بالقوى المدنية، وإن كانت الانقسامات أكثر خطرا على القوى المدنية لأنها لا تملك الامتداد العميق بين المواطنين وهو الذى نجحت فى تحقيقه الحركات الإسلامية.
وقد كان التعصب فى الرأى هو أحد أسباب هذه الانقسامات وتفضيل المصلحة الخاصة بالفريق أو الشلة أو الحزب على المصلحة العامة للحزب أو التحالف، ولكن التعصب امتد أيضا لبعض المواطنين على نحو لم تعرفه مصر من قبل على هذا النطاق الذى ظهر بعد الثورة. ولم يعد هذا التعصب مقصورا على فريق محدد من المواطنين ضد آخرين. ظهر التعصب صارخا لدى مسلمين ضد مسيحيين، ولدى مسلمين فى مواجهة بهائيين ولدى مسلمين فى مواجهة الشيعة، ودفع هذا التعصب إلى مهاجمة من لا ينتمون إلى نفس الدين أو المذهب، وإحراق دور عبادتهم، وطردهم من قراهم، وفى بعض الحالات قتلهم والتمثيل بأجسادهم.
وأخيرا لم تتطهر نفوس كثيرة فى مصر، وخصوصا بين بعض رجال السياسة والإعلام من ذلك المرض المصرى المقيت وهو نفاق الحاكم. مظاهر هذا المرض تكاد تفقأ العين فيما يرد على صفحات الجرائد، وفيما يتردد عبر التليفزيون وموجات الأثير. ولا يدرك بعض من أصابهم هذا المرض أن من ينافقونه قد يدرك كذبهم الصارخ، لأنهم نافقوا من سبقه إلى تصدر ساحة الحكم، ولكنهم عن ذلك لغافلين.
صحيح أن بعض هذه الأعراض مألوف فى مراحل التحول الثورى، بعد أن تسقط قيادات السلطة السابقة، وتنهار أجهزة أمنها، ويشعر المواطنون بالتحرر من القيود التى أطبقت عليهم لعقود أو ربما قرون. ومع ذلك لا مفر من الاعتراف بأن هذه الأعراض مع دقة التحديات التى تواجه دول الثورات العربية قد طالت كثيرا، وأنها تهدد المسيرة الصحيحة لهذه الثورات نحو الغايات النبيلة التى رفعت راياتها.